{ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ }

شريف قاسم


نستذكر أيام الابتلاء لجيل النبوة ، لننهض من ضعفنا وتفرقنا ، ومن حالة الانكسار التي نعيشها في مستنقعات وهننا وتخاذلنا ، ونلتجئ ــ اليوم ــ إلى الله تبارك وتعالى كما التجأ إليه ذلك الجيل الكريم الذي يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لننتصر على وهننا ، وعلى سوء السلبيات التي غلبتنا لسنين طويلة ، ونحن تحت قهر الشعارات المزيفة التي لاتمت إلى الأمة ودينها القويم ومكانتها العالمية المشهودة بصلة ، في حين لن تنحني قاماتنا التي أعزها الله بالإسلام لأي ظلم أو طغيان أو غزو همجي حاقد ، ولن تسجد جباهنا إلا لبارئها ربِّ العالمين ، وفي حين تشرئب أعناقنا إلى الله تسأله الفتح الذي يتراءى أمام أعيننا في الأفق الوضيء ...

إنَّ المصائب كبيرة ، وجرحها غائر في ضمير الأمة ، وفي أغوار ذاتها ، وكأنَّ حالتها الراهنة لاتؤهلها لاستعادة وجودها وردِّ اعتبارها أمام أعدائها الذين يتربصون بها الدوائر ، في شرق الدنيا وفي غربها وفي شمالها وجنوبها ، فالدول العظمى ــ كما يحلو لنا نحن الضعاف أن نسميها ــ إنما هي دول مستكبرة متآمرة لاتعرف إلا مصالحها الاستراتيجية المقيتة ، أما مايسمَّى بحقوق الإنسان فكلمات جوفاء يطلقها سماسرتهم في المناسبات الكاذبة ، وأما الأحزاب التي تدعي الوطنية والقومية والحرية وغيرها من شعارات فارغة فقد بات زيفها مكشوفا وانتهى أمرها إلى الزوال وبئس المآل، والإعلام بكل أنواعه يسيطر عليه أعداء الإسلام من أبناء جلدتنا ، ومن أبناء الماسونية العالمية الذين يخططون لإشاعة الفوضى الأخلاقية ، ولقتل الوجدان والشعور النبيل لدى أبناء المسلمين ، من خلال تمرير المناهج والأفكار التي تسعى لتدمير الهُوية الإسلامية ، وتبديد مالدى شباب المسلمين من انتماء لدينهم وقيم أمتهم . ولإبعادِهم عن مواطن الرؤى الكريمة والطموحات العالية ، وزجِّهم تحت ألوية الفساد والنخب المترهلة والقيادات المتآمرة والمتحالفة ــ سِرًّا ــ مع أعداء الأمة ، فلا ترى عملا إيجابيا إلا إذا كان التخطيط في إيجاد أسباب العجز والهوان وبثها في نفوس الناشئة . قوى الشرِّ تجتمع اليوم لتقضي على روح التمرد الشعبي ، وعلى روح الانطلاق والتحرر من القيود الباغية ، فهاهي قوى الشر والحقد جاءت بكل إمكاناتها لهذه الغاية ، ولكن أنَّى لها أن تحقق هدفَها هذا !

يقول الله تبارك وتعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)}(الأحزاب) ، زحوف باغية وفيالق ظالمة وعصابات غادرة ... اجتاحت بلاد المسلمين على مر العصور ، فردَّها الله خائبة منكسرة تجر أذيال الخيبة والبوار ،
{ إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ } من بلاد الإلحاد وعبدة الطاغوت ، { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ }) من الأرض التي اغتُصبت من أهلها ، وممَّن تآمر معهم من دول الاستكبار العالمي ، واشتد البلاد واستحر القتل بأبناء الإسلام ، { وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ } من شدة الأهوال والفظائع ، ومن ترجمة الأحقاد إلى أفعال يندى لها جبين البشرية ، { وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ }، حين ضاقت الأرض الرحيبة على أهلها الأبرار الأحرار ، { وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)}(الأحزاب) . حتى سمعنا صيحات المعذبات ، وأنَّات الثكالى تنطلق من تحت الأنقاض ، وغلب حُسن الظن بالله ورحمته ونصره ،
فالحمد لله على فضله ، ومن هذا الفضل الميمون ثبات الأمة على دينها القويم ، ومن هذا الفضل أن الأمة تستشعر نصرة الله لها ، ومن هذا الفضل شعور الأمة بحاجتها للعودة إلى قرآنها العظيم ، وسُنَّةِ نبيِّها الحبيب صلى الله عليه وسلم ، ومن هذا الفضل المبارك أن الأمة استعادت وعيَها ، وباتت تتأهب للجولة الأخرى بإذن الله ، غير خائفة من الأخطار والمؤامرات التي يحيكها أعداء الله الذين جاؤوا من كل حدب بعدتهم وعتادهم وأحقادهم وأساليبهم ووحشيتهم ، وَلْتستبشر الأمة برحمة الله لها ، وَلْتفْ مرَّةً أخرى عند أنوار وحي الله في ظلمات هذا الزمن المحدقة بالناس ، لتطمئن قلوبُ أبنائها وهي تتلو : { فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)}(الزخرف) ، { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ (41)}(الزخرف) ،
ومهما حاول هؤلاء العتاة الجناة أن يتسلطوا على أهل الإسلام ، وأن يتآمروا ، فإن الله فاضحُهم ، يقول سبحانه : { أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)}(الزخرف) ،
لقد أصابت أجيال النبوات منذ بدء الخليقة النوازل والابتلاءات ، وكان الله لأعداء النبوَّاتِ بالمرصاد :
{ وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)}(الأنبياء) ،
وفي يوم بدر أهلك الله طغاة المشركين : { فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)}(الزخرف) ،
وفي يوم أُحُدٍ حيث الابتلاء والاختبار ، وحيث خُيِّل للمشركين أنهم انتصروا ولكن أنَّى لهم ذلك : { أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ (42)}(الزخرف) ،
ويوم حنين يوم تفرَّق الناس في الشعاب لهول ما أصابهم من قوم مشركين أغضبوا الله بكفرهم وعنادهم ، ولكن الله أيَّد القلة المؤمنة ونصرها على عدوها : { فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)(الزخرف) ،
وحين تجمَّعت قُوى الشر والكفر للقضاء على أهل الإسلام: { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ۚ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)}( الأحزاب) ،

ومن هنا تعود قوة الإيمان بالله واليقين بتأييده ونصره ، وتعود الثقة الغالية للأمة بنفسِها وعقيدتها ، وبالمبشرات التي أفرح النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمتَه بها ، لتكون زادًا على طريق الجهاد الطويل في سبيل الله .

آنَ للأمة أن تطوي صفحة الهوان والانكسار من كتاب مجدها وسؤددها ، وأن تفتح صفحة التغيير الرباني في الأنفس والسلوك ، وتتهيأ لحمل الأمانة من جديد ، فأمتنا لاتعرف اليأس ــ أبدا ــ فاليأس صنو الكفر والهزيمة ، بل إن أمتنا هي أمة التفاؤل مهما ادلهمت الخطوب ، وسالت الدماء ، ومهما سرت الأخبار المفزعة من قتل وذبح وحرق وهدم ، ومن وحشية ليس لها حدود وليس عليها قيود ، وكلنا نعلم أن الليل مهما طال وادلهم يأتي بعده الصباح المشرق بالحياة وبالنجاة ، وأن الأنواء والعواصف لابدَّ من أن تهدأ ويأتي بعدها الربيع المزهر بالرضوان والطمأنينة ، لقد أصابت أمتنا الأزمات والنكبات والخراب ، وعانت من ظلم الظالمين وبغي المجرمين ، ومن تسلط السفلة الفاسقين ، دعاة الفجور والسفور ... ، وكأن الزمان قد استدار ، وقد طوى ــ بإذن الله ــ بدورته بهرجَ المسارح الممقوتة ، وتآمر فلول العابثين والمرتدين ، وها قد انكشف عوارهم مرة أخرى ، وافتُضح أمرهم بين الناس ، بسبب الإفساد الكبير الذي ينطوي على جميع السلبيات التي أودت بطبيعة العلاقات الإنسانية ــ على أقل تقدير ــ وإلا فأين الدين والأخلاق ؟ وأين المعاني الحضارية التي يتباهى بها الناس ؟ وأين النصوص الشرعية التي تنهى عن الإفساد وتعاطي الموبقات ؟ وأين وجوه اتباع الهَدْيَ النبوي الشريف ؟ والأهم أين الخوف من الله جبَّارِ السماوات والأرض ؟

لن تُضرب على أمتنا العظيمة الذلة بعد اليوم ، ولن ينال منها الهوان والمسكنة بعد أن أدرك أبناؤُها بوعيهم وإيمانهم أن يعيدوا حساباتهم على نور من كتاب ربِّهم وسُنَّةِ نبيِّهم صلى الله عليه وسلم ، وهذه العودة ستمكنهم بمشيئة الله تبارك وتعالى من مقارعة كل أنواع الإفساد والاستبداد ، وستُسقط كل الشعارات المزيفة ، والإعلانات الرخيصة في زمن التلاعب بالأفكار والمشاعر ، فشعورهم بأهمية حريتهم في حياتهم ألهب مشاعرهم ، ومنحهم ــ من جديد ــ القدرة على تخطِّي كل العقبات بل والأهوال التي تقف أمام انطلاقتهم المباركة . ليدخلوا في رحاب الحرية الحقيقية من أوسع أبوابها ، ومن ذا الذي يقدر ــ بعد اليوم ــ على حجب أبواب الحرية عن الناس ، التي هي من حقهم الفطري ، يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ) . عاش المسلمون في بلدانهم تحت وطأة الظلم والاستبداد والطغيان ، وحوربت الفئة الصابرة المجاهدة من قِبل المجرمين الطغاة ، وتجلَّت في هذا الزمن غربة الإسلام بين أهله ، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ) . قيل : من هم يا رسول الله ؟
قال : ( الذين يصلحون إذا فسد الناس ) رواه مسلم .

ولن تكون هذه الغربة المريرة شرًّا على المسلمين ، ولكنها ستكون سببا للخروج من كُوى الضيق والألم إلى آفاق الفتح الذي ترتقبه الأمة ، فلن نحسبه شرًّا ، وإنما هو الخير والفتح والتمكين ــ إن شاء الله ــ .

عن موقع رابطة أدباء الشام