أسطورة المصطلح العلمي ( )بحث القي في ندوة التعريب العلمي والتقني
في تونس عام 1982 .
قد يبدو عنوان هذا الحديث بعيداً عن بعض الشيء عن محور حديثنا في المصطلح التقني وما يدور حوله من عرض للمشاكل والوسائل، لكني سأبين أني قصدت فعلاً ادراج كلمة الاسطورة كمشكلة أصيلة وعرقلة خطيرة أمام وضع المصطلح العلمي التقني العربي، فالقناعة والايمان بامكان توليت ونحت وتحديد المصطلح العلمي العربي المقابل للمصطلح الاجنبي هي المفتاح الاول في دفع وتسريع عملية التعريب. وإذا ما تجاوزنا الحاجز الاول أصبحت الحواجز الاخرى ثانوية والوسائل الكفيلة بالتغلب عليها هينة ميسورة مهما كانت نوعية العقبات متعددة أمامها. ولو تأملنا قليلاً في كيفية وضع وبقاء المصطلح العلمي الاجنبي لاكتشفنا ما يدهش ويدعو للإستغراب. وقد أغرتني هواية جمع بعض المصطلحات الغربية التي صادفتها من خلال العمل الجامعي والمجمعي والتي كانت مصدر جهد وتحد للقائمين بعملية التعريب فوجدت منها الكثير الذي يجعلنا أشد ثقة بما نقوم به وما سنقدم عليه وان نشعر بالارتياح ونتنفس الصعداء لادراكنا ان نسبة لا يستهان منها من المصطلحات الاجنبية هي بالاصل غير دقيقة ولا تنطبق على الحقيقة العلمية الحالية وان ظروف توليدها واستعمالها وسريانها لم تكن بالظروف التي تحسد الاجنبي عليها أو نجله فوق قدره بسببها. والامثلة الاتية توضح ما أقصد وأعتذر ان كانت غالبيتها مستمدة من العلوم الطبية –لأنني طبيب قبل كل شيