صادق جلال العظم
وسخافاته المتنطعة فى "ذهنية التحريم"
بقلم: إبراهيم عوض


أثناء رحلتى التأليفية الطويلة قُدِّر لى أن أكتشف أمرا غريبا هو أن سمعة كثير جدا من الأسماء اللامعة فى عالم الكتابة لا تقوم على أساس صلب من المعرفة والمنهجية. بل إن بعض هذه الأسماء لا تتمتع فى كثير من الأحيان بالأسلوب السليم، وهو الحد الأدنى من متطلبات الكتابة. لقد سمعت مثلا، وأنا فى السعودية، تهليلا عاليا للدكتور عبد الله الغذامى، لكن لما شرعت فى القراءة له والكتابة عنه تبين لى أنه تهليل هش متهافت يستند إلى البكش والهلس والإشادة به على الفاضى، فكانت ثمرة ذلك دراستين وضحت فيهما ضحالة إحاطة الرجل بالموضوعات التى ينتناولها، ولجوءه إلى إطلاق المزاعم الزائفة والتدليسات الجريئة التى لا تعرف حمرة الخجل والتعامل الهازل مع أشد القضايا جدية والتناقضات التى تجل عن الحصر وكثيرا ما تتتابع فى سطرين متتالين والثقة المتورمة بالذات رغم هزال الذات ونحافتها وضآلتها. وهاتان الدراستان موجودتان فى كتابى: "أدباء سعوديون" و"ست دراسات نسوية إسلامية". ووالله ثم والله لقد كنت فى دهشة باهظة طوال الوقت الذى كنت أقرأ فيه الغذامى أو الوقت الذى كان علىَّ أن أرد فيه على هذا الهراء. وما وجدته فى كتابات الغذامى وجدته على نحو أو على آخر فى كتابات إسماعيل أدهم وخليل عبد الكريم وسيد القمنى وأحمد صبحى منصور ومحمد أركون وهشام جعيط وصادق جلال العظم والمدعو: "عباس عبد النور"، وغيرهم كثيرون. ويمكن القارئ أن يرجع إلى كتابى الضخم: "أفكار مارقة"، ففيه من ذلك الكثير.
ولأن آخر من قرأت لهم من أولئك الكتاب هو صادق جلال العظم، الذى رغم كثرة ما قرأته عنه لم أكن قد اطلعت على أى شىء تقريبا من كتاباته إلا منذ ليلتين حين أخذتنى سلسلة من المصادفات إلى كتابه: "ذهنية التحريم"، فإنى أود التريث قليلا لدن البحث المنشور فيه عن رواية "آيات شيطانية"، إذ هو مثال على كل ما أخذته على أمثاله ممن سبق أن كتبت عنهم ممن أوردت أسماء بعضهم آنفا: فهو لا يحسن القراءة العلمية ولا يتنبه إلى سياق الأحداث أو لا يحاول أن يضعها فى الحسبان، ثم هو فوق ذلك يعاظل ويقلب الحقائق التى تخزق العيون محاولا أن يوهمنا أن السم الوحىّ عسلٌ شهىّ... إلخ. ولست ناويا أن أذكر كل شىء سخيف وجدته فى هذه الدراسة، وما أكثره، إذ كل ما فيها تقريبا سخيفٌ ومتهاوٍ، بل سأجتزئ بالقليل منها على ما يتحمله السياق فى الكتاب الذى بين يدى القارئ: فهو مثلا يدافع عن رواية رشدى زاعما أن رشدى لم يقصد بها شرا، وأخذ يقلب الحقائق واحدة وراء الأخرى ويلصق العيوب بمن امتشق قلمه للرد على كفريات رشدى حتى لقد توقعت أن يطالبنا جلال العظم بأن نصلى ونسلم على رشدى بوصفه النبى الأول فى الخطة الخمسية الإلهية الجديدة بعدما انقضت الخطة الخمسية الفائتة بأنبيائها الذين كان خاتمهم محمدا عليه الصلاة والسلام. والعجيب أنه، بعد هذا كله وبعد أن صدغ دماغنا بمحاولته الفاشلة تلميع صورة رشدى والزعم بأن روايته لا تسىء إلى الإسلام فى شىء، يستدير من الناحية الأخرى فيقول إنها حلقة فى سلسلة أعمال الأدب التى تتخذ من السَّخَر بالمقدس والتهكم عليه موضوعا لها. إذن ففيم دفاعه عنها على مدى عشرات الصفحات السابقة واتهامه لمنتقديها بأنهم لا يفهمون شيئا، بل بأنهم لم يقرأوا الرواية كما قرأها هو؟
ومثالا على ما أقول أشير إلى أنه يدافع عن تسمية الرواية سيدنا محمدا عليه الصلاة والسلام بـ"ماهوند"، ولكن دون أن يشير إلى معنى هذه الكلمة، التى تعنى الشيطان أو الوحش أو الصنم أو النبى الكذاب أو الإله الزائف حسبما جاء فى "قاموس أكسفورد" التاريخى ومادة "Mahound" فى موسوعة "ويكبيديا"مثلا، ولها ارتباط بـ"الكلب: hound" كما يشير معجم "Dictionary.com":
“Archaic. Muhammad. Origin: 1350–1400; Middle English Mahun, Mahum < Old French, short for Mahomet; -d by association with hound1”.
إذ نراه يكتفى بالقول بأنه "اسم أوربى قروسطى قَدْحِىّ للنبى محمد"، ويتبنى سفسطة رشدى بأنه "كثيرا ما يحدث أن يطلق عدو قوى على عدوه الأضعف اسما قدحيا أو يصفه بصفة تحقيرية خسيسة، كما أنه كثيرا ما يحدث أن يتبنى الطرف الضعف فى غمرة الصراع مع الأقوى هذا الاسم أو هذا الوصف عامدا متعمدا على سبيل تأكيد الذات. أى بدلا من أن يحط الاسم أو الوصف التحقيرى من قدر المسمَّى به يعمل المسمَّى على رفع شأن الاسم (والوصف) وتحويله إلى ميزة عالية وخصلة حميدة، وإلى موقع قوة جديد". ثم يمضى فيقدم بعض الأمثلة على ذلك قائلا إنه "حين ينعت المستعمر الأوربى الأبيض الإنسان الإفريقى الأسود بالسواد يرد الإفريقى قائلا متمردا: نعم، أنا أسود، وفخور بالسواد لأن السواد جميل ورائع... إلخ. وحين يستخدم المحتل الإسرائيلى عبارة "عربى" كمرادف لكل ما هو منحط وخسيس ومشوه يرد العربى قائلا ثائرا: سَجِّلْ! أناعربى". بهذا المعنى وبهذه الروح تبنى النبى عامدا متعمدا، فى رواية رشدى، اسم ماهوند، الذى أطلقه عليه الأعداء، فتحول الوصف بذلك إلى شىء آخر تماما، أى إلى عكس ما كان مقصودا به من إهانة وتحقير من جانب الخصوم والأعداء". وهذا نص ما كتبه رشدى فى الرواية عن هذا الموضوع:
“Pronounced correctly, it means he-for-whom-thanks-should-be-given, but he won't answer to that here; nor, though he's well aware of what they call him, to his nickname in Jahilia down below -- _he-who-goes-up-and-down-old-Coney_. Here he is neither Mahomet nor MocHammered; has adopted, instead, the demon-tag the farangis hung around his neck. To turn insults into strengths, whigs, tories, Blacks all chose to wear with pride the names they were given in scorn; likewise, our mountain-climbing, prophetmotivated solitary is to be the medieval baby--frightener, the Devil's synonym: Mahound. That's him”.
وواضح تمام الوضوح ما فى هذا الدفاع من هزل وهزال وسفسطة لا تجوز على عقل عاقل: فأولا هل أطلق أحد من أعداء الرسول المكيين الذين تدور حولهم الرواية اسم "ماهوند" أو معناه على الرسول؟ طبعا لا. ثم هل كانت الماهوندية جزءا من ماهية الرسول وشخصيته مثلما أن العروبة جزء من ماهية الفلسطينى، والسواد جزء من شخصية الإفريقى مثلا؟ طبعا لا أيضا. فلم إذن يستجلبها رشدى لروايته دون أن يكون لها موطئ قدم فيها؟ إن أحدا لم يكن يسمى النبى أو يناديه بـ"ماهوند" حتى نقول إنه قد قبل هذه التسمية ثم قلبها من التحقير إلى المدح والافتخار. وقد قال رشدى إن المحقَّر يعمل على تغيير مجرى الأمور بحيث يصير موضوع التحقير مبعث فخار له، فأين نجد النبى أو أحدا من أصحابه أو أتباعه يوما من الأيام قد عمل هذا؟ فمثلا كانت قبيلة "أنف الناقة" تستعرّ من ذلك اللقب حتى استطاع الحطيئة الشاعر أن يحول تلك المذمة محمدة، فقال:
قومٌ هم الأنف، والأذناب غيرهمو ومن يُسَوِّى بأنف الناقة الذّنَبَا؟
فاستدار الأمر عقبئذ بزاوية قدرها 360 درجة، ومن يومذاك وقبيلة "أنف الناقة" تتفاخر بلقبها بعد أن غبر عليها زمن كانت تَدَّارَؤُه وتقول إنهم من بنى قريع. يقول عبد القاهر الجرجانى فى"أسرار البلاغة فى علم البيان": "وقد عرفتَ ما كان من أمر القبيلة الذين كانوا يعيَّرون بـ"أَنْف الناقة" حتى قال الحطيئة:
قومٌ هُمُ الأَنْفُ، والأذْنَابُ غَيْرُهُمو ومَن يُسَوّي بأَنْف النَّاقة الذَّنَبا؟
فنَفَى العار، وصحّح الافتخار، وجعل ما كان نَقْصًا وشَيْنًا، فضلاً وزَيْنًا، وما كان لقبًا ونَبْزًا يسوءُ السمع، شَرَفًا وعزًّا يرفع الطَّرْف، وما ذاك إلا بحسن الانتزاع، ولُطْف القريحة الصَّنَاع، والذِّهن الناقد في دقائق الإحسان والإبداع، كما كساهم الجمالَ من حيث كانوا عُرُّوا منه، وأثبتهم في نِصَاب الفضل من حيث نُفُوا عنه. فَلرُبَّ أنفٍ سَلِيمٍ قد وَضَع الشِّعْرُ عليه حَدَّه فجَدَعَه، واسمٍ رفيعٍ قَلَب معناه حتى حطّ به صاحبَه ووَضَعه".
وبالمثل كان وضع شخص ما على الصَّْليب بغية قتله أو تعذيبه مبعث عار وشنار للمصلوب وقومه إلى أن رثى أحد الشعراء شخصا مصلوبا بقوله:
عُلُوٌّ فى الحياة وفى المماتِ بحقٍّ أنت إحدى المعجزاتِ
فعندئذ تحولت الدفة، وملأ صَلْبُ ذلك الرجل قومَه شعورا بأن صاحبهم رجل عظيم عالى الهمة والقدر فى حياته وفى مماته. جاء فى "أسرار البلاغة فى علم البيان": "وقد عُلِم أنْ ليس في الدنيا مُثْلَة أخزَى وأشنعُ، ونكالٌ أبلغ وأفظع، ومَنْظرٌ أحق بأن يملأ النفوس إنكارا، ويُزْعج القلوبَ استفظاعًا له واستنكارًا، ويُغْري الألسنةَ بالاستعاذة من سُوء القضاء، ودَرَكِ الشقاء، من أن يُصلَب المقتول ويشبَّح في الجِذع، ثم قَدْ تَرَى مَرثيةَ أبي الحسن الأنباري لابن بَقِيّة حين صُلِب وما صَنَع فيها من السِّحْر حتى قَلَبَ جُملةَ ما يُسْتَنْكَر من أحوال المصلوب إلى خِلافها، وتأَوّلَ فيها تأويلاتٍ أراك فيها وبها ما تقضي منْه العجَب:
عُلوٌّ في الحياةِ وفي المماتِ بحَقٍّ أَنت إحدى المعجزاتِ
كأنّ الناسَ حَوْلَك حينَ قاموا وُفودُ نَدَاكَ أيّامَ الصِّلاتِ
كأنك قائمٌ فيهم خطيبًا وكلُّهُمُو قيامٌ للصَّلاةِ
مددتَ يَدَيْك نحوهُمُ احتفاءً كمَدِّهما إليهم بِالهِبَاتِ
ولما ضاق بطنُ الأرض عن أنْ يَضُمَّ عُلاكَ من بعد المماتِ
أصَاروا الجوَّ قبرَك واستَنَابُوا عن الأكفانِ ثوبَ السَّافياتِ
... إلخ".
لقد كان المشركون من قوم الرسول عليه الصلاة والسلام يفترون عليه تارة أنه كاهن، وتارة أنه شاعر، وتارة أنه كاذب، وتارة أنه يفرق بين المرء وزوجه، ولم يقل أحد قط إنه "ماهوند"، أستغفر الله. بل الماهوند هو من يطلق عليه هذا اللفظ الحقير مثله، أو يسوغه ويحاول الضحك على ذقون القراء. وبالمناسبة لم نسمع يوجه شيئا من هذه الألفاظ بحيث تصبح مبعثا للحمد بدلا من الذم كأن يقول مثلا: نعم أنا شاعر أشعر ببؤس الفقراء واليتامى والمساكين وشقائهم وأبحث لهم عن حلول تصيّرهم بشرا سعداء. أو نعم، أنا كاهن أكهن لكم المستقبل وأعرفكم بما ينتظركم فى غيب المستقبل من عز ومجد وازدهار إذا اتبعتم ما جئتكم به لتفوزوا وتكون أيامكم القادمة خيرا عميما وبركة شاملة. بل رفضها القرآن تماما، ورد عليها وفندها وبين سخفها وكذب من يدعيها عليه. أى أن السفسطة التى يسفسط بها رشدى والعظم ليس لها محل إلا فى الدماغ الخرب والذوق الفاسد والضمير المنحط. وحتى حين كان يقول البعض عنه: "مُذَمَّم" لم يحاول أن ينتحل هذا اللفظ ثم يحوله من معناه السىء إلى معنى جيد قط، بل قال إنه "محمد" لا "مذمم". فكَوْنُ رشدى يستعير اسم "ماهوند" من أوربا العصور الوسطى ليضعه على لسان القرشيين، الذين لم يفكروا يوما فى وصف محمد به، إنما يدل على قلة أدبه وبذاءة عقله ولسانه، وإن حاول أن يضحك على قرائه من المسلمين بالتوجيه المهترئ الذى وجهه به وانبرى العظم كاره الإسلام وراميه بأبشع التهم ومصوره بأنه خرافات وأساطير وأفكار متخلفة ينبغى استبدالها بالثقافة الحديثة الأوربية ليبرر له ما سفسط به. وصدق من قال: الطيور على أشكالها تقع.
وانطلاقا مما قلناه عن تطاول بعض الكفار على رسول الله فى مكة ننتقل إلى ما قاله جلال صادق العظم عن ذلك اللقب المسىء إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مثال آخر على الهراء الذى يهرف به عن سفسطة سمجة: "على صعيد آخر توجد فى التراث روايات تشير، على ما يبدو، إلى أن محمدا لم يكن اسم النبى الأصلى أو الأول، بل ظهر الاسم فى سياق الإهانات التى كانت توجهها إليه قريش مسمية إياه: "مذمما". وهناك حديث رفعه البخارى إلى أبى هريرة عن النبى مباشرة يقول: "ياعباد الله، انظروا كيفَ يصرفُ اللَّهُ عنِّي شَتمَ قُرَيْشٍ ولعنَهُم. إنَّهم يشتمونَ مُذمَّمًا، ويلعنونَ مُذمَّمًا، وأنا محمَّدٌ". أى "سَجِّلْ! أنا محمد". وتذكر رواية أخرى أن عبد الله بن الزبير سمى محمدا ابن الحنفية: "مذمما" لرفض الأخير مبايعته سنة 66هـ".
والآن بالله عليكم، أيها العقلاء، هل يمكن أن يخطر فى أى ذهن سليم أن هذا الرد من سيدنا رسول الله معناه أنه لم يكن يسمَّى قبله: محمدا، بل اخترع هذا الاسم فى التو واللحظة ردا على المشركين؟ المنطق يقول إنهم قد أرادوا الإساءة إليه بقلب اسمه من "مُحَمَّد" إلى "مُذَمَّم" الذى هو على وزنه عروضا، وعلى عكسه معنى مثلما قلب المسلمون اسم "أبو الحكم" إلى "أبو جهل" مثلا. وأنت، يا عظم، تقول إن الضعفاء يتخذون المعايب التى يرميهم بهم الأقوياء أسماء لهم ويقلبونها إلى معنى المدح والافتخار. فما الذى جعلك هنا تقول إن الرسول قد نفر من تسمية المشركين له بـ"مذمم"؟ ألم يكن المفروض أن يقبل تلك التسمية المسيئة ويقلب معناها إلى شىء طيب؟ واضح أنك من الذين يحلونه عاما، ويحرمونه عاما، ولست من الكتاب النزهاء المستقيمى الضمير. ثم هل يمكن أن يكون للنبى اسم آخر قبل محمد هو اسمه الأصلى ولا يذكر ذلك أحد من أعدائه المشركين واليهود والمنافقين والنصارى ومسيلمة وأمثاله وتابعيهم أو كتاب الرومان؟ لقد أوردت لنا الأحاديث عددا من أسماء الصحابة والصحابيات التى غيرها النبى لسبب أو لآخر، ولم يحاول أحد أن يكتم هذه الأخبار، فلم يعتِّمون يا ترى على حادثة تغيير النبى اسمه لو كان له اسم سابق؟ وما هو هذا الاسم يا ترى؟
لقد جهد جلال العظم فى الدفاع عن رشدى ورد الاتهام الذى يرشقه به من كتبوا عن كتابه: "الآيات الشيطانية" من أنه إنما يردد مقولات المستشرقين ضد الإسلام ونبيه مثلما فعل فى هذه النقطة هشام جعيط، الذى زعم أن اسم النبى الحقيقى هو قُثَم، ثم قام هو بتغييره فى المرحلة المدنية إلى محمد حتى يطابق ما فى الكتاب المقدس من نبوءات عن رسول اسمه محمد، ناسيا أن ذلك لو كان حدث لحولها أعداء النبى من أهل الكتاب فضيحة تقضى عليه وعلى دينه قضاء مبرما، وهو ما رددت عليه فى الفصلين الخاصين بهشام جعيط من كتابى: "أفكار مارقة". ومع ما أجهد جلال العظم به نفسه فى الدفاع عن سلمان رشدى فها هو هذا يردد آراء بعض المستشرقين الشديدى التعصب من أن اسم النبى الأصلى لم يكن محمدا.
ويمضى العظم مستشهدا ببيت لعلى بن أبى طالب هو البيت الأخير من البيتين التاليين:
لَقَد أَكرَمَ اللَهُ النَبِيَّ مُحَمَّدا فَأَكرَمُ خَلقِ اللَهِ في الناسِ أَحمَدُ
وَشَقَّ لَهُ مِن إِسمِهِ لِيُجِلَّهُ فَذو العَرشِ مَحمودٌ وَهَذا مُحَمَّدُ
بوصفه دليلا على أن اسم النبى لم يكن محمدا فى الأصل، بل الله هو الذى سماه هذه التسمية. وأود أن أبين للقارئ أن صياغة البيتين، فى إحساسى، لا تنتمى إلى تلك الفترة الفحلة: فالمعنى ركيك، إذ هل يعقل أن يقول الشاعر فى أول البيت الأول إن الله قد أكرم نبيه محمدا، ثم يختم البيت بأن اسمه أحمد؟ كذلك هل يمكن أن يقع شاعر فى ذلك الوقت المبكر من تاريخ الشعر العربى فى قطع همزة "اسم"، فيقول: "إسمه"؟ ولنفترض أن البيتين صحيحا النسبة لعلى بن أبى طالب فهل من اللازم أن يقصد إلى القول بأن النبى كان يسمى فى البداية: "أحمد" ثم سماه الله بعد ذلك: "محمدا"؟ فأين يا ترى، فى القرآن أو فى الحديث، أن الله قد غير اسمه صلى الله عليه وسلم من "أحمد" إلى "محمد"؟ ولم لا نقول إن ابن أبى طالب إنما يقصد أن الله سبحانه قد شاء أن يسمى: "محمدا" لا أن يسميه هو بنفسه ذلك؟ إن كل شىء يصنعه البشر فهو فى نظر المؤمن فعل الله: "وما رَمَيْتَ إذ رميتَ، ولكن الله رمى"، "والله خلقكم وما تعملون"، "وخلق كل شىء فقدَّره تقديرا"... وهذا لو كان البيت (أو البيتان) لعلى، إلا أن هناك من ينسبهما إلى أبى طالب نفسه، وأبو طالب مات دون أن يعلن إيمانه برسالة ابن أخيه، فكيف ينظم مثل ذينك البيتين المؤمنين القوييى الإيمان؟ علاوة على أن اشتقاق اسم ما من اسم "محمود" ليس شرطا أن يكون "محمدا" بل يمكن أيضا أن يكون "أحمد"، الذى كان هو اسم النبى حسب البيت الأول من البيتين موضع المناقشة. ثم هل يمكن أن يقال، وبالذات فى ذلك العصر المبكر من تاريخ الإسلام، إن الله أراد أن يجل النبى؟ الإجلال إنما يكون لله من البشر لا منه لهم.
كما استشهد جلال العظم بشطر بيت لحسان على أن اسم "محمد" إنما أطلقه الأنصار على النبى عليه الصلاة والسلام بما يعنى أنه ليس اسمه الأصلى بل اسما حدث بعد أن لم يكن، أطلقه عليه الأنصار عندما هاجر إليهم. وهذا الشطر هو: "وألبسناه اسمًا مَضَى ما لَهُ مِثْلُ". وهذه رواية "السيرة النبوية" لابن هشام. فهل قال أحد فى الدنيا إن الأنصار هم الذين سموا النبى محمدا بهذا الاسم؟ فمتى كان ذلك يا ترى؟ وأين؟ ومن ذا الذى سماه منهم بذلك؟ على أن رواية البيت التى فى الديوان شىء آخر حسبما يجده القراء فى الأبيات التالية التى نقلناها من ديوان الشاعر بطبعاته المتعددة: طبعة المحمدية عام 1281هـ، وطبعة السعادة 1331هـ، وطبعة هرشفيلد، وطبعة عبد الرحمن البرقوقى، وطبعة سيد حنفى، وطبعة وليد عرفات جميعا:
كُنّا مُلُوكَ الناسِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ فَلَمّا أَتَى الإِسْلامُ كانَ لَنَا الفَضْلُ
وَأَكرَمَنا اللَّهُ الَّذي لَيْسَ غَيْرَهُ إِلَهٌ بِأََيّامٍ مَضَتْ ما لَهَا شَكْلُ
بِنَصْرِ الإِلَهِ وَالنَبِيِّ وَدِينِهِ وَأَكْرَمَنا بِاِسْمٍ مَضَى ما لَهُ مِثْلُ
أولَئِكَ قَوْمي خَيْرُ قَوْمٍ بِأَسْرِهِم فَما عُدَّ مِن خَيْرٍ فَقَوْمِي لَهُ أَهْلُ
ومعناه أن الله سبحانه وتعالى قد أكرم قوم الشاعر، ضمن ما أكرمهم به، بتسميتهم بهذا الاسم الكريم: اسم "الأنصار"، وهو ما يرشِّح له كلامُه فى الشطر الأول عن نصرة قومه للدين وللنبى عليه الصلاة والسلام. ولنفترض أن الرواية التى أوردها العظم هى الرواية الصحيحة فالمعنى هو أن الله قد ألبسَنا (أى ألبس الأنصار) اسما مضى ما له مثل. والفرق بين المعنيين هو أن العظم ينطق الفعل: "ألبسناه" بتسكين الثاء، بينما هو مفتوحها بما يعنى أن الله قد ألبسَنا اسما، لا أننا نحن الذين ألبسْنا النبى محمدا اسما، وهو ما لا يعرفه التاريخ. ثم يتصور جلال العظم رغم ذلك أنه عالم نحرير، وابن بجدتها! فانظر كيف لا يستطيع العظم قراءة مثل هذا النص الصغير قراءة صحيحة البتة، وكيف لا يستطيع أن يحقق ما يقرؤه ويعرف أين يجد النصوص المطلوبة. إنه يخبط خبط عشواء، ثم يريد منا أن نعده كاتبا ليس له من ضريع.
كذلك فسُنَّة الإسلام تجرى على عكس السُّنَّة التى ذكرها الكاتب، إذ كان النبى عليه الصلاة والسلام، كلما لقى شخصا يتسمى باسم معيب، قم بتغيير الاسم إلى اسم جميل أو مقبول عقيديا مثلا، كما هو الحال حي نغير اسم "عاصية" اسم إحدى زوجات عمر بن الخطاب إلى "جميلة"، و"عبد العزى" إلى "عبد الله": فمن رواية بسر بن عبيد الله: "كانت تحت عمر بن الخطاب امرأة تسمى: عاصية، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم: جميلة. وكانت امرأة جميلة، وكان عمر يحبها، فكان إذا خرج إلى صلاة مشت معه من فراشها إلى الباب. فإذا أراد الخروج قَبَّلَتْه، ثم مضى، ورجعت إلى فراشها". ومن رواية عبد الله بن الحارث: "توُفِّيَ صاحبٌ لنا غريبًا فَكُنَّا على قبرِهِ أَنا وابنُ عمرَ, وعبدُ اللَّهِ بنُ عمرٍو. وَكانَ اسمي: العاصِ، واسمُ ابنِ عمر:َ العاصِ، واسمُ ابنِ عمرٍو: العاص، فقالَ لَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: انزلوا وأقبروهُ، وأنتُمْ عَبيدُ اللَّهِ. فنزلنا فقبَرنا أخانا وصعِدنا منَ القبرِ وقد أُبْدِلَت أسماؤُنا". ومن رواية سعيد بن المسيَّب "أنَّ جَدَّه حَزْنًا قدِم على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال : ما اسمُك؟ قال: اسمي حَزْنٌ. قال: بل أنت سهلٌ. قال: ما أنا بمُغَيِّرٍ اسمًا سمَّانيه أبي. قال ابنُ المُسَيَّبِ: فما زالَتْ فينا الحُزُونَةُ بَعْدُ". وعن خيثمة بن عبد الرحمن "أنَّ أباه عبدَ الرَّحمنِ ذهب مع جدِّه إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقال له: ما اسمُ ابنِك؟ قال: عَزيزٌ. فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: لا تُسَمِّه: عَزِيزًا، ولكن سمِّه: عبدَ الرَّحمنِ. ثم قال: أحبُّ الأسماءِ إلى اللهِ عبدُ اللهِ وعبدُ الرَّحمنِ والحارثُ". وعن عبد الرحمن بن صفوان: "هاجر أبي صفوان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة فبايعه على الإسلام فمد النبي صلى الله عليه وسلم إليه يده فمسح عليها فقال له صفوان إني أحبك يا رسول الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم المرء مع من أحب فكان صفوان بن قدامة حيث أتى دار الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة دعا قومه وبني أخيه ليخرجوا معه فأبوا عليه فخرج وتركهم وخرج معه بابنيه عبد الرحمن وعبد الله وكانت أسماؤهم في الجاهلية عبد العزى وعبد نهم فغير أسماؤهم النبي صلى الله عليه وسلم". ومن رواية عبد القيوم أبى عبيدة: "كنت مع أبي راشد الأزدي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وفد عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي راشد ما اسمك قال عبد العزى أبو معاوية قال لا ولكنك عبد الرحمن أبو راشد قال فمن هذا معك قال مولاي قال ما اسمه قال قيوم قال لا ولكنه عبد القيوم أبو عبيدة". وعن عبد الرحمن بن سبرة: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي ما اسمك فقلت عبد العزى قال بل أنت عبد الرحمن".
وقد سمى الله تعالى نبيه: "محمدا"، فهل يسوغ لأحد أن يهجر هذا الاسم الجميل الذى سماه الله به إلى اسم "شيطان" أو "وحش" أو "صنم" أو "كلب"؟ الحق أن من يطلق عليه هذا الاسم هو الصنم والوحش والشيطان والكلب. وهذا هو رسول الله يقول: "إنَّ لي أسماءً، وأنا محمَّدٌ، وأنا أحمدُ، وأنا الماحي الَّذي يمحو اللهُ بيَ الكُفرَ، وأنا الحاشرُ الَّذي يُحشَرُ النَّاسُ على قدَمي، وأنا العاقبُ الَّذي ليس بعدَهُ أحدٌ. وقد سمَّاهُ اللهُ رءوفًا رحيمًا". فما المغزى من وراء هجران هذه الأسماء وإطلاق اسم "ماهوند" عليه صلى الله عليه وسلم، وبخاصة أننا نعلم ماذا يعنى "ماهوند"؟ ترى هل يصح ذوقا، ودعنا من العقيدة والدين، أن نسمى رسولنا الكريم اسما يعنى الشيطان والصنم؟ فلم لا نطلقه على من اختاره وعلى من دافع عن هذا الاختيار الشنيع؟ من الآن فصاعدا نستطيع أن نسمى كلا من سلمان رشدى وجلال العظم: "ما هوند"، أو صريح العبارة بلغة الضاد: "الشيطان" أو "الكلب"... ولا أظن إلا أن كلا منهما سوف يرحب بذلك طبقا لفلسفته الغبراء! لقد كان الإسلام فتوحا متعددة فى عالم الحضارة والثقافة والذوق، وبالمثل كان فى عالم الأسماء فتحا لا يضاهَى، إذ رفض الأسماء القبيحة أو التى يشتم منها اعتقاد منحرف أو ذوق فاسد أو معنى كريه... وهكذا، ودعا إلى استبدالها بأخرى ليس فيها قبح ولا انحراف عقيدى ولا فساد ذوق. فلم يريد بعض المنتسبين إلى ذات الجنس الذى ننتسب إليه أن يرتدوا بنا على الأعقاب ظانين أنهم سوف ينجحون فى خداعنا وتنكيس أذواقنا والإساءة إلى نبينا الكريم بحجة أنهم إنما يريدون الأفضل؟ خسئوا وخسروا وخابوا!
ثم هناك فى كتاب جلال العظم مسألة الغرانيق. ذلك أن سلمان رشدى قد وظف الرواية التى تقول إن النبى، حين كان يقرأ سورة "النجم" عقب نزولها من السماء، أدخل فيها الجملتين التاليتين عن اللات والعزى ومناة تألفا لقلوب المشركين، الذين لايريدون أن يستمعوا إلى الدعوة الجديدة ولا يطيقون هجومها على أوثانهم. وقد انتقد المسلمون الغيورون على دينهم استعانة رشدى بتلك الرواية ورأوا فيها رغبة من جانبه فى الإساة إلى الإسلام، فانبرى السيد جلال صادق العظم للدفاع عن رشدى وتسويغ ما صنعه من هذا الكيد الفاشل مطنطنا بأن هذه الرواية موجودةفى كتب التراث، ناقلا النص التالى عن تاريخ الطبرى ليدلل على أن رشدى لم يقصد شرا ولا أراد كيدا، بل كل ما فعل هو الاستشهاد بما كتبه الطبرى وأمثاله. ولنسمع أولا ماذا يقول: "فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على صلاح قومه، محبا مقاربتهم بما وجد إليه السبيل، قد ذكر أنه تمنى السبيل إلى مقارنتهم، فكان من أمره في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن زياد المدني، عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولى قومه عنه، وشق عليه ما يرى من مباعدتهم ما جاءهم به من الله، تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه. وكان يسره، مع حبه لقومه وحرصه عليهم، أن يلين له بعض ما قد غلظ عليه من أمرهم حتى حدث بذلك نفسه وتمناه وأحبه، فأنزل الله عز وجل: "والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى". فلما انتهى إلى قوله: "أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى" ألقى الشيطان على لسانه، لما كان يحدث به نفسه ويتمنى أن يأتي به قومه: "تلك الغرانيق العلا * وإن شفاعتهن لترتجى". فلما سمعت ذلك قريش فرحوا، وسرهم وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم، فأصاخوا له، والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاءهم به عن ربهم، ولا يتهمونه على خطإ ولا وهم زلل. فلما انتهى إلى السجدة منها وختم السورة سجد فيها، فسجد المسلمون بسجود نبيهم تصديقا لما جاء به، واتباعا لأمره، وسجد من في المسجد من المشركين من قريش وغيرهم لما سمعوا من ذكر آلهتهم، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد، إلا الوليد بن المغيرة، فإنه كان شيخا كبيرا، فلم يستطع السجود، فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها. ثم تفرق الناس من المسجد، وخرجت قريش، وقد سرهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم، يقولون: قد ذكر محمد آلهتنا بآحسن الذكر. قد زعم فيما يتلو: "أنها الغرانيق العلا، وأن شفاعتهن ترتضى". وبلغت السجدة من بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى اللهه عليه وسلم. وقيل: أسلمت قريش، فنهض منهم رجال، وتخلف آخرون.
وأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، ماذا صنعتَ؟ لقد تلوتَ على الناس ما لم آتِك به عن الله عز وجل، وقلتَ ما لم يُقَلْ لك! فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك حزنا شديدا، وخاف من الله خوفا كثيرا، فأنزل الله عز وجل، وكان به رحيما، يعزيه ويخفض عليه الأمر، ويخبره أنه لم يك قبله نبي ولا رسول تمنى كما تمنى ولا أحب كما أحب إلا والشيطان قد ألقى في أمنيته كما ألقى على لسانه صلى الله عليه وسلم، فنسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته. أي فإنما أنت كبعض الأنبياء والرسل. فأنزل الله عز وجل: "وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يُحْكِم اللهُ آياتِه والله عليمٌ حكيمٌ"، فأذهب الله عز وجل عن نبيه الحزن، وآمنه من الذي كان يخاف، ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذكر آلهتهم: "أنها الغرانيق العلا وأن شفاعتهن ترتضى". بقول الله عز وجل حين ذكر اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى: "ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمةٌ ضِيَزى" أي عوجاء، "إن هي إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم... (إلى قولهنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي "لمن يشاء ويرضى"، أي فكيف تنفع شفاعة آلهتكم عنده؟ فلما جاء من الله ما نسخ ما كان الشيطان ألقى على لسان نبيه قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتكم عند الله، فغيَّر ذلك وجاء بغيره. وكان ذانك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عله وسلم قد وقعا في فم كل مشرك، فازدادوا شرًّا إلى ما كانوا عليه، وشدةً على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم. وأقبل أولئك النفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الذين خرجوا من أرض الحبشة لما بلغهم من إسلام أهل مكة حين سجدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا دَنَوْا من مكة بلغهم أن الذي كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلا، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوارٍ أو مستخفيًا...
فلما أمسى أتاه جبرئيل عليه السلام فعرض عليه السورة. فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال: ما جئتك بهاتين! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افتريتُ على الله، وقلتُ على الله ما لم يقل. فأوحى الله إليه: "وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره" إلى قوله: "ثم لا تجد لك علينا نصيرا". فما زال مغموما مهموما حتى نزلت: "وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ... (إلى قولهنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي "والله عليمٌ حكيمٌ". قال: فسمع من كان بأرض الحبشة من المهاجرين أن أهل مكة قد أسلموا كلهم فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحب إلينا، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان...".
وسلمان رشدى حين استعمل فى روايته حكاية الغرانيق، وجلال العظم حين انبرى للدفاع عن رشدى، إنما يريدان إلى القول بأن محمدا، عليه الصلاة والسلام، كان يتمنى أن يصالح القرشيين حتى يكسبهم إلى صفه بدلا من استمرارهم فى عداوتهم لدعوته وإيذائهم لـه ولأتباعه، ومن ثم أقدم على تضمين سورة "النجم" تَيْنِك الآيتين عقب قوله تعالى: "أفرأيتم اللاتَ والعُزَّى * ومناةَ الثالثةَ الأخرى؟" (النجم/19 – 20) على النحو التالى: "إنهنّ الغرانيق العُلا * وإن شفاعتهن لَتُرْتَجَى". والمقصود من وراء ذلك كله هو الإساءة للرسول الكريم بالقول بأنه لم يكن مخلصا فى دعوته، بل لم يكن نبيا بالمرة، وإلا لما أقدم على إضافة هاتين الآيتين من عند نفسه. بل إن العظم ليؤكد أن ولاء الرسول الأول كان لقومه لا لدينه. قالها بصريح العبارة مما لا يمكن تأويله. والرجل ماركسى، وهو لا يؤمن بالإسلام ولا بأية غيبيات كالوحى وما أشبه زاعما أن هذا كله تخلف ورجعية. وأنا لا أناقشه فى هذا، فكل إنسن حر فيما يؤمن وفيما يكفر، لكنى أريد أن أنبه القراء إلى ضعف منطقه وتهافت حججه وعدم تبصره وعجزه عن التفكير المنهجى العلمى ومسارعته إلى ترديد كل ما يتصور أنه يضر الإسلام دون تمحيص أو تحقيق. ترى هل الطبرى معصوم؟ إن العظم، بالطريقة التى تناول بها هذا الموضوع، يومئ إلى أن محمدا فى تبليغه للوحى غير معصوم، أما الطبرى فى إيراد تك الحكاية فمعصوم ونصف. أقول هذا رغم معرفتى أن العظم لا يؤمن بوحى ولا بنبوة، لكنه التمادى مع الخصم إلى آخر شوطه. فهل ما قاله الطبرى فى هذه القضية هو مما اتفق عليه العلماء؟
وكيف يكون معنى "التمنى" فى قوله تعالى: "وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يُحْكِم اللهُ آياتِه والله عليمٌ حكيمٌ" هو قراءته وسط القرآن ما ليس من القرآن، بما يفيد أنه عليه الصلاة والسلام قرأ فعلا جملتى الغرانيق وأدخلهما فى القرآن، وأنه قد افترى على الله ما لم يُوحِهِ إليه طبقا لكلامه هو عن نفسه فيما مضى من الحكاية السابقة، والله ذاته يقول فى الآيات 73- 75 من سورة "الإسراء": "وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَاةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا" التى استشهدت بها رواية الطبرى على أنه قد دخل القرآن على لسان النبى ما ليس من الوحى، بما يفيد أنه قد افترى على الله وركن إلى الكفار ركونا، فى الوقت الذى يقول القرآن فيه إنه لو كان افترى على الله شيئا لأذاقه من العذاب ضعف الحياة وضعف الممات دون أن يجد من ينصره من عذاب الله، مع أن هذه الآيات نفسها تقول بأجلى بيان إن الله قد ثبته فلم يكد يركن إليهم، ومع أن الله سبحانه لم يعذب نبيه؟ ومرة أخرى كيف سكت كل أعداء النبى فلم يستغلوا هذه الآيات المتناقضة؟ بل كيف وقف المسلمون هم أيضا ساكتين فلم تعرض لبعضهم الشكوك والحيرة؟ ثم يظن العظم أنه كاتب لم يخلق الله مثله بين العباد!
إن هذه الحكاية هى مما يحلو للمستشرقين والمبشرين والملاحدة وأمثالهم أن يرددوها للمكايدة وإثارة البلبلة، مع أن أقل نظرة فى سورة "النجم" أو فى سيرة حياته صلى الله عليه وسلم كافية للقطع بأن تلك القصة لا يمكن أن تكون قد حدثت على هذا النحو! بل إن بلاشير فى ترجمته الفرنسية للقرآن الكريم قد أقدم على شىء بلغ الغاية فى الشذوذ والخيانة العلمية، ألا وهو إثبات هاتين الآيتين المدَّعَاتَيْن فى نص ترجمته لسورة "النجم" بزعمهما آيتين قرآنيتين كانتا موجودتين فيها يوما. ولنبدأ بأول السورة حيث نقرأ: "وما ينطق عن الهوى"، و"ما زاغ البصر وما طغى". فكيف فات الطبرى المؤمن بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام أن الحكاية الظريفة التى أوردها هى مما يتناقض تناقضا أبلق مع تينك الآيتين؟ أليستا تقولان إن محمدا لا يمكن أن ينطق عن الهوى، وإنه قد أدى ما رآه وسمعه دون زيادة أو نقصان بعيدا تماما عن الوهم؟ فهذا هو جلال العظم، بناء على تلك الرواية السخيفة، يقول إن ولاء الرسول الأول كان لقومه لا للإسلام، الذى وضعه العظم فى المقام الثانى، وأن ولاءه هذا، أو فلنقل: هواه، قد جعله ينطق بما ليس قرآنا. وأنا هنا لا يهمنى العظم فى قُلٍّ أو كُثْرٍ، فهو وما أداه إليه عقله من الإيمان بما يشاء، لا يستطيع أحد أن يتدخل فيما بينه وبين ضميره. لكن هذا لا يعنى أن نتركه يهرف بما لا يحسن دون أن ننكر عليه ونفضح عجزه ونمزق هراءه الذى يضحك به على الذقون محاولا أن يخيل للقراء أنه كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بل الذى يهمنى هو الطبرى. فكيف فات الطبرى أنه بذلك يناقض نفسه ويخالف ما جاء به القرآن الكريم فى حق الرسول وتبليغه آيات الوحى السماوى؟ وهذا إن كان الطبرى يصدق تلك الحكاية على ما يريد العظم أن يوهمنا، وهو ما تقوم دونه أسداد وأسداد، إذ من المعروف أن الطبرى إنما يورد كل ما وصله من روايات يضعها بين يدى القارئ ويخلى بينه وبينها، ولا يعنى أبدا أنه يؤمن بما فيها بالضرورة.
والحق أن من الممكن أن يكون المعنى هو أن الشيطان قد ألقى فى القرآن الذى قرأه الرسول على المشركين بعضا من ألفاظه الكفرية على لسان الحاضرين من أعداء الإسلام كما سوف يأتى بيانه، فسارع الرسول إلى تبيان الحق فلم يبال مسلم بشىء مما ردده رقعاء المشركين من الثناء على اللات والعزى ومناة ردا على هجوم سورة "النجم" عليها، وكأنه لم يكن، وهذا معنى أن الله ينسخ ما يلقى الشيطان ثم يُحْكِم الله آياته، أو ربما كان معنى الـتمنى هو أن النبى كان يتمنى ألا يكون الوحى بهذا العنف فى مهاجمة الكفار حتى يمكن استلانة قلوبهم حسب ظنه، إلا أن الله سرعان ما يثبت قلب رسوله على الحق الناصع المستقيم وينفى عن قلبه هذا التطلع العارض الذى لا يترك أثرا لا فى النفس ولا فى التصرفات. إن من يقول لعمه، حين أتاه وفد قريش يلحون عليه أن يسكت عنهم وعن أصنامهم ابن أخيه فينزل العم على إلحاحهم ويعرض على ابن الأخ شيئا من المهادنة، فيقول له: "والله يا عم لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر أو أهلك فيه ما تركته" لا يمكن البتة أن يركن إلى الكفار ويردد مثل هذا الكلام الكُفْرِىّ الذى يضرب دعوته فى الصميم ضربة من شأنها أن تُسْمَع آثارها فى جميع أرجاء الجزيرة العربية لو كانت قد حصلت.
هذا بالنسبة إلى الطبرى، أما بالنسبة إلى التفكير المجرد فإننا سواء صدقنا بالوحى السماوى أو لا فإن تينك الجملتين لا تنتميان إلى أسلوب القرآن. أى أنها ليست منه: فإن كان القرآن من عند محمد فإن الجملتين اللتين قالهما محمد ليستا من ذلك الأسلوب. وإن كان القرآن وحيا من الله فإنه قد قال لنا إن محمدا لا يمكن أن ينطق عن الهوى، ومن ثم لا يمكن أن ينطق بهما أبدا حتى لو انطبقت السماء على الأرض. أما كيف نستطيع أن نحكم على مدى تناغم الجملتين وبقية آيات القرآن فلسوف أبين ذلك للقارئ بالتفصيل بعد قليل. ولا أظن أحدا يمكن أن يطرح الاحتمال الثالث، وهو أن الله هو الذى أنزل هاتين العبارتين ثم عاد فحذفهما. ولو افترضنا أن أحدا قد فقد رشده وقال ذلك فالرد بسيط، وهو أن الأسلوبين مختلفان تمام الاختلاف، مما لا يمكن معه أن يكون الأمر صحيحا. أى أن الحكاية السخيفة الخاصة بجملتى الغرانيق هى حكاية خرافية من أولها إلى يائها.
وقد تناول عدد من علماء المسلمين قديما وحديثا الروايات التى تتعلق بهاتين الآيتين المزعومتين وبينوا أنها لا تتمتع بأية مصداقية. والحقيقة إن النظر فى سورة "النجم" ليؤكد هذا الحكم الذى توصل إليه أولئك العلماء، فهذه السورة من أولها إلى آخرها عبارة عن حملة مدمدمة على المشركين وما يعبدون من أصنام بحيث لا يُعْقَل إمكان احتوائها على هاتين الآيتين المزعومتين، وإلا فكيف يمكن أن يتجاور فيها الذم العنيف للأوثان والمدح الشديد لها؟ ترى هل يمكن مثلا تصوُّر أن ينهال شخص بالسب والإهانة على رأس إنسان ما، ثم إذا به فى غمرة انصبابه بصواعقه المحرقة عليه ينخرط فجأة فى فاصل من التقريظ، ليعود كرة أخرى فى الحال للسب والإهانة؟ هل يعقل أن تبلع العرب مثل هاتين الآيتين اللتين تمدحان آلهتهم، وهم يسمعون عقب ذلك قوله تعالى: " ألكم الذَّكَر وله الأنثى؟ * تلك إذن قسمةٌ ضِيزَى * إن هى إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. إن تتَّبعون إلا الظن وما تَهْوَى الأنفس. ولقد جاءهم من ربهم الهدى"؟ إن هذا أمر لا يمكن تصوره! كما أن وقائع حياته صلى الله عليه وسلم تجعلنا نستبعد تمام الاستبعاد أن تكون عزيمته قد ضعفت يوما، فقد كان مثال الصبر والإيمان بنصرة ربه لـه ولدعوته. ومواقفه من الكفار طوال ثلاثة وعشرين عاما وعدم استجابته فى مكة لوساطة عمه بينه وبينهم رغم ما كان يشعر به من حب واحترام عميق نحوه، وكذلك رفضه لما عرضوه عليه من المال والرئاسة، هى أقوى برهان على أنه ليس ذلك الشخص الذى يمكن أن يقع فى مثل هذا الضعف والتخاذل! ليس ذلك فحسب، إذ ليس من المظنون بتاتا أن يقف المشركون صامتين خُرْسًا أمام هذه الخديعة التى خدعهم محمد إياها حين مدح آلهتهم ثم لم يشأ أن يتركهم يهنأون بهذا المدح سوى سويعات أو دقائق، فأين شعر الشعراء المشركين أو اليهود أو النصارى؟ وأين المنافقون واليهود اليثربيون فلم يحاولوا أن يحاربوا النبى وأتباعه بهذه الفضيحة؟ هل من المعقول أن ينزل سهم الله على الجميع المتربصين الحاقدين الذين لا يمكن أن يجدوا سلاحا أفعل من هذا السلاح لتفويقه إلى عنق الإسلام ليقتلوه، فإذا بهم يصمتون تماما ولا يفتحون لهم فما بكلمة؟
وقد ذكر سلمان رشدى فى روايته المسيئة أن خالد بين الوليد، الذى تضطرب الرواية فتجعل إسلامه فى المرحلة المكية، قد بدأ يشك هو وبعض المسلمين فى أمر النبى عليه السلام، وإن كان قد ظهر لهم أن النبى كان أبعد منهم نظرا. كما تزعم الرواية أن سلمان كان يكتب الوحى للرسول، لكنه اكتشف عدم إخلاصه فى دعواه النبوة، إذ كان يضع القواعد والقوانين أولا ثم يأتى جبريل فيوافق عليها، ليكون هو أول من يكسرها. وكان تعليق سلمان على هذا قوله إن الذى يكون قريبا من الحاوى يسهل عليه اكتشاف أخاديعه. ويمضى سلمان فى الرواية فيسخر من الإسلام وتشريعاته قائلا إن هذه التشريعات لم تترك شيئا إلا قعَّدَتْه وقنَّنته بما فيها الفُسَاء وما ينبغى للمسلم أن يفعله إذا فسا، وكيف أن الإسلام يحرم أن تعلو المرأة الرجل أثناء الجماع، كما يحرم هرش مواضع بعينها من الجسم مهما تكن دواعى الهرش. ويزعم الكاتب أن سلمان قد سكت فى البداية على خداع محمد لأن الخطر الجاهلى كان محدقا بهم. كما تشير الرواية إلى أن من بين الأسباب القوية التى دفعت بسلمان بعيدا عن النبى والإسلام اتخاذ النبى عددا من الزوجات أكبر من العدد الذى حدده القرآن للمسلمين، استرضاه النبى بالصفقة التى ساومه عليها الجاهليون، وهى أن يذكر اللات والعزى ومناة بخير فى القرآن مقابل اعتراف أهل الجاهلية بالمسلمين وضمهم إياه إلى دار الندوة ليصبح عضوا فى مجلس المدينة.
وكما افترى رشدى على سليمان الفارسى الأكاذيب افتراها أيضا على هند بنت عتبة زوجة أبى سفيان، الذى سماه رشدى: كريم أبو سمبل، والذى كان يتهم بعلا الشاعر الشاب الهجّاء بأنه "ينيـ..." زوجته هندا، التى تقول الرواية عنها إنها نامت مع كل كتّاب الجاهلية، أى مكة، وإن لم يعد ينام معها منذ وقت طويل. ويقول الكاتب إنه، بسبب شبابها الدائم، قد غفر الناس لها عهرها وثراءها الخرافى وسحقها لثورة الجياع عن طريق شرطتها، مستوحيا فى رسم شخصيتها صورة إميلدا ماركوس. بل إنه يجعلها ساحرة تحول الرجال الذين لا ينحنون أمام هودجها إلى ثعابين، وتمسكهم من ذيولهم وتطبخهم وتتعشى بهم. وفى مشهد آخر نرى النبى عليه الصلاة والسلام فى الفراش عاريا تغطيه ملاءات السرير فى بيت هند، وحين بدى استغرابه تقول له إنها قد التقطته بعدما سقط فى شوارع "الجاهلية" كما يسقط السكران فى بالوعة المجارى. وكان "قد قضى يوما شاقا فى الصعود غلى الغار والهبوط منه، وفى محاولة تسكين ثورة أتباعه على قبوله صفقة "الجاهليين" ومدحه أصنامهم فى القرآن. ونراها تحاول أن تطعمه قطع الشمام فى فمه، ولكنه يأخذها منها ويأكلها بنفسه. فتمد يدها فى جيب جلبابه وتداعبه فى صدره مبدية استهانتها بزوجها، وتصارحه بأنها تتخذ العشاق بعلم هذا الزوج. ونسمعها تقول له إن إلهه إذا كان قد رضى واعترف بآلهتها الثلاث: اللات والعزى ومناة فإنهن لا يرضَيْنَ أن يكنَّ بناته بل أندادا له.
وعند فتح مكة تأتى هند إلى الرسول منتقبة، وترتمى عند قدميه ناطقة بالشهادتين، وتقبل أصابعهما إصبعا إصبعا، وعقلة عقلة، وتلعقها وتمصها فى شبق، والرسول يصيح بها: كَفَى! هذا خطأ، فالعبادة لا تصح إلا لله. ثم يعفو عنها الرسول وهوشارد، وإن كان قد أحس بالسخرية فى هذه القبلات. وبعد الفتح تجلس هند فى عِلِّيَّة بقصرها زمنا طويلا تتفرغ فيه لكتب السحر، ثم تخرج من عزلتها داعية زوجها إلى الاحتفال معها بالانتقام من ماهوند. ثم يسقط ماهوند مريضا، فيتساءل وهو فوق صدر عائشة، وبصره ناحية المصباح: من هناك؟ أهذا أنت يا عزرائيل؟ فتسمع عائشة صوتا نسائيا جميلا لكنه فظيع: لا يا رسول الله، لست بعزرائيل. ثم ينطفئ المصباح، فيقول ماهوند: وهل هذا المرض منك أيتها اللات؟ فترد: إنه انتقامى منك، وأنا سعيدة بذلك. فليعقروا لك جملا ويضعوه فوق قبرك... وهذا يعنى، كما هو واضح، انتصار الوثنية على الإسلام.
نعم من الواضح أن رشدى يريد أن يبث فى رُوعنا أن الوثنية قد انتصرت فى النهاية على الإسلام: فها نحن أولاء نرى من يأكلون الخنزير، ومن يشربون الخمر، ومن يعبدون اللات والعزى، ومن يقصدون ماخور "الحجاب" لممارسة الدعارة حيث تسكن اثنتا عشر بغيا: عائشة وحفصة وزينب وسودة... إلى آخر أسماء زوجات النبى وصفاتهن، إذ فسر المؤلفُ المجرمُ مطابقةَ أسماء البغايا مع أسماء أمهات المؤمنين بوصفها رد فعل من سكان "الجاهلية" على أمر ماهوند لزوجاته بالتحجب والتخفى عن عيون الرجال. ويقضى عاهرات الحجاب وقتهن فى مداعبة بعل حتى تثور شهوته، ويتزوجن فى النهاية منه زواجا صوريا مشترطات عليه أن يمر كل ليلة على واحدة منهن، ثم يطالبنه بأن يتسمى هو أيضا بـ"محمد" ما دمن قد تسمَّيْن بأسماء زوجاته. وهناك عاهرة منهن اسمها زينب يقصدها الشواذ المبتلَوْن بالرغبة فى مضاجعة النسوة الميِّتات، تلك العملية التى كانت هذه البغى تزاولها مع قصادها بالتزام الصمت والسكون التامين أثناء الجماع، فكأنهم يجامعون امرأة ميتة. وهذه بعضٌ فقط من القاذورات التى يحتوى عليها صندوق زبالة لرواية، ليأتى جلال بن صادق بن العظم فيزعم أنها تخلو من الإساءة إلى الإسلام ويحمل على من ينتقدون مؤلفها الشاذ: الشاذ فى عقله وفى غير عقله. صدق من قال: من لم ير من ثقوب الغربال يكن أعمى!
أما من الناحية الأسلوبية التى وعدت القارئ بها فإن الآيتين المزعومتين تجعلان الأصنام الثلاثة مناطا للشفاعة يوم القيامة دون تعليقها على إذن الله، وهو مالم يسنده القرآن فى أى موضع منه إلى أى كائن مهما تكن منزلته عنده سبحانه. ولن نذهب بعيدا للاستشهاد على ما نقول، فبعد هاتين الآيتين بخمس آيات فقط نقرأ قوله تعالى: "وكم مِنْ مَلَكٍ فى السماوات لا تُغْنِى شفاعتُهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويَرْضَى". فكيف يقال هذا عن الملائكة فى ذات الوقت الذى تؤكد إحدى الآيتين المزعومتين أن شفاعة الأصنام الثلاثة جديرة بالرجاء من غير تعليق لها على إذن الله؟ ثم إنه قد ورد فى الآية الثانية من آيتى الغرانيق كلمة "تُرْتَجَى"، وهى أيضا غريبة على الأسلوب القرآنى، إذ ليس فى القرآن المجيد أى فعل من مادة "ر ج و" على صيغة "افتعل". أما ما جاء فى إحدى الروايات من أن نص الآية هو: "وإنّ شفاعتهن لَتُرْتَضَى"، فالرد عليه هو أن هذه الكلمة، وإن وردت فى القرآن ثلاث مرات، لم تقع فى أى منها على "الشفاعة"، وإنما تُسْتَخْدَم مع الشفاعة عادةً الأفعال التالية: "تنفع، تغنى، يملك".
كذلك فقد بدأت مجموعةُ الآيات التى تتحدث عن اللات والعُزَّى ومناة بقوله عَزَّ شأنُه: "أ(فـ)ـرأيتم...؟"، وهذا التركيب قد تكرر فى القرآن إحدى وعشرين مرة كلها فى خطاب الكفار، ولم يُسْتَعْمَل فى أى منها فى ملاينة أو تلطف، بل ورد فيها جميعا فى مواقف الخصومة والتهكم وما إلى ذلك بسبيل كما فى الشواهد التالية: "قل: أرأيتم إن أتاكم عذابُه بَيَاتًا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون؟" (يونس/ 50)، "قل: أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حلالا وحراما، قل: آللهُ أَذِنَ لكم أم على الله تفترون؟" ( يونس/ 59)، "قل: أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشَهِد شاهدٌ من بنى إسرائيل على مِثلِْه فآمن واستكبرتم؟ إن الله لا يهدى القوم الظالمين" (الأحقاف/ 10)، "أفرأيتم الماء الذى تشربون؟ * أأنتم أنزلتموه من المُزْن أم نحن المُنْزِلون؟ * لو نشاء جعلناه أُجَاجًا، فلولا تشكرون" (الواقعة/ 68 – 70). فكيف يمكن إذن أن يجىء هذا التركيب فى سورة "النجم" بالذات فى سياق ملاطفة الكفار ومراضاتهم بمدح آلهتهم؟ وفوق هذا لم يحدث أن أُضيفت كلمة "شفاعة" فى القرآن الكريم ( فى حال مجيئها مضافة) إلا إلى الضمير "هم" على خلاف ما أتت عليه فى آيتى الغرانيق من إضافتها إلى الضمير "هنّ".
وفضلا عن ذلك فتركيب الآية الأولى من الآيتين المزعومتين يتكون من "إنّ (وهى مؤكِّدة كما نعرف) + ضمير (اسمها) + اسم معرّف بالألف واللام (خبرها)"، وهذا التركيب لم يُسْتَعْمَل لـ"ذات عاقلة" فى أى من المواضع التى ورد فيها فى القرآن الكريم (وهى تبلغ العشرات) إلا مع زيادة التأكيد لاسم "إنّ" بضميرٍ مثله كما فى الأمثلة التالية: "ألا إنهم هم المفسدون/ ألا إنهم هم السفهاء/ إنه هو التواب الرحيم/ إنك أنت السميع العليم/ إنك أنت التواب الرحيم/ إنه هو السميع العليم/ إنه هو العليم الحكيم/ إنه هو الغفور الرحيم/ إنى أنا النذير المبين/ إنه هو السميع البصير/ إننى أنا الله/ إنك أنت الأعلى/ إنا لنحن الغالبون/ إنه هو العزيز الحكيم/ وإنا لنحن الصافّون/ وإنا لنحن المسبِّحون/ إنهم لهم المنصورون/ إنك أنت الوهاب/ إنه هو السميع البصير/ إنه هو العزيز الرحيم/ إنك أنت العزيز الكريم/ إنه هو الحكيم العليم/ إنه هو البَرّ الرحيم/ ألا إنهم هم الكاذبون/ فإن الله هو الغنى الحميد". أما فى المرة الوحيدة التى ورد التركيب المذكور دون زيادة التأكيد لاسم "إنّ" بضميرٍ مثله (وذلك فى قوله تعالى: "إنه الحق من ربك"/ هود/ 17) فلم يكن الضمير عائدا على ذات عاقلة، إذ الكلام فيها عن القرآن. ولو كان الرسول يريد التقرب إلى المشركين بمدح آلهتهم لكان قد زاد تأكيد الضمير العائد عليها بضميرٍ مثله على عادة القرآن الكريم بوصفها "ذواتٍ عاقلةً" ما داموا يعتقدون أنها آلهة. وعلى ذلك فإن التركيب فى أُولَى آيَتَىِ الغرانيق هو أيضا تركيب غريب على أسلوب القرآن الكريم.
مما سبق يتأكد لنا على نحوٍ قاطعٍ أن الآيتين المذكورتين ليستا من القرآن، وليس القرآن منهما، فى قليل أو كثير، سواء قلنا إن القرآن وحى سماوى من عند الله أو سايرنا الملاحدة الكافرين وقلنا إنه تأليف محمد بن عبد الله. بل إنى لأستبعد أن تكون كلمة "الغرانيق" قد وردت فى أى من الأحاديث التى قالها النبى عليه الصلاة والسلام. وينبغى أن نضيف إلى ما مرّ أن كُتُب الصحاح لم يرد فيها أى ذكر لهذه الرواية، ومثلها فى ذلك ما كتبه ابن هشام وأمثاله فى السيرة النبوية.
ولقد قرأت فى كتاب "الأصنام" لابن الكلبى أن المشركين كانوا يرددون هاتين العبارتين فى الجاهلية تعظيما للأصنام الثلاثة، ومن ثم فإنى لا أستطيع إلا أن أتفق مع ما طرحه سيد أمير على فى كتابه القيم: "The Spirit of Islam" من تفسير لما يمكن أن يكون قد حدث، بناءً على ما ورد من روايات فى هذا الموضوع ، إذ يرى أن النبى، عندما كان يقرأ سورة "النجم" وبلغ الآيات التى تهاجم الأصنام الثلاثة، توقَّع بعضُ المشركين ما سيأتى فسارع إلى ترديد هاتين العبارتين فى محاولة لصرف مسار الحديث إلى المدح بدلا من الذم والتوبيخ. وما قاله أمير علىّ وجيه غاية الوجاهة ومقنع تماما، فقد كان الكفار فى كثير من الأحيان إذا سمعوا القرآن أحدثوا لَغْطًا ولَغْوًا كى يصرفوا الحاضرين عما تقوله آياته الكريمة (فُصِّلَتْ/ 26). إذن فهذا الذى يقوله الكاتب الهندى هو من ذلك الباب. ولتقريب الأمر أمثِّل لهذه الطريقة بواقعة كنت من شهودها، إذ كان رئيس ومرؤوسه يتعاتبان منذ أعوام فى حضورى أنا وبعض الزملاء، وكان الرئيس يتهم المرؤوس المسكين بأنه يكرهه، والآخر يحاول أن يبرئ نفسه عبثا لأنه كان معروفا عنه خوضه فى سيرة رئيسه فى كل مكان. وفى نوبة يأس أسرع قائلا وهو يؤكد كلامه بكل ما لديه من قوة: " إن ما بينى وبينك عميق! "، فما كان من زميل معروف بحضور بديهته وسرعة ردوده التى تحوِّل مجرى الحديث من وجهته إلى وجهة أخرى معاكسة إلا أن تدخل قائلا فى سرعة عجيبة كأنه يكمل كلاما ناقصا: "فعلا! عميقٌ لا يُعْبَر". وهنا أمسك الرئيس بهذه العبارة وعدَّها ملخِّصةً أحسن تلخيص للموقف ولمشاعر مرؤوسه المزنوق الذى يحاول التنصل مما يُنْسَب إليه! ومن ذلك أيضا ما كان بعض أصدقائنا المدرسين يعابث به تلميذاته إذا رآهن قد أسرفن فى التحمس لقاسم أمين وإبراز أهمية الدور التى تؤديه المرأة فى الحياة، إذ كان،كلما ردّدن أمامه العبارة المشهورة فى هذا السياق من أن "وراء كل عظيم امرأة"، يجيبهن مرة: "طبعا وراءه لا أمامه، فهو صاحب الصدارة والتفوق، أما هى فتابعة لـه"، ومرة: "فعلا وراءه، والزمان طويل"، ومرة: "وراءه مسوِّدة عيشته"... وهكذا.
كذلك حاول د. العظم بكل سبيل ووسيلة أن يدافع عن سلمان رشدى ضد الغاضبين من تطاوله على الدين وعلى الرسول عليه الصلاة والسلام زاعما أنه لم يسئ إلى الإسلام فى شىء. وهذا، والحق يقال، بجاحة تتخطى الحدود، فرواية رشدى مفعمة بل تطفح بألوان الأذى والعدوان والكذب والتهكم بكل شىء فى دين الله: فمن هذا قوله إن النبىقد وجد فى خديجة الأم والأخت والحبيبة والعرّافة والصديقة، مع أن بيت الرسول كان أبعد ما يكون عن العِرَافة والكهانة، كما كان عليه الصلاة والسلام يكره الكهان والعرافين، ويعلن دائما أنه لا يعلم الغيب
ومما دافع به جلال العظم عن رشدى وروايته ضد من هاجموهما من الكتاب المسلمين، الذين كنت واحدا منهم إذ وضعت كتابا عن الرواية فى مائتين وخمسين صفحة بغدما فليتها تفلية وأرهقتنى إرهاقا شديدا بسبب طبيعتها الغرائبية والأسطورية وتداخل الشخصيات والوقائع والعصور والنصوص والبلاد والأجناس فيها تداخلا مزعجا، إضافة إلى لغتها المعقدة التى حللتها كما لم يحللها أحد ممن كتب عنها من العرب حسب علمى وأشرت إلى هذا الجانب منها مبينا كيف أن رشدى يعلم من خبايا الإنجليزية ودقائقها وزواياها المظلمة وتعبيراتها البذيئة ويقدر على التعامل مع محسناتها البديعية كما لا يقدر غيره من الإنجليز الصميمين، فحسب د. صفاء خلوصى، فى مقاله الذى كتبه عن الكتاب فى مجلة "العرب" اللندنية" فى أوائل تسعينات القرن الماضى، أننى أقصد حلاوة أسلوب رشدى، بينما أنا أقصد شيئا آخر كما هو واضح من كلامى هنا، أقول: مما دافع به جلال العظم عن رشدى وروايته ضد من هاجموهما من الكتاب المسلمين تقريعهم على أنهم، حسبما قال متعالما، لم يلتفتوا إلى شىء هام جدا التفت عو بعبقريته الفريدة إليه، وهو أن رواية رشدى تنتمى إلى تيار فى الكتاب والأدب قديم يتمثل فى معارضة المقدس. ثم راح يتسعرض بعض أمثلة من تلك الكتابات فى تراثنا. ولست أعارضه فيما قال، لكنى لا أرى أنه قد جاء بالذئب من ذيله، فكلنا نعلم هذا، ويكفى أن نشير إلى الشعر القرشى واليهودى فى هجاء الإسلام ورسوله منذ اللحظات الأولى من تاريخ الدعوة المحمدية كما هو الحال فى أشعار عبد الله بن الزِّبَعْرَى وسفيان بن الحارث فى مكة، وكعب بن الأشرف فى المدينة مثلا، وما كان الكفار يلجأون إليه من صرف القلوب والأسماع عن الإنصات إلى الوحى الذى يتلوه النبى على الناس فور تلقيه إياه، إذ كانوا يحدثون من اللغو واللغط ما يصرف الناس عن التنبه إلى ما يقوله النبى عليه الصلاة والسلام، كما كان النضر بن الحارث يتتبع الرسول أينما ذهب بحيث إذا جلس إلى قوم يدعوه إلى الإسلام فتح هو كتابا من أقاصيص فارس وملوكها وقادتها وشرع يقرأ عليهم منه مما أشارت إليه آيات القرآن فى سورتى "فُصِّلَتْ" و"لقمان" على الترتيب، فضلا عما كان المتنبئون الكذابون فى أواخر حياة الرسول يزيفونه من الآيات التى يريدون إيهام أتباعهم أنها تتنزل عليهم من السماء كما يتنزل القرآن على محمد.
إلا أننى لا أتفق معه مثلا فى التصديق بما ينسب للوليد بن يزيد من كفريات شعرية تتحدى الله وتستهزئ بالمصحف الشريف وتحكى كيف كان يفوِّق إليه السهام وقد علقه على الحائط طالبا منه أن يخبر الله يوم القيامة بأن الوليد هو الذى مزقه وأهانه... وما إلى هذا. ومن الممكن أن يكون الرجل خفيف الدين، بيد إنه لمن الصعب علىَّ القبول بأن هذه الأشعار من نظمه حتى لو ثبت أنه كان زائغ العقيدة فعلا، إذ من المستحيل أن ينظم الرجل مثل تلك الأشعار، ثم يتنصت التاريخ مرهفا أذنيه لعل إنسانا يعترض أو يرد عليه شعره هذا بشعر مثله أو برسالة أو بكتاب أو بخطبة أو تنتقض عليه جماعة محاربة تخرج على الدولة فلا يسمع التاريخ شيئا، وكأن المسلمين قد نَسُوا غيرتهم على إسلامهم تمام النسيان. فهل يعقل هذا عاقل أو بلا عقل؟ لا إخال. وهل كان الوليد مجنونا حتى يُقْدِم على نظم تلك الأشعار الكافرة دون تحسب للنكير عليه والتمرد على سلطانه؟ أتصور أن بعض أفراد البيت المروانى هم صانعو تلك الأشعار أو مكلفو بعض الشعراء بنظمها وناحلوها الرجل لتحطيم خصمهم الجالس فى دست الحكم توصلا إلى إزاحته والحلول محله، أو لعل بعض الشعراء الرقيقى الدين أو الملحدين الزنادقة هم الذين فعلوا هذا متخفين وراء ظهر خليفة أموى مثله اشتهر صدقا أو كذبا بضعف الوازع الدينى، أو من الممكن أن يكون أعداء الأمويين وراء هذه الأشعار زيادة فى تشويه صورتهم. وواضح أننى لا أنفى أن يكون فى العصور الإسلامية الأولى من يُقْدِم على نظم مثل تلك الأشعار، إلا أننى أستبعد أن يكون صاحبها هو الوليد بن يزيد، الذى لا أنفى بالضرورة أن يكون رقيق الدين، لكن هذه نقرة أخرى. وفى كتابه: "العصر الإسلامى" نجد د. شوقى ضيف، رغم حديثه عن شغف الوليد باللهو والقصف والصيد وتأكيده لبراعته فى شعر الخمر والمجون، لا يميل إلى التصديق بصدور تلك الكفريات عن ذلك الخليفة الأموى، مرجعا أخبارها وأشعارها إلى الصراع داخل البيت المروانى على كرسى الخلافة.
وبالمثل لا أوافق جلال العظم على اعتبار رسالة "مفاخرة الجوارى والغلمان" من باب "معارضة المقدس"، إذ الجاحظ لم يعارض فى أى من صفحاتها ولا فقراتها المقدس، ولا كان فى ذهنه شىء من هذا حين انبرى للكتابة فى ذلك الموضوع. كيف، وهو يتربع فى صدر المدافعين عن القرآن والإسلام مثلما نرى فى "الرد على اليهود" و"الرد على النصارى" و"نظم القرآن" و"آى القرآن" و"الرد على من ألحد فى كتاب الله عز وجل" و"دلائل النبوة"؟ ثم إنه يقول فى مقدمة تلك الرسالة ما نصه: "ونعوذ بالله أن نقول ما يُوتِغ ويُرْدِي، وإليه نرغب في التأييد والعصمة، ونسأله السلامة في الدِّين والدنيا برحمته" تبرؤا مسبقا مما يمكن أن يدور فى خَلَد إنسان من أنه إنما راغ الكتابة فى ذلك الموضوع خروجا على مقتضيات الخلق الكريم والتدين السليم. بل إنه ليعد التحرج فى ذلك المجال ضيقا فى الأفق وسطحية فى التدين. ومعروف أن الجاحظ من الكتاب الذين يحبون تقليب الأمور والنظر دائما إلى الشىء ونقيضه مؤمنين أنه ما من أمر إلا وله جانبان متقابلان، وأنه من تمام العلم بالأمر أن تراه من وجهيه بل من وجوهه جميعا.
فنزعته العقلية إذن لا معارضة المقدس هى التى دفعت به إلى معالجة ذلك الموضوع امتدادا لما صنعه مع موضوعات أخرى قابل فيها بين وجهتى النظر المتعارضتين فيها، اللهم إلا حين يكتب مدافعا عن الدين، وإن لم يمنعه هذا من الاجتهاد فى عرض حجج الخصوم عرضا قويا قبل أن يكر عليها فينسفها. وهذا الاتجاه عنده هو السبب الذى حدا بابن قتيبة وغيره إلى الظن السئ بأبى عمرو عثمان رحمه الله وبكتبه، إذ رأى ابن قتيبة مثلا أنه، حين يعرض حجج خصوم الإسلام، يتوسع ويفصل، فإذا ما صار إلى الرد عليهم اختصر وتجوَّز. وهو ما لا أوافقه بوجه عام عليه من خلال معرفتى بمنهج الجاحظ فى معالجة تلك الموضوعات. والجاحظ، فى كتابه الذى نحن بصدده، حين يعرض وجهتى النظر فى الموضوع المذكور، إنما يعرض ما يقوله المغرمون بالجوارى والمغرمون بالغلمان. ولا شك أنه كان هناك فى ذلك الوقت من يتبنى كلا من الرأيين، فجاء الجاحظ فأدى ما يقوله كل من الفريقين كما هو. فإذا كان هناك سخرية فهى سخرية الجاحظ من كلا الفريقين، اللذين يتجادلان فى أى الحرامين هو الأفضل من الحرام الآخر. أما إذا كان لا بد من القول بأن هناك سخرية من المقدس ومعارضة له فهى من جانب أصحاب الجوارى وأصحاب الغلمان لا من جانبه هو.
وعلى نفس المنوال لا يصح أن نعد، من باب معارضة المقدس، اقتراح عمرو بن العاص على عثمان ألا يقتل عبيدَ الله بن عمر بن الخطاب فى قتله الهرمزان بناء على أن ذلك القتل إنما وقع قبل أن يتولى الخلافة. إن العظم يعتبر هذا الاقتراح استخفافا واستهتارا بالدين وتحديا للمقدس وتسخيرا له فى خدمة السياسة، ثم ينطلق فى فاصل سمج فى محاولة تلقين عثمان وابن العاص أصول التدين والإيمان الصحيح المستقيم. عجبا! والحق أننا قد نتفق مع مقترح ابن العاص أو نختلف معه، لكن لا يمكن أن نتفق مع جلال العظم أو فرج فودة، الذى نقل عنه الحكاية مبتورة لزوم توبلتها بالبهارات المثيرة للشهية، فيما يقولانه ضد الصحابيين الجليلين.
ففى كتاب "الأوائل" لأبى هلال العسكرى نقرأ ما يلى عن اختلاف الصحابة، رضوان الله عليهم، فى بعض الأمور الفقهية: "وكان اختلافهم قبل ذلك في الفقه، ولم يكن اختلافاً يخطّئ فيه بعضهم بعضا. فلما نقموا أمر عبيد الله بن عمر... قال عبد الرحمن بن أبي بكر: مررت بالهرمزان وجفينة وأبو لؤلؤة وهم نَجِيٌّ، وذلك قبل أن يُطْعَن عمر. فلما بغتهم ثاروا وسقط من بينهم خنجر له رأسان. قال: وهو الخنجر الذي أصيب به عمر رضي الله عنه. فدعا عبيد الله الهرمزان وأدخله إلى مربد، وقال: انظر إلى فرس عندي. فقال: لا إله إلا الله. فقتله وواراه، وأرسل إلى جفينة، وكان نصرانيا، وأدخله المربد وضربه. فلما وجد مس السيف خر وصلب على الأرض صلبا وسجد. ثم خرج فقتل امرأة أبي لؤلؤة وبنتا له وابنا له صغيرا، فأُخِذ وحُبِس، وذلك في اليوم الثاني من موت عمر. فلما قام عثمان استشار في أمره، فقال عمرو بن العاص: دماء سُفِكَتْ في غير ولايتك، فاجعلها دية. فأخذ منه خمس ديات وخلى سبيله. وأنكر علي عليه السلام ذلك، ورأى قتله، فلما وَلِيَ خافه عبيد الله، فقدم الكوفة، وسأل الأشتر أن يأخذ له أمانا من علي، فأبى، وقال: إن رأيتُه لأقتلنه بالهرمزان فلحق بمعاوية. فقال معاوية: الحمد لله الذي جعلني أطالب بدم عثمان، وجعل علياً يطالب بدم الهرمزان".
وفى "الكامل" لابن الأثير: "جلس عثمان في جانب المسجد بعد بيعته، ودعا عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وكان قَتَل قاتل أبيه أبا لؤلؤة، وقتل جفينة رجلاً نصرانيًّا من أهل الحيرة...، وقتل الهرمزان، فلما ضربه بالسيف قال: لا إله إلا الله! فلما قتل هؤلاء أخذه سعد بن أبي وقاص وحبسه في داره وأخذ سيفه وأحضره عند عثمان، وكان عبيد الله يقول: "والله لأقتلن رجالاً ممن شَرِكَ في دم أبي"، يعرِّض بالمهاجرين والأنصار. وإنما قتل هؤلاء النفر لأن عبد الرحمن بن أبي بكر قال غداة قُتِل عمر: رأيت عشية أمس الهرمزان وأبا لؤلؤة، وجفينة وهم يتناجون، فلما رأوني ثاروا وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه، وهو الخنجر الذي ضرب به عمر، فقتلهم عبيد الله. فلما أحضره عثمان قال: أشيروا علي في هذا الرجل الذي فتق في الإسلام ما فتق! فقال علي: أرى أن تقتله. فقال بعض المهاجرين: قُتِل عمر أمس، ويُقْتَل ابنه اليوم؟ فقال عمرو بن العاص: إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث ولك على المسلمين سلطان. فقال عثمان: أنا وليُّه، وقد جعلتها دية، وأحتملها في مالي".
فكما نرى ليس هناك استخفافٌ ولا استهانةٌ بالدين ولا تحدٍّ له إلا فى العقول المريضة، إذ من الجلىّ أن عثمان، رضى الله عنه، كان مكروبا لما حدث، ولم يستطع أن يبصر طريقا ينفذ منه خلال هذه المعضلة الفقهية، فجمع الصحابة واستشارهم، فاختلفوا، وصار الأمر على شفا وقوع كارثة، إذ من الممكن لو قُتِل ابن عمر، الذى لم يكن قد قتل من قتلهم إلا لشبهات قوية ثارت فى نفسه، علاوة على أن مقتل أبيه، الذى كان ما فتئ طازجا، قد أطار جانبا كبيرا من عقله وحلمه. ولا ننس أن الدولة كانت فى مهب الريح آنذاك، وليس ينقصها أن تنقسم على نفسها فى تلك القضية وترتكس فى فتنة مستطيرة الشر والشرر إن لم يستطع عثمان أن يحسن التأتى لذلك الأمر. وبعد أن استشار الصحابة كما رأينا برز له داهية العرب ابن العاص بحلٍّ أراه وجيها غاية الوجاهة: فمن جهة أخذ السياق الذى ذكرته آنفا فى الاعتبار فلم يقتل ابن عمر من باب درء الحدود بالشبهات، ومن جهة لم يهدر حق أسر الهرمزان وبقية القتلى، إذ أعطاهم خمس ديات، ومن ماله الخاص. فأين الاستخفاف بالمقدس واستخدامه فى خدمة السياسة من جانب ابن العاص هنا؟ لكن ابن العظم يصر على أن يتحذلق ويتفلحس وهو قاعد إلى مكتبه وقد ارتدى ثوب المثالية المطلقة. ولم لا؟ أتراه خاسرا شيئا؟
فليتفلحس ابن العظم كما يحلو له، فلن يضارَّ بشىء، بل سيكسب سمعة مدوية بأنه رجل مبادئ لا يعرف التردد ولا التلجلج ولا يفهم إلا المضى على سَنَنِه فى خط مستقيم لا يميل به يمنة ولا يسرة، وفى ذات الوقت سوف يكون قد شكك طوائف من الناس فى عثمان وعمرو رضى الله عنهما، وتلك عنده غاية الغايات. وبالمناسبة فإننى لا أوافق عليا رضى الله عنه حين لم يعتبر دفع الديات لأهل القتلى حكما صحيحا، وأصر بعد توليه الخلافة على أن يقتل ابن عمر رغم أن القضية كانت قد نُظِرَتْ قبلا وانتهى الأمر فيها إلى الحكم بدفع الدية. ثم أتراه كان مسترجعا من أسر المقتولين فى هذه الحالة ما كانوا قد أخذوه من ديات؟ إن هذا التشدد فى إمضاء الأمور هو مما أخذه بعض المؤرخين والكتاب على سيدنا على كرم الله وجهه، وكان سببا فى أن انتقضت عليه الأمور مع ورعه وتقواه. وأخيرا فقد يقول قائل: ولماذا لم يُبْدِ علىّ نفس الهمة فى موضوع اغتيال عثمان؟ من هنا كان لا بد من أن نأخذ فى الحسبان السياق والظروف التى وقع فيها الخطأ حتى لا نضل الحكم السليم، فكثيرا ما تكون هذه الظروف مخففة للحكم أو ملغية له. وهذا أمر معروف ومعمول به فى ميدان القضاء، وبخاصة حين تكون البلاد فى حالة اضطراب سياسى مربك ومرهق كالحالة التى كانت عليها دولة الإسلام فى ذلك الحين، وتكون للقضية المنظورة وشيجة عنيفة تشجها بذلك الاضطراب.
وممن اتهمهم جلال العظم بمعارضة المقدس ابن المقفع والمتنبى وأبو العلاء المعرى. قال مثلا عن أول هؤلاء الثلاثة: "لا بد من الإشارة إلى ابن المقفع لنمعن النظر قليلا بالاستهزاء النقدى المبطن والراقى جدا فى نعومته ورهافته بالمقدس الذى تنطوى عليه الرواية القائلة إنه ظل يستعمل زمزمة المجوس أثناء طعام العشاء ليلة اليوم السابق لإعلان إسلامه، فسأله على بن على: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام؟ فأجاب: كرهت أن أبيت على غير دين. ومعروف كذلك أنه عارض القرآن، ليس على سبيل المضاهاة التهكمية للشكل والأسلوب والسجع والفخامة والبلاغة فحسب، بل على سبيل نقد مادته وتعاليمه أيضا. واستيفاءً لهذا الغرض أسمى أحد كتبه بـ"ادرة اليتمية".
وابن المقفع هو ذلك الكاتب الأموى العباسى المشهور، وهو من أهل القرن‏‎ ‎الثانى للهجرة، ومن أصل فارسى. وعند قيام الدولة العباسية ‏اتصل بعم الخليفة المنصور، عيسى بن على، وأصبح كاتبا لديه ذا ‏حظوة. وتحكى الروايات أنه قال لعيسى بن على ذات ليلة: ‏قد دخل الإسلام في قلبى، وأريد أن أُسْلِم على يدك. فقال له عيسى: ‏ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس. فإذا كان الغد فاحضر. ثم ‏حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجلس ابن المقفع يأكل ويزمزم على ‏عادة المجوس. فقال له عيسى: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام؟ فقال: ‏أكره أن أبيت على غير دين. فلما أصبح أسلم على يده. وابن المقفَّع ‏عَلَمٌ من أعلام الكتاب يتسم إبداعه بقوة الأسلوب وروعة القص ‏والتحليل. ومن أشهر ما وصل إلينا من تراثه الفكرى والأدبى "كليلة ‏ودمنة، والأدب الصغير، والأدب الكبير، ورسالة الصحابة، والدُّرَّة ‏اليتيمة".
وأول شىء ‏ننظر فيه هو تلك الحكاية التى فرغنا منها لتونا، والتى وردت فى ‏‏"وَفَيَات الأعيان" لابن خَلِّكان، فهى مثال على الأخبار التى لا تثبت ‏على التمحيص لما فيها من أشياء لا يقبلها المنطق، إذ ما دام الإسلام قد ‏دخل قلب الرجل فمعنى هذا أنه أمسى مسلما، فالإسلام إنما يُعْنَى أولا ‏وقبل كل شىء بالنية، ولا يقف عند الرسوم والأشكال كثيرا. وما دام ‏الرجل قد انتهى إلى أن ما كان عليه من دين أسلافه لم يعد يدخل العقل ‏أو القلب، فكيف يصر على أن يتبع رسومه وشعائره إلى الغد حينما ‏يحضر كبار رجال الدولة وأعيانها، وهو الذى لم يعد مقتنعا به؟ أوَيمكن ‏التصديق بأنّ من دخل الإسلام قلبه، وبالذات إذا كان كابن المقفع نفسه، أحد ‏كبار كتاب عصره، يقبل أن يظل متمسكا بديانته الوثنية القديمة ‏ومناسكها على هذا النحو المضحك لأن مولاه آثر أن يؤجل مراسم ‏إعلان إسلامه إلى أن يجتمع عنده كبار رجال الدولة من الغد؟ إن كل ما ‏عرضه عليه عيسى بن على هو تأجيل الإعلان الرسمى لا أكثر، ولم ‏يعرض عليه أن يؤجل دخوله فى الإسلام إلى الصباح، إذ كان ابن المقفع ‏قد صار مسلما وانتهى الأمر بمجرد أن اقتنع بدين النبى العربى كما أكد ‏ذلك لعم الخليفة.
وإذا كان كاتبنا قد عز عليه أن يبيت على غير دين فلم يا ترى لم ‏يسمّ اسم الله على الطعام ويكون قد بات على الإسلام، وهو الدين الذى ‏نوى أن يعلنه على الملإ من غده؟ أقول: على الملإ لا بينه وبين ربه، لأن ‏الأمر بينه وبين ربه قد بات محسوما! إن الطبيعى أن يكون سيره فى ‏نفس الاتجاه الذى نوى أن يمضى فيه كما يقضى المنطق والعقل لا ‏بعكسه. أليس كذلك؟ ثم إذا كانت الزمزمة هى تراطن العلوج على ‏أكلـهم وهم صموت لا يستعملون لسانا ولا شفة، ولكنه صوت يديرونه في ‏خياشيمهم وحلوقهم فيفهم بعضهم عن بعض كما جاء فى "القاموس ‏المحيط"، فلماذا يا ترى زمزم ابن المقفع على الطعام فى تلك الليلة، وليس ‏ثَمَّ ناس على دينه القديم يتفاهم معهم بهذه الزمزمة؟ أتراه كان بعقله ‏خلل؟ لكنْ أمثل ابن المقفع يصاب فى عقله بخلل كهذا، وفى ظرف ‏كهذا، وأمام واحد من كبار رجال الدولة كهذا؟ من هنا فإنى أرفض ‏هذه الجانب من الرواية كما سأرفض أشياء أخرى عن ابن المقفع ‏ وزندقته لا تقنع الطفل الصغير رغم ترددها فى عدد من ‏الكتب. ولا ننس، إلى جانب هذا، أنه قد أعلن إسلامه اليوم التالى. فلو كان مستخفا بالمقدس (أى الإسلام) فلم أعلن إسلامه إذن؟ وإذا كان ثم معارضة للمقدس فلم ينبغى أن تكون المعارضة موجة إلى الإسلام، الذى اختاره بمحض إرادته وليس إلى دينه القديم، الذى لم يعد يقنع عقله أو يريح قلبه وضميره؟ أو لماذا لا يكون المقصود بالمعارضة والاستخفاف هو عيسى بن على، الذى أصر على أن ينتظر ابن المقفع بإعلان إسلامه إلى الغد واجتماع كبار رجال الدولة لشهوده غير دار أن الدخول فى الإسلام محله القلب لا مجتمع كبار القوم؟ أرجو أن يعنى جلال العظم نفسه بالجواب عن هذه السؤالات قبل أن يستظرف ويستخف دمه.
أما اتهام ابن المقفع بمعارضة القرآن فى كتاب "الدرة اليتيمة" فلا بد أن نعرف أولا أن هذا الكتاب ليس سوى كتابه: "الأدب الكبير" حسب نشرة صبيح لها بمقدمة من الأمير شكيب أرسلان، فضلا عما كتبه ابن المقفع فى هذه الرسالة من أن "أصل ‏الأمرِ في الدينِ أن تعتقد الإيمان على الصواب، وتجتنبَ الكبائرَ، وتُؤَدِّيَ ‏الفريضةَ. فالزم ذلك لزوم من لا غنى له عنهُ طرفة عينٍ، ومن يعلم أنهُ إن ‏حُرِمَهُ هلك. ثم إن قدرتَ على أن تجاوز ذلك إلى التفقه في الدين ‏والعبادة فهو أفضلُ وأكملُ".‏ ثم إن لدينا سؤالا منطقيا يننظر الجواب ويلح فى طلبه إلحاحا ‏عنيفا صارخا: فلنفترض أن ما قاله ابن طباطبا العلوى فى القرن الثالث الهجرى بعد موت ابن المقفع بقرن كامل فى كتابه" الرد على الزنديق اللعين ابن المقفع عليه لعنة الله" من أن ابن المقفع قد وضع فعلا كتابا فى معارضة القرآن استشهد منه فى رده عليه بكثير من فقراته، فأين كان ذلك الكتاب طوال ذلك القرن؟ هل نزل من ‏السماء بغتة فى عصر القاسم بن إبراهيم بعدما كان قد رفعه الله إثر ‏فراغ ابن المقفع من وضعه فلم يطّلع عليه قبل ذلك أحد، إلى أن جاء ‏القاسم فكانت مشيئة الله أن يفرج عنه وينزله عليه كى يختصه بشرف ‏الانفراد بتخطئته قبل أن تزدحم على مورده الأقلام ولا يكون هناك ‏فرصة له للتميز فى هذا الميدان؟ ولقد وضعت دراسة تبلغ خمسا وستين صفحة درست فيها الاتهامات التى رُمِىَ بها ابن المقفع فى عقيدته بما فيها دعوى معارضته القرآن، وبينت بالمقارنات الأسلوبية والمضمونية أن ما استشهد به ابن طباطبا العلوى على زندقة ابن المقفع من نصوص قيل إنه يعارض بها القرآن لا ينطبق على ابن المقفع، الذى نعرفه. وقد يكون هناك ابن مقفع آخر مغمور هو المقصود بلعائن ابن طباطبا، وبخاصة أنه يشير إليه فى رده عليه بقوله: "خَلْفُ سوءٍ استخلفه إبليس ‏على ما خلّف مانى من الضلالات، يسمَّى: ابن المقفع، عليه لعنة الله ‏بكل مرأًى ومسمع... فوضع كتابا أعجمى البيان، حكم فيه لنفسه ‏بكل زورٍ وبهتان". فهل كان ابن المقفع مغمور الشأن إلى الحد الذى يشير إليه فيه ابن طباطبا بأنه "يسمى: ابن المقفع"، فضلا عن وصفه لأسلوبه بأنه أعجمى البيان؟ وبمكنة القارئ أن يطالع هذا كله وأضعافه فى بحثى المذكور آنفا والمنشور على المشباك بعنوان "هل كان زنديقا؟ هل كتب معارضة للقرآن الكريم؟ كلمة فى عقيدة ابن المقفع".
وأَصْلُ هذا البحث هو ما أثاره طلابى فى كلية التربية بجامعة أم القرى- فرع الطائف ذات محاضرة فى أوائل تسعينات ‏القرن المنصرم من أن ابن المقفع زنديق لا يمت للإسلام بصلة. أى أن ‏تحوله إلى الإسلام لم يكن صادقا، بل ظل الرجل فى أعماقه كافرا. فهو ‏إذن كان يتظاهر بالإسلام، على حين ما بَرحَ، فيما بينه وبين نفسه، على ‏دين قومه القديم كما كان قبلا. ‏وهم، فى هذا، إنما يرددون ما جاء فى بعض كتب التراث التى ‏ترجمت للرجل. وكان جوابى عليهم أن الاتهام بالزندقة لا يعنى بالضرورة ‏أن المتَّهَم بها زنديق فعلا، إذ ثمة فرق كبير بين توجيه التهمة وبين ثبوتها ‏حقا على من رُمِىَ بها. وزدت فقلت لهم إن ما قرأته لابن المقفع وعنه ‏لا يجعلنى أصدق مثل تلك التهمة. فالرجل يبدو مسلما يبعث إسلامه ‏على الاطمئنان، ولم يُؤْثَر عنه شىء من شأنه أن يشككنا فى عقيدته. ‏
كما دار بينى وبينهم فى ذات التوقيت نقاش آخر حول عقيدة الشاعر العباسى ‏بشار بن برد، الذى لم يكن رأيهم فيه أفضل من رأيهم فى ابن المقفع. وهو ‏ما حدانى إلى أن أعكف على شعر الرجل وعلى كل ما وقعتْ يدى ‏عليه من كتب ودراسات تتعلق به وبشعره وشخصيته واعتقاده، وكانت ‏ثمرة ذلك أنْ وضعت كتابا من أربعمائة صفحة عنه خصصت منه فصلا ‏طويلا يبلغ عشرات الصفحات لدراسة عقيدة الشاعر قلبت فيه الأمر ‏على كل وجوهه ولم أترك صغيرة ولا كبيرة إلا فحصتها فحصا دقيقا ‏مرهقا، فتبين لى أن الرجل كان مسلما، وإنْ أخذتُ عليه فى ذات ‏الوقت أنه لم يكن يلتزم فى حديثه فى بعض أمور الدين جانب الجِدّ ‏والوقار، وهذا كل ما هنالك. وقد أوردت أدلة وبراهين وشواهد كثيرة ‏وقوية جدا على صحة ما أقول. وانتهيت إلى الاطمئنان إلى عقيدة ‏الرجل. وأنا حين أقول هذا لا يخطر لى أبدا على بال أن أُنَصِّب نفسى ‏قَيِّمًا على دين الرجل ومصيره عند ربه، إذ مَنْ أنا أو غيرى حتى نفكر ‏مثل هذا التفكير؟ إنما هى متطلبات البحث الأدبى لا أكثر ولا أقل، ‏فهى مجرد اجتهادات علمية قد تصيب، وقد تخطئ. أما الحقيقة فهى ‏عند الله سبحانه وتعالى. وإذا كنا لا نعرف مصيرنا نحن فهل يمكننا ‏الادعاء بأنا نعرف مصير الآخرين؟ فأرجو من القراء دائما أن يكونوا ‏على ذكر من هذا الذى نقول، منعا لسوء الفهم.
وكنت من قبل قد صنعت نفس الشىء مع المتنبى، الذى أصدرت عنه فى منتصف ثمانينات القرن الفائت ثلاثة كتب، فاتضح لى أن ‏الرجل مسلمٌ عادىٌّ مثلى ومثل ملايين المسلمين رغم ما لاحظته أحيانا ‏على شعره من الإغراق فى بعض المبالغات التى ينبغى ألا نحمّلها ما لا ‏تحتمل، بل علينا أن نفهمها فى إطار فنه الشعرى. ويجد القارئ هذا ‏الكلام فى كتابى: "المتنبى- دراسة جديدة لحياته وشخصيته". كذلك ‏ تناولت، وأنا فى السعودية، المسألة ذاتها فيما يخص الشهرستانى صاحب "الملل ‏والنحل"، إذ كان قد تعرَّض لمثل تلك التهمة، فتبين لى أن إسلام الرجل لا ‏غبار عليه وأنه ليس فى يد متهميه أى دليل على صحة ما يرمونه به فى ‏دينه. ولمن يريد الاطلاع على هذا الموضوع يمكنه أن يقرأه فى الفصل ‏الذى خصصته لذلك المفكر الكبير فى كتابى: "من ذخائر المكتبة ‏العربية". كما قيل شىء من هذا عن كتاب ‏‏"الفصول والغايات" لأبى العلاء المعرى، الذى اتُّهِم بأنه قد أراد به مضاهاة القرآن. لكنى وجدته فى ذلك الكتاب ‏ينافح عن القرآن ذاته منافحة صلبة، فمن ثم أنكرت بكل قوة أن يكون ‏المعرى قد أراد معارضة القرآن، وعددت ما اتُّهِم به فى هذا السبيل ‏كلاما فارغا لا يُؤْبَه به. و"كم فى الحبس من مظاليم" كما يشير المثل العامى ‏المصرى!‏
وبالمثل تحدث جلال العظم عن التلاعب فى النص الأصلى للقرآن الكريم زاعما أنه أمر حقيقى وأنه حدث مرارا. ومن بين من اجترحوا هذا التلاعب فى رأيه، وبدم بارد وسوء مقصد، الحجاج بن يوسف الثقفى، الذى بدلا من توجيه الشكر له والثناء عليه لإدخاله مزيدا من الضبط على خط المصحف بما يساعد على تحرى الدقة فى قراءة النص الكريم نجد جلال العظم يتهمه أبشع الاتهامات فى هذا المجال معتمدا على نص لا يدخل العقل ينسب فيه ابن عساكر إلى والى بنى أمية زعمه نزول الوحى عليه مما لا يمكن أن يعقله أحد لديه شىء من الرشد، وكذلك على ما ورد فى رسالة عبد المسيح الكندى. ولن أقف عند كل ما قاله العظم، وإلا فلن أنتهى، وإنما سأتوقف فقط عند هذه النقطة الأخيرة. ترى هل يعقل أن يقدم رَجُلُ عَبْدِ الملكِ بن مَرْوان على مثل هذا التلاعب بالقرآن الكريم؟ فلماذا يا ترى؟ هل كان هناك نص فى القرآن على أحقية على وإدانة معاوية فحذفه؟ لقد مات كل من على ومعاوية منذ زمن غير قريب، وانتهى الصراع بينهما بنجاح معاوية واستتباب الأمر له ولورثته من بعده، ولم يكن هناك حينئذ سوى الخلاف بين عبد الملك وابن الزبير، وهذا موضوع لا يمكن الزعم أبدا بأن للقرآن صلة به أى صلة. فلم إذن يُقْدِم الحجاج أو غير الحجاج على العبث بالنص القرآنى فى ذلك العصر؟ وفوق هذا فمن الجلى الواضح أن جلال العظم لا يعرف شيئا عن مراجعه ومصادره، أو يعرف، لكنه يتباله ويتساذج علينا، وإلا فهل هناك شخص فى دماغه مسكة من عقل يتخذ من رسالة عبد المسيح، ورسالة عبد المسيح بالذات، مستنَدا للقول بأن القرآن قد لحقه العبث فى عهد عبد الملك بن مروان؟ الواقع أنه ليس أمامى سوى استنتاجين، وكلاهما أضرط من أخيه. ألا وهما أن العظم لا يعرف كيف يبحث بحثا علميا، أو أنه يقصد قصدا الإساءة إلى الإسلام، ومن ثم يلجأ عامدا متعمدا إلى مثل رسالة الكندى لأنها تساعده على إيقاع تلك الإساءة بمنتهى اليسر والسهولة. ولكن هيهات ثم هيهات!
ورسالة الكندى هى إحدى رسالتين دينيتين جداليتين مترابطتين: الأولى من مسلم اسمه عبد الله بن إسماعيل الهاشمى إلى مسيحى يسمى عبد المسيح بن إسحاق يدعوه فيها إلى الإسلام، والثانية رد من هذا إلى ذاك يفند فيها الإسلام ويتطاول على الرسول الكريم ويبين له أن النصرانية أفضل من الدين الذى أتى به محمد، وأن المسيح إله نزل من عليائه وتجسد فى شكل بشر ليفدى العالم من خطيئته، على حين أن محمدا ما هو إلا رجل جلف ونبى كذاب. وهل يمكن أن يصدق عاقل أو حتى مجنون أن نصرانيا فى ذلك الزمن يخطر له فى بال أن يتطاول على النبى محمد فى دولة الإسلام ويتهمه أمام مسلم هاشمى قوى الدين بأنه رجل جلف ونبى كذاب، وأن عيسى إله تجسد ومات على الصليب، وأن الإسلام دين فاسد؟ ثم لقد كان الهاشمى والكندى صديقين يعيشان فى أيام الخليفة العباسى المأمون بن هارون الرشيد، الذى يمت إليه عبد الله بن إسماعيل بآصرة القربى، ويشتغل فى خدمته عبد المسيح بن إسحاق على ما يقول ناشرو الرسالتين. فمنذ متى كان الأصدقاء الحميمون على شاكلة الهاشمى والكندى يتحاورون فى الدين فى رسائل مكتوبة، وهم يتقابلون فى كل وقت، ويمكنهم النقاش شفاها؟
كذلك كيف تسكت كل كتب التراث عن تينك الرسالتين ومؤلفيهما، بل كيف يسكت جميع علماء المسلمين فلا يردون على ما أثاره الكندى من أراجيف وشبهات، وهذا إن تركوه أصلا يعيش لحظة واحدة بعدما نال من رسولهم بكل هذه العدوانية والبذاءة والانحطاط؟ وهل يصدق أحد أن المأمون، حين يشير إلى النبى، يقول عنه: "صاحبنا" حسبما جاء فى رسالة عبد المسيح الموهوم؟ إن هذا لهو المستحيل بعينه! وفوق هذا فلا يوجد فى تاريخ الإسلام هاشمى ينطبق عليه ما ذكرته له الرسالة من اسم ونسب وصفات شخصية إلا بعد عصر المأمون، الذى قيل إن الرسالتين قد أُلِّفَتا فيه، بأكثر من قرن، أما عبد المسيح فلا يوجد له من أثر فى التاريخ بتاتا نستطيع أن نتعقبه ونعرف من خلاله من هو: ببساطة لأنه شخصية مصنوعة صناعة. كما لوحظ أن الهاشمى يقع فى أخطاء لا يقع فيها مسلم عنده أدنى إلمام بالدين، من مثل قوله إن الرسول كان يقول: "السلام عليكم ورحمة الله" لكل إنسان، مسلما كان أو غير مسلم. ذلك أن رسائله، عليه الصلاة والسلام، إلى غير المسلمين من ملوك وأمراء متاحةٌ لمن يريد، وليس فيها تلك الصيغة أبدا لأى واحد من غير أتباعه. كذلك ورد فى رسالة الهاشمى أحاديث منسوبة للنبى عليه الصلاة والسلام لا وجود لها أصلا حتى فى كتب الأحاديث الضعيفة، وتحتوى على ألفاظ لم ترد فى أى حديث كلفظى "الديانة" و"الفظاظة". وبالمثل يستحيل أن يقول أحد المسلمين فى تلك العصور: "ويقول الله مؤكدا"، بل إنى لأحسبها غريبة جدا حتى فى عصرنا هذا. وأيضا لا يعقل أن يسمِّىَ مسلمٌ آنذاك كتبَ العهد القديم والعهد الحديث بـ"الكتب العتيقة" و"الكتب الحديثة"، فهاتان تسميتان لم تعرفا إلا فى عصرنا الحديث، أو أن ينخرط الهاشمى فى نوبة من المديح والثناء على القساوسة واصفا إياهم بالخشوع والتقوى، أو يقول إن المسيح قد بعث الحواريين دعاة له إلى الأمم فى حين يؤكد الإسلام أنه إنما بُعِث إلى بنى إسرائيل فحسب، وهو ما يؤكده العهد الجديد حينما أورد على لسان المسيح عليه السلام قوله إنه لم يبعث إلا إلى خراف بنى إسرائيل الضالة. ومن سخافات الرسالة أيضا ما وضعه ملفقوها على لسان الهاشمى من أن النبى كان يُوَادّ النساطرة، وأنهم من جهتهم كانوا يحبونه ويعضدونه ويساعدونه على تأدية رسالته. وهو كلام أخطل لا يتصور صدوره أبدا من أى عالم مسلم... إلى آخر ما الرسالةُ مفعمةٌ به من الأخطاء والتناقضات والمستحيلات. ومع هذا كله نرى جلال العظم يعض بالنواجذ على ما جاء فيها مما يظن أنه ينال من الإسلام والمسلمين. وهذا كله وأضعافه متاح، لمن يريده، فى ردى على تلك الرسالة التافهة تفاهة من نشروها وتفاهة من يحسبون أنها يمكن أن تساعدهم على إيهام المسلمين بصحة تلفيقاتهم ضد دينهم. وعنوان هذا الرد هو: "رسالة تافهة يطنطن بها المبشّرون! هتك الستار عما فى رسالة الكندىّ الحِمَار من عار وعُوَار". وهو يشكل فصلا من كتابى: "حجج الإسلام وشبهات خصومه".
أما ما حرص العظم على الإشارة إليه من الدعاوى المتهافتة لبعض علماء الشيعة من أن مصحف عثمان لا يتضمن كل النص القرآنى، بل حذفت منه أشياء، فهو أسخف من السخف ذاته، ولن يوصِّل العَظْمَ عَوْضُ إلى ما يريد من التشكيك فى عصمة القرآن من التحريف أو الضياع. وأحيله إلى رسالتى التى تناولت فيها سورتى "النورين" و"الولاية"، اللتين يزعم فريق من غلاة الشيعة أنهما كانتا ضمن سور القرآن لكنْ حذفهما خصوم علىٍّ كى يطمسوا ما ذكره القرآن من حقه هو وذريته إلى الأبد فى الولاية وحكم المسلمين. وعنوان الرسالة هو: "سورة النورين التى يزعم فريق من غلاة الشيعة أنها من القرآن الكريم"، وهى متاحة على المشباك بصورة بى دى إف. وفيها أبين بالإحصاءات والمقارنات الأسلوبية والمضمونية المفصلة التى لا يخر منها الماء أن تَيْنِكَ السورتين لا يمكن أبدا أن تكونا من القرآن المجيد. وأظن أن قدر جلال العظم العلمى الحقيقى قد اتضح الآن بعد هذه التطوافة القصيرة فى بحثه عن كتاب سلمان رشدى: "الآيات الشيطانية".
وآخر موضوع أود تناوله من كتاب جلال العظم هو تأكيده أن محاولة معاقبة المتمردين على الدين، الذى يراه شيئا رجعيا متخلفا، هى محاولة مقضى عليها بالفشل، إذ إن قاطرة التقدم لا ترحم من يقف فى طريقها، بل تدهسه، ولن تستطيع المجتمعات الإسلامية الصمود أمام اختراق الحضارة الغربية لها مهما حاولت وفعلت، ولا بد لها إذن أن تتخذ العلم الحديث وما ترتبط به من التطبيقات التكنولوجية منهج حياة بدلا من التشكيلات المعرفية السابقة من دين وأسطورة وسحر وتنجيم وغيب وخرافة وخوارق وحكمة متوارثة وأمثال متداولة واعتقادات شائعة، وذلك بناء على ما قاله ماركس فى تحليلاته لتقدم البشرية. وهو يؤكد أن سلمان رشدى واع تماما بكل هذا، ويؤمن بأن الحضارة التى تعيش على أمجاد ماضيها ولا تعرف كيف تعبر العالم الثالث أو كيف تتجاوز فضاءه الخارجى المسحور بحيث ترجع إلى التاريخ بكل ما يتطلبه منثقل وزن فمصيرها هو مزبلة التاريخ الشهيرة. وهو ما يوافق جلال العظم سلمان رشدى عليه تمام الموافقة. ثم يضيف قائلا إنه حين يمعن النظر فى موضوع سلمان رشدى يستنتج أن العالم الإسلامى بحاجة اليوم إلى حداثة العقل والعلم والتقدم والثورة بدلامن أصالة الدين والشرع والتراث والرجعة. والغريب أنه، رغم ذلك، يعود عقب هذا إلى القول بأن محمدا كان نبيا ورعا تقيا أرسله الله لتنفيذ خطته الكونية، وفى نفس الوقت كان رجل سياسة وتاجرا يحسب كل شىء بالمسطرة والقلم وزير نساء. كيف؟ لا أدرى. كما يقف أمام ما ورد فى القرآن من معجزات خوارق لا يعقلها المنطق قائلا ما معناه: أليس الأحجى أن أفهم مثل هذه الأشياء على أنها مجرد رموز بدلا من الاعتقاد فى صحتها شأن العميان والجهال؟ ويختم بحثه بالتساؤل التالى: "هل يعمل مثقفو العالم الإسلامى على تقدم مجتمعاتهم وتحرر شعوبهم حين يتجاهلون هذه المسائل كلها ويضعون سلاح النقد جانبا ليسايروا، دون قناعة حقيقية وجدية فى معظم الأحيان، ما هو سائدٌ من تعميمات دينية، ومُسَيْطِرٌ من أساطير تاريخية، ومُتَحَكِّمٌ من خرافات شعبوية، وشائعٌ من إيديولوجيات أصولية ارتدادية؟ هذا هو نوع الأسئلة والمشكلات والقضايا التى يريد أعداء رشدى وخصومه شرقا وغربا قمعها ومنع قيام أية مناقشة مفتوحة وعصرية حولها فى العالم الإسلامى، أو أية مراجعة عقلانية علمية جديدة لمعناها ودورها وأهميتها فى حياتنا الاجتماعية والثقافية والفكرية المعاصرة".
ونبدأ بحكاية عجز المجتمعات الإسلامية (الحتمى المزعوم) عن إيقاف عملية اختراق الحضارة الغربية لها مهما اتخذت من إجراءات وتمادت فى عقوبة المتمردين على دينهاوتقاليدها وعقائدها وما إلى هذا، فنسأل: أية حضارة غربية تلك التى يتحدث عنها جلال العظم؟ لقد كان الرجل ماركسيا، أى على دين الكتلة الشرقية من العالم الغربى، وهو دين يختلف عن دين الكتلة الغربية من ذلك العالم، بل يتناقض معه فى جوانب كثيرة وجوهرية منه، فأى الدينين يقصد؟ لقد كانت هناك حرب طاحنة بين الكتلتين لا تقل إن لم تزد عن الحرب بين الغرب والإسلام، فكيف يا ترى ينبغى أن نفهم كلام السيد جلال العظم؟ إنه يتحدث عن ماركس ونبوءاته وكأنها الوحى السماوى عند المسلمين رغم ما اتضح لكل ذى عينين من غير عميان الماركسية أنها نبوءات مغشوشة رآها صاحبها فى المنام وهو عريان السوأة فلا ينبغى أخذها مأخذ الجد. وهو وأمثاله من أيتام الماركسية أعظم برهان على صحة ما نقول، إذ أين الماركسية الآن؟ بل أين الاتحاد السوفييتى ذاته ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية واليمن الجنوبى وصومال سياد برى وأفغانستان برباك كارمل... إلخ؟ بل أين بورقيبه وعبد الناصر وبشار الأسد وغيرهم ممن صدّقوا، على نحو أو على آخر، ما يهرف به أخونا العظم من استحالة الوقوف فى وجه اختراق الحضارة الغربية لمجتمعاتنا ومحاولتها القضاء على ديننا المتخلف الرجعى؟
ولقد قالها قبلا د. طه حسين، الذى ألح فى كتابه: "مستقبل الثقافة فى مصر" الصادر أواخر ثلاثينات القرن الماضى على أن السبيل إلى إلى التحضر والعزة والسيادة "ليست فى الكلام يُرْسَل إرسالا ولا فى المظاهر الكاذبة والأوضاع الملفقة، وإنما هى واضحة بينة مستقيمة ليس فيها عِوَجٌ ولا التواء، وهى واحدةٌ فَذَّةٌ ليس لها تعدد. وهى أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا، ولنكون لهم شركاءَ فى الحضارة خَيْرِها وشَرِّها، حُلْوِها ومُرِّها، وما يُحَبّ منها وما يُكْرَه، وما يُحْمَد منها وما يعاب". هكذا مرة واحدة، خبط لزق! وقد علق على هذه الدعوة المريضة د. محمد محمد حسين رحمه الله فى كتابه: "الاتجاهات الوطنية فى الأدب المعاصر" فقال: "وهو شبيهٌ بقول آغا أوغلى أحمد، أحد غُلاَة الكماليين من الترك فى أحد كتبه: "إنا عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الأوربيين، حتى الالتهابات التى فى رِئِيهم والنجاسات التى فى أمعائهم".
وطبعا ليس لذلك من معنى إلا أنه ما دامت أوربا تُلْحِد فلا بد لنا نحن أيضا أن نُلْحِد ونكفر بالله وبملائكته ورسله واليوم الآخر، وما دامت أوربا تنظر إلى الرسول على أنه نبى غير حقيقى فلا بد لنا نحن أيضا على سبيل التبعية أن ننظر إليه صلى الله عليه وسلم بنفس العين، وما دامت أوربا تبيح الخنزير والخمر والميسر والزنا واللِّوَاط والسِّحَاق والربا فلا بد لنا أيضا أن نصنع صنيعها فنأكل الخنزير ونشرب الخمر ونلعب الميسر ونزنى ونَلُوط ونُسَاحِق ونُرَابِى... وهكذا. أليس هذا بعض ما تتضمنه حضارة أوربا من شرور وعيوب مما أوصانا طه حسين أن نأخذه مع حضارة أوربا صفقةً واحدةً دون انتقاءٍ أو تطهيرٍ؟ إن الرجل حريص أتم الحرص على أن "نرى الأشياء كما يراها (الأوربى)، ونقوِّم الأشياء كما يقوِّمها، ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها، ونطلب من الدنيا مثل ما يطلب، ونرفض منها مثل ما يرفض".
وعلى هذا فإذا سمعناه يقول فى موضع آخر: "إذا دعَوْنا إلى الاتصال بالحياة الأوربية ومجاراة الأوربيين فى سيرتهم التى انتهت بهم إلى الرقىّ والتفوق فنحن لا ندعو إلى آثامهم وسيئاتهم، وإنما ندعو إلى خير ما عندهم وأنفع ما فى سيرتهم... ونحن، حين ندعو إلى الاتصال بأوربا والأخذ بأسباب الرقىّ التى أخذوا بها، لا ندعو إلى أن نكون صُوَرًا طبق الأصل للأوربيين كما يقال، فذلك شىء لا سبيل إليه ولا يدعو إليه عاقل. والأوربيون يتخذون المسيحية لهم دينا، فنحن لا ندعو إلى أن تصبح المسيحية لنا دينا، وإنما ندعو إلى أن تكون أسباب الحضارة الأوربية هى أسباب الحضارة المصرية لأننا لا نستطيع أن نعيش بغير ذلك، فضلا عن أن نَرْقَى ونَسُود"، إذا سمعناه يقول ذلك عرفنا أنه لا يقول ما فى قلبه، وإنما يحاول أن يخدعنا عن نفسه، فهذه طريقة طه حسين: يضرب الضربة، ثم يستدير إليك حين يرى أنك لم تمت بَعْدُ قائلا: "أنا آسفٌ أنْ آلمتُك عن غير قصد"! ثم يمضى مسددا لك اللكمات والضربات المُصْمِيَة التى يريد بها أن يقتلك! وبمناسبة ما قاله طه حسين عن أنه لا يريد للمسلمين أن يعتنقوا المسيحية فإنى لا أستطيع أن أطرد عن ذاكرتى ما خطر لى الآن مما قرأته عن تعميده فى كنيسة إحدى القرى بالجنوب الفرنسى قبيل زواجه من سوزان، أو عن اقتران حفيدته بشاب يابانى، أو ما سمعتُه أواسط ثمانينات القرن الماضى من أستاذةٍ للغة الفرنسية، لها بباريس صلة قوية، عن تنصّر ابنه رسميا فى فرنسا آنذاك، وإن كنت لا أريد أن أخوض فى هذا الأمر أكثر من هذا لأنى لا أملك بين يدىّ الآن وثائق مكتوبة.
وهذا الكلام الذى يردده جلال العظم على سبيل المثال، ومن قبله طه حسين، هو السخف بعينه، وإلا فلماذا لم يتبع الأوربيون أيام تخلفهم وتقدم الحضارة الإسلامية هذه الحضارة قلبا وقالبا وتخلَّوْا عن دينهم وعاداتهم وتقاليدهم وأذواقهم وسلوكهم وأخلاقهم؟ لقد أخذوا من حاضرتنا الغابرة أشياء، وتركوا أشياء، وها هم أولاء قد صاروا فى نظر العظم وأمثاله المثال الذى ينبغى أن يحتذى. وطه حسين والعظم وأشباههم إنما يرددون مقولات الغربيين ويتبنَّوْن نظرتهم فى أن أوربا هى مركز العالم، وليس هناك أى سبيل أمام أية دولة أو أمة إلا أن تفنى فيهم وتصير عبدة لهم، إذ هى النموذج والمثال الأعلى الذى لا يد من احتذائه لكل من يريد نجاحا وتقدما واستنارة وغنى. هم يتظاهرون بأنهم إنما يريدون لك الخير والسعادة والتقدم مثلهم، ولكن حاول أن تصدقهم، فلن تجد منهم إلا الحرب العوان لك والعمل بكل طريق على إبقائك حيث أنت متخلفا مريضا فقيرا جاهلا معتمدا فى كل أمورك عليهم حتى يمكنهم ساعة الجد أن يركّعوك تحت أقدامهم بل أن يطحنوك بأضراسهم. وما طه حسين وجلال العظم ومن على شاكلتهما سوى القاطرة التى تشد بقية العربات إلى وادى التبعية والعبودية والضلال والهوان. ومع هذا فلسوف تسمع صرير الأقلام مزعجا يزعم أنهم هم القادة المعلمون الذين ينبغى أن يصيخ إليهم الجميع ويتبع خطاهم الجميع لا مناص من ذلك، وإلا عُدَّ من يخالفهما متخلفا رجعيا لا ينتمى إلى العصر، ومكانه متاحف التاريخ.
لقد نسيت أوربا، ونسى وراء نسيانها قرودنا الذين يلعبون طبقا لأوامرها "عجين الفلاحة" و"نومة العازب" ولا يحسنون غير تلك الألاعيب البهلوانية الرخيصة التى يغرم بها المختلفون، لقد نسيت أوربا ونسى معها قرودنا أنها لم تكن طوال عمرها متقدمة قوية متعلمة غنية صحيحة البدن والعقل، بل كانت تعانى التخلف والانغلاق والتكلس العقلى فى الوقت الذى كانت حضارتنا فيه عفية قوية ثرية عالمة صاحبة ذوق سليم بل مترف، وكان أسلافنا ينظرون إلى أهلها بوصفهم متوحشين أفداما منحطين. فلا يصح أبدا تصوير الأمر على أساس أنه إما أن نتبع أوربا فى كل شىء وإما الطوفان. لا يا أخى منك له، لا أوربا معصومة من الخطإ والخطل والانحراف والضلال، ولا الطوفان ينتظرنا إن لم نجث على ركبنا أمامها. فلنأخذ من أوربا علمها ومناهجها العلمية وشهوة المعرفة والتقدم واقتحام الطبيعة وحب المغامرة والثقة بالنفس والاعتماد على الذات والتعاون والتنظيم والتخطيط، لا بتفاصيلها، فقد تكون كامنة فى تلك التفاصيل ثعابين وعقارب وبلايا ورزايا، بل كقيم ومبادئ عامة، على أن يكون معلوما لدينا تماما أن كل ما أوردتُه الآن من مبادئ وقيم متوافرٌ فى ديننا على أحسن وجه، ويتفوق على نظيره الأوربى تفوقا كبيرا.
وسأمثل لذلك بمثالين اثنين: فأما أحدهما فحق كل إنسان فى التعليم، ذلك المبدأ الذى توصلت إليه الحضارة الحديثة بعد طول عذاب، وبعد أن كانت الكنيسة فى العصور الوسطى مثلا تحرم على أتباعها قراءة الكتاب المقدس. فماذا يقول الإسلام فى هذا الموضوع؟ لقد جعل الإسلام طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، ولم يكتف بجعله حقا كما صنعت الحضارة الحديثة. والفرق بين الأمرين هائل لفتنى إليه فى مطلع الثمانينات فى لندن كتاب استعرته من مكتبة قريبة من المسكن الذى كنت أقطنه بشرق لندن اسمه: ""، إذ قال مؤلفه إن الفريضة لا يمكن صاحبها التنازل عنها، ولا بد له من أدائها، وإلا عد آثما ولم يصح إسلامه بالصورة المنشودة، أما الحق فمن حق صاحبه أن يتنازل عنه ويهمله ولا يطلبه. وهو ما يحدث الآن فى البلاد العربية، وبالذات فى مصر حيث لا يهتم التلاميذ والطلاب بتحصيل العلم رغم ما تبذله الدولة من أموال طائلة وجهود مضنية فى هذا السبيل.
وأما ثانى الأمرين فهو قول الرسول عليه الصلاة والسلام ما معناه أن المجتهد إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر. وهو ما لا وجود له فى أى دين أو مذهب أو منهج، بل كل ما يتمناه المخطئ فى أى مكان هو أن يخفف عنه العقاب، أما أن يسامحوه فيقبل يديه ظهرا لبطن، وبطنا لظهر، ولا يكاد يصدق بالنجاة. لكن الرسول أتى بالفذ المدهش، وهو أن المخطئ يحصل على أجر هو أيضا. ذلك أنه يكفى فى الإسلام أنه عزم وبذل كل ما لديه من جهد ولم يقصر، وهذه كلها قيم عظيمة لو فشل صاحبها مرة لسوف ينجح مرات ومرات. ومع هذا فجلال العظم يرمىالإسلام بأنه لا يشتمل إلا على الخرافات والأساطير والغيبيات (يقصد الخرافات التى لا أصل لها) والأمثال السائرة والحكم الوعظية، ودمتم!
أما أن قاطرة التقدم، أى التقدم العلمى والاقتصادى والعسكرى والصحى، لا ترحم من يقف فى طريقها فذلك مما نملك ترف المشاحة فيه، فالأمر أوضح من أن ينكره أحد. ولقد غَبَر على المسلمين قرون وهم متخلفون فى هذه الميادين تخلفا يبعث على الرثاء والغثيان، فكانت النتيجة ما نرى من ضعفهم الشائن وتساقط بلادهم فى يد الغربيين يصنعون بها وبهم ما يشاؤون من إذلال ما بعده إذلال، واحتلال يعمل على تدمير الحاضر والمآل، وانتهاك أعراض وانتهاب أموال، واعتداء على الإسلام مخز مهين، وهم لا يريدون استخلاص الدرس ولا استيعابه رغم بساطته، ألا وهو أنهم ينبغى أن يتعلموا ويستخدموا تلك النعمة التى وضعها الله فى رؤوسهم: نعمة العقل والتفكير والإبداع، وما يرتبط بها من تخطيط ونظام ونظافة واقتحام لمجالات الكون وطموح إلى السيادة والعزة والكرامة. ولا ريب أن منهم كثيرين يعرفون ماذا ينبغى عمله للخروج من هذه الدائرة الجهنمية، إلا أن الغالبية الساحقة تحرن كالبغال فلا تريد أن تنتقل عما هى مرتكسة فيه من تخلف ومذلة وفوضى وجهل قيد أنملة رغم أنها لا تحتاج إلى التخلى عن دينها فى شىء على عكس ما تظنه تلك الأغلبية الساحقة، التى يوهمها الأغبياء من المنتسبين إلى العلم الدينى، وكذلك من أمثال جلال العظم، الرافضين للإسلام، أنه فى خطر، وإن كان لكل من الفريقين غاياته وأهدافه التى تتناقض وغايات الفريق الآخر وأهدافه تماما.
فأما العظم وأمثاله فقد رأينا انه لم ير شيئا فى الدين سوى المعجزات والخرافات والغيبيات والأساطير والأمثال والحكم، وكأن الدين ليس فيه دعوة إلى العلم لم يصل إليها الغرب حتى الآن، وليس فيه إلحاح على التثبت مما نسمع أو نقول قبل أن نسلم به أو نذيعه، وليس فيه تنظيم صارم حتى فى صفوف الصلاة، وليس فيه استحثاث على العمل وتفضيل له على العبادة التقليدية، وليس فيه أن النظافة من الإيمان، وليس فيه أن الدين يسر ولا عسر، وليس فيه أن الله يغفر الذنوب جميعا، وليس فيه التضامن الاجتماعى على أحسن وضع، إذ يكفى أن يكون الضمير الداخلى الذى يخشى صاحبه ربه هو الفيصل لا القانون، وليس فيه إقرار بالشهوات وأهميتها وحتيمة إشباعها والحملة على من يتجاهلها نفاقا وبهلوانية... إلخ، ودعونا من أن الإسلام ليس فيه خرافات ولا أساطير، بل فيه تشريعات قويمة وأخلاق كريمة وعقائد مستقيمة، وقصص هادف ومنطق للحق جانف، وقيم رائعة ومبادئ بارعة، ومثل عالية وغايات سامية.
هل معنى ذلك أن الدين يخلو من الحديث عن المعجزات؟ كلا وحاشا. إذن فماذا؟ إذن فالدين يقر بأنه كانت هناك فعلا معجزات وقعت على أيدى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم. وعلى العكس من اتجاه تفكير جلال العظم أرى أن إقرار القرآن بمعجزات الأنباء والرسل السابقين هو من نقاط القوة والإقناع العجيبة فى دين محمد. كيف؟ إن محمدا صلى الله عليه وسلم، فى الوقت الذى يقر فيه بمعجزات النبيين والمرسلين الآخرين، يرد على كفار قومه، كلما تحدَّوْه وطلبوا منه معجزة، بأنه ليس إلا بشرا رسولا ليس فى مستطاعه القيام بخارقة دون أن يشاء الله ذلك، ثم هو لا يستجيب لهم أبدا رغم هذا معلنا، كما يأمره القرآن، أن عصر المعجزات قد ولى، وأن تأثيرها فيما سبق كان محدودا لا يكاد يذكر. فانظر كيف يقر محمد بمعجزات الرسل، لكنه ينفى أن يكون قادرا على الإتيان بمثلها. ولقد كان بمكنته منذ اللحظة الأولى أن يعلن أنه لا يوجد فى الدنيا: لا فى الماضى ولا فى الحاضر ولا فى المستقبل أية معجزات، مغلقا بذلك هذا الباب الذى يأتيه منه الريح كى يطمئن ويستريح. وعلى من يعترض عليه أن يثبت العكس، وهو ما لن يستطيعه أحد كائنة ما كانت عبقريته، إذ المعجزات قد مضت فى الزمان الأول وانتهى أمرها، ولا يمكن أحدا البرهنة عليها واقعيا. لكنه، صلى الله عليه وسلم، سلك سبيلا أخرى تماما جلبت عليه وجع الدماغ، فتحمل وجع الدماغ لأنه صادق لا يهمه ما يقاسيه فى سبيل هذا الصدق العبقرى المذهل.
قد يقول السفهاء إنه كان يتقرب إلى أصحاب الأديان الأخرى بذكر معجزات أنبيائهم ومرسليهم حتى يؤمنوا به، ولو كان قد أنكر تلك المعجزات لانصرفوا عنه. قد يقول السفهاء، وما أكثرهم، ذلك، إلا أن الجواب على ما يقوله السفهاء سهل يسير، إذ لم يكن القرآن فى ذلك الوقت المبكر من عمر الدعوة قد نص بعد على عالمية رسالته بحيث يهمه أصحاب الأديان السابقة إلى هذا الحد، فضلا عن أن اليهود والنصارى من المكيين لم يكونوا عنصرا هاما هناك: سواء من ناحية العدد أو من ناحية أن غالبيتهم لم يكونوا عربا، بله أن يكونوا قرشيين، وهم الذين يهمونه فى ذلك الوقت. ثم فلنفترض أن اليهود والنصارى كانوا يهمونه رغم ذلك لأن اليهودية والنصرانية كانتا لاتزالان موجودتين ومؤثرتين فهل كان ذلك ينطبق مثلا على ديانة إبراهيم أو نوح من قبل إبراهيم؟ فلماذا ذكر معجزات إبراهيم ونوح إذن؟ وهذا لو كان يعمل لأتباع الأديان السابقة حسابا يمنعه من تجاهل ذكر المعجزات التى عملها أنبياؤهم. أما حين نعلم أنه لم يكن يعمل حسابا لأى شىء من ذلك فعندئذ لن يكون لما قد يقوله السفهاء أى معنى. كيف؟ لقد حمل على هؤلاء الأتباع حملة شعواء، ووجه ضربات مصمية بل صاعقة لجوهر عقيدتهم حين نفى أن يكون الله ربا لبنى إسرائيل وحدهم بحيث يكونون هم أبناء الله وأحباءه، ورماهم بقساوة القلوب وقتل الأنبياء والتعنت والتساخف معهم بمطالبتهم طوال الوقت بالآيات المعجزات دون تفكير فى مد يد التعاون معهم أبدا والمسارعة فى كل منعطف طريق إلى الكفر بهم، ونفى أن يكون عيسى إلها أو ابنا للإله أو أنه نزل إلى الأرض لفداء البشر من خطيئتهم، أو أنه قد صُلِب أو قُتِل، أو أنه سيحاسبهم بنفسه يوم القيامة بل سيحاسَب كما يحاسَب سائر البشر، ومنهم محمد ذاته. فماذا يمكن أن يقول السفهاء فى ذلك؟ وقد يقول السفهاء أيضا إن محمدا قد غير رأيه مع الأيام فى موضوع الخوارق حين أحرجه القرشيون فصار ينفى أن يكون فى طوق أحد من البشر الإتيان بشىء منها. والجواب على ما يقوله السفهاء هو أنه قد ظل يذكر، وبمنتهى الاحترام، خوارق السابقين من النبيين والمرسلين رغم تحزب مدعى الإيمان بهم ضده وموالستهم مع المشركين من قومه حتى بعدما هاجر إلى المدينة بسنوات.
والحل؟ الحل ليس فى الكذب وتصوير الإسلام على أنه دين الغيبيات والخرافات الأساطير والخوارق والأمثال السائرة والحكم الوعظية فقط، ودمتم، وليس الحل فى النظر إلى المعجزات المذكورة فى القرآن على أنها مجرد رموز كما يدعو جلال العظم فى بعض ما كتب فى دراسته التى نتناولها الآن، مما يجرى فيه على مذهب القاديانيين، الذين يقولون مثلا إن وادى النمل الذى مر به سليمان وجنوده موضع تسكنه مجموعة من القبائل الكثيرة كالنمل، أو إن هدهد سليمان هو ضابط فى جيشه كان يرسله عليه السلام فى مهمات استطلاعية فيأيته بالخبر اليقين، أو إن صُنْع عيسى من الطين كهيئة الطير فيكون طيرا معناه أنه قادر برسالته على هداية البشر، وهم بطبيعة الحال مخلوقون من الطين، فبكون بمستطاع الواحد منهم بعد أن تتم هدايته على يديه أن يطير فى سماوات الروحانية... إلخ، وهو ما فنَّدْتُه وبينتُ وجه العوار الفادح والقادح فيه فى كتابى: "من الطبرى إلى سيد قطب- دراسة فى مناهج التفسير ومذاهبه"، وبخاصة أن القرآن لا صرَّح ولا لمَّح بأنه إنما يرمز أو يضرب أمثالا، إذ كان واضحا تمام الوضوح أنه يتحدث عن وقائع تاريخية تتسم بخرقها لنواميس الطبيعة، بل الحل هو تصنيف عناصر الإسلام بحيث يكون لكل عنصر طريقة فى التعامل معه: فأما الغيبيات فتتمثل فى الإيمان بالله سبحانه واليوم الآخر، الذى من شأن الاعتقاد فيه تحفيز الناس على بذل أقصى ما عندهم من طاقة لعمل الخير وتثبيط اندفاعهم نحو الباطل والأذى والظلم والتجاوز. ويدخل تحت هذه المظلة الاعتقاد فى الأنبياء والرسل. وهذا العنصر جوهرى فى الدين لا يمكن أن يكون ثم دين بدونه. وليس فى هذا ما يضير أحدا، بل فيه المصلحة كل المصلحة متى وقف البشر عند ما يقوله القرآن والرسول فيه دون زيادة أو نقصان.
وأما المعجزات فالحل هو أن نغلق بابها لأنها تنتمى إلى عصر مضى وانقضى، ولا سبيل لرجعتها. ولن يستفيد المؤمنون منها فى حياتهم الحالية شيئا لأن جميع السبل إليها قد انسدت، فلا مجال للوصول إليها. وبدورهم ليس للكافرين بالأديان من داع إلى التوقف إزاء تلك المعجزات ومحاولة بث الشُّبَه بشأنها، لسبب بسيط هو أنهم لا يمكنهم التدليل على صحة موقفهم المنكر لها. ولا ينبغى أن ننسى أن موقف عدد من فلاسفة العصر الحديث من القوانين الكونية هى أنها ليست حتما فى ذاتها، بل كل ما يستطاع قوله بشأنها هو أن "أ" تقع عقب حدوث "ب" مثلا لا أن وقوع "ب" يستلزم حتما أن تحدث "أ" عقبها لا محالة. وقد سبقهم الإمام الغزالى إلى هذا منذ قرون، ورتب على ذلك الكلام القول بأن مشيئة الله هى التى اقتضت مثلا أن النار متى شبت فى شىء أن تحرقه، وأنه سبحانه لو أراد أن تشب النار ولا تحرق لكان ما أراد، بخلاف بعض فلاسفة ومفكرى عصرنا الذين أنكروا الله جملة. وأرى أنه ليس فى القول بوجود قوانين كونية مطردة والإيمان بوجود الله ووجوب اعتمادنا على أنفسنا فى تحقيق ما نصبو إليه أى تناقض: فالله هو الذى شاء أن يكون نظام الكون هو هذا النظام الذى أمامنا، ولو شاء تغييره لغيره، وهو ما تمثل فى المعجزات، الذى قال هو نفسه إن عصرها قد انصرم، ولا سبيل إلى عودتها. وهو سبحانه الذى فرض علينا العمل والاجتهاد إذا أردنا أن ننجز شيئا، ولا بد أن ننجز كل شىء يمكن إنجازه، وإلا حوسبنا وعوقبنا فى الدنيا خزيا وهوانا وتخلفا وأمراضا وجهلا وفوضى وقذارة وفقرا ومعاناة وتعرضا للاحتلال والنكال على أيدى الأمم الأخرى، وفى الآخرة نارا مستعرة تحرق وتصهر وتخزى وتهين وتؤلم ألما لايطاق.
ولنعلم أن واجبنا الآن هو الإيمان بأن الكون مؤسس على نظام وقوانين مطردة إلى يوم الدين، ولا سبيل إلى التعامل معها والإفادة منها وتجنب مصاعبها ومتاعبها إلا بالعلم والتخطيط والنظام والاقتحام والخيال الخلاق والإبداع والإرادة الغلابة والطموح إلى ترويض الطبيعة من حولنا والاستمتاع بخيراتها التى خلقها الله لنا. ومن لا يفهم هذا فذنبه على جنبه. ولقد ذاقت جنوبنا كثيرا جدا من النتائج المترتبة على ذنوبنا، فلا نلومن إذن غير أنفسنا. أما إذا استمررنا على ما نحن فيه من غيبوبة فكرية وبلاهة حضارية وفوضى واعتساف للأمور وبغض لمواجهة الحقائق ورضا بالتعايش المحبور مع القمامة والنتانة والقبح والتشويه فى كل مكان ومع التمسك بالقشور والنفور من العلم ومشقاته وإيثار الخرافات على المنطق والعقل فلسوف نبقى فى مكاننا لن نبرحه، بل سوف نتراجع ونتقهقر أكثر وأكثر، وتدوسنا أقدام الأمم فنتحول إلى مماسح لأحذيتهم يحكّون فينا قاذوراتِ جِزَمِهم ثم يحتقروننا رغم ذلك ويشمئزون من منظرنا ويتجنبون ملامستنا أو مجرد الاقتراب منا خوفا من أن يعديهم الجرب الحضارى والإنسانى الذى نحمله فى أجسادنا وعقولنا وأذواقنا وضمائرنا. أعوذ بالله! فالإسلام مجموعة من القيم: القيم العقلية، والقيم العاطفية، والقيم الذوقية، والقيم الأخلاقية، والقيم الاعتقادية، والقيم العبادية. وعلينا أن نجتهد فى تحقيق هذه القيم وألا نختزل الدين فى قيم العبادة والملابس والجنس فحسب. ويا ليتنا، فيما يخص العبادة، نهتم بكل ألوانها، إذ الغالب أن ينصب اهتمامنا على الصلاة وحدها تقريبا، فلا كلام كثير عن حقوق الفقراء والمستضعفين والمساكين واليتامى المحتاجين فى أموالنا.
وإنى لأستغرب تساخف جلال العظم وزعمه أن الإسلام مجموعة من الخرافات والأساطير وما إلى هذا بسبيل. ألم تأته الآيات والأحاديث التالية: "قل: هل يستوى الذين يعلمون والذين لايعلمون؟"، "ايتونى بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين"، "قل: إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا"، "إنما يتذكر أولو الألباب"، "إن فى ذلك لآيات لقوم يعلمون/ يتفكرون"، "وقل: رب، زدنى علما"، "إن الظن لايغنى من الحق شيئا"، "إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا"، "قل: لا أقول لكم: عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنى مَلَكٌ"- "العلماء ورثة الأنبياء"، "من خرج فى طلب العلم فهو فى سبيل الله حتى يرجع"، "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع"، "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد"، "اطلبوا العلم ولو فى الصين"، "فضل العالم على العابد كفضل البدر على سائر الكواكب"، "مَن غَدا لعِلمٍ يتعلَّمُه فتَح اللهُ له به طريقًا إلى الجنةِ وفَرَشَتْ له الملائكةُ أكنافَها، وصلَّت عليه ملائكةُ السماءِ وحيتانُ البحرِ. وللعالِمِ منَ الفضلِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ. والعلماءُ وَرَثَةُ الأنبياءِ. إنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا دِرْهمًا. إنما ورَّثوا العِلْمَ، فمَنْ أخَذ بالعِلْمِ أخَذ بحظٍّ وافِرٍ. وموتُ العالمِ مُصيبَةٌ لا تُجْبَرُ، وثُلْمَةٌ لا تُسَدُّ، ونجمٌ طُمِسَ. وموتُ قبيلةٍ أَيْسَرُ مِن موتِ عالِمٍ"؟
ومن الغريب المريب أن جلال العظم لا يهمه من سيرة الرسول إلا أنه تزوج فى شبابه من سيدة فى الأربعين، وفى كهولته من نساء فى مثل سن بناته، وهو ما يحتاج إلى متخصص فى علم النفس (المرضى طبعا)، ويدل على أنه زير نساء على حد قوله. عجبا! أهذا كل ما يشغلك فى شخصية الرسول وحياته أيها العظم؟ ألا تعلم أن العرب وغير العرب فى ذلك الوقت كانوا يعددون فى زواجهم؟ فما المشكلة إذن فى أن يعدد النبى كما يعدد غيره فى مجتمعه وخارج مجتمعه؟ لا تقل إن القرآن قد حدد التعدد بأربعٍ لا يَزِدْن، إذ ينبغى أن تعرف أن هذا التحديد لم يقع إلا بعد أن كان النبى قد تزوج مَنْ تزوجهن من نسائه. فإلى أين ياترى كن سيذهبن لو طلق الرسول مازاد على أربع؟ ثم ما دام الأمر قد وصل بنا إلى هذا اللون من النقاش فمعنى ذلك أن محمدا هو مؤلف هذا الدين؟ فإذا كان ذلك كذلك فلم يا ترى أصدر تشريعا بتحديد التعدد بأربع، وهو يعرف أن هذا التحديد يضره ولا يفيده بحال، بخلاف التعديد فإنه لا يضره بل يفيده فى كل الأحوال؟ كذلك لا بد أن نكون على ذكر من أن الرسول كان يكلَّف أحيانا بما لا يطالَب به غيره من المسلمين كالتشريع الذى حرم عليه استبدال زوجة بزوجة فى سورة "الأحزاب" منذ نزول الآية الخاصة بذلك إلى أن يموت، وكمواصلة الصيام يومين متتاليين فى حين يحرم ذلك على أى مسلم آخر، وكالصدقات، إذ يحرم عليه أخذها هو أو أحد من أقربائه البتة مهما كان احتياجهم إلى المال، دون سائر المسلمين... فعلينا أن ننظر فى ترك ما زاد على أربع من الزوجات فى عصمته فى ضوء هذه الخصوصية.
أما بالنسبة إلى سن عائشة حين تزوجها فالخلاف قائم بين الكتاب والمفكرين والمؤرخين: فالمحدّثون بوجه عام يحددونه بالتاسعة تقريبا، على حين يسنّنها العقاد وقتذاك بنحو أربع عشرة سنة، بينما يوصلها د. شوقى ضيف إلى حوالى العشرين عاما. وهى لم تشتك لأحد من تلك الزيجة، بل كانت سعيدة بزوجها على الدوام وشديدة الغيرة عليه ومحط حسد الأخريات كما قالت أمها لها ذات مرة خلال أزمة الإفك. وهذه السعادة كانت شعور سائر زوجاته لا عائشة وحدها. بل إن عائشة قد ظلت بقية عمرها، أى على مدى عشرات السنين، أرملة لم تتزوج نزولا على حكم القرآن، فلم تفلت منها كلمة واحدة تشى بتأففها من ذلك الزواج أو ضيقها بهذا الزوج، بل عاشت وفية القلب والعقل والضمير لذكراه. فإذا كانت هناك من ضرورة للاستعانة بعلم النفس هنا فليكن علم نفس السعادة والهناء والتوفيق الزوجى، ولسوف ينتهى التحليل النفسى إلى أن سر هذا التوفيق هو شخصية الرسول أولا وأساسا. وأخيرا فقد يهمك بالمرة، أيها العظم، أن يدرس علماء النفس حالة مريم عليها السلام وخطبة يوسف النجار العجوز لها، ذلك الذى كان فى الثمانين من عمره آنذاك، وكانت هى فى الثانية عشرة.
ثم هل كان الرسول زير نساء؟ لقد عدد زوجاته نعم، ولكن لم يثبت قط أنهن كن يشغلنه عن أداء واجب أو يدفعنه إلى اقتراف إثم. وأنا هنا لا أحاول أن أنفى عنه صلى الله عليه وسلم سعادته بالزواج واستمتاعه به، فالجنس إحدى المتع الكبرى فى الحياة، ومن ينكر ذلك فهو منافق كبير. والعبرة أن يكون إشباعه فى حلال وألا يشغل صاحبه عن معالى الأمور وأداء الواجبات أو يوطّئ كرامته للنساء يصنعن به ما يردن دون أن يملك من أمر نفسه معهن شيئا. كما لم تكن زوجاته، عليه الصلاة والسلام، كلهن صغيرات السن على خلاف ما يزعم العظم. ثم لقد كانت حياته قشفة زاهدة، وليست هذه بحياة زير النساء. وكانت علاقته بنسائه تقوم على التفاهم والتعاطف، ولم تكن هناك مناكفات بتاتا، ودعك تماما من التفكير فى أن تكون هناك فضائح. فلماذا يثير العظم هذه المسائل؟ لقد نجح الرسول فى زواجه بخديجة، أكبر زوجاته سنا، بنفس المقدار الذى وُفِّق به فى زواجه بعائشة، أصغرهن والوحيدة البكر بينهن، والتى كانت تشعر بالغيرة الشديدة تجاهها ومَنْ كن على صلة بها، مما يدل على أن شبابها وجمالها وبكارتها وبنوتها للصديق أقرب أصحابه إليه لم يغلبه على نفسه صلى الله عليه وسلم، إذ لم يطق أن يسمعها تقول مرة كلمة فى حق خديجة، التى كانت قد ماتت منذ أعوام وصارت مجرد ذكرى بعيدة، فكان رده شديدا لم تَنْسَه عائشة وأخذت تستميحه الرضا.
فعنها رضى الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر ذكر خديجة، فقلت: ما أكثر ما تكثر من ذكر خديجة، وقد أخلف الله تعالى لك من عجوز حمراء الشدقين، وقد هلكتْ في دهر! فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا ما رأيته غضب مثله قط، وقال: إن الله رزقها مني ما لم يرزق أحدا منكن. قلت: يا رسول الله، اعف عني. والله لا تسمعني أذكر خديجة بعد هذا اليوم بشيء تكرهه. وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة لم يكن يسأم من ثناء عليها والاستغفار. قال: ورُزِقَتْ مني الولدَ إذ حُرِمْتُنَّه مني. فغدا علي بها وراح شهرا". فهل هذا الرجل فى نبله وسموق طباعه وكرم أخلاقه، يا ابن العظم، زير نساء، ويحتاج إلى محلل نفسى؟ خيبة الله عليك! إن قلبى لينبض حنانا وشجنا وأنا أقرأ هذا الحديث البديع، وأحمد الله على أن لم يجعل سبيلى سبيل السافلين المنحطين! إن بعض الناس الممروضين فى عقولهم وقلوبهم، وبخاصة من الشيوعيين الأدناس الأنجاس، إذا استافوا عبير الورد الطيب الزاكى تأففوا وسدوا أنوفهم فى حين يعيشون كالصراصير فى خزائن الخراء فرحين منتشين بما يتنفسونه من روائح، وما يطعمونه من فضلات. فلعنة الله على كل سافلٍ زنيم!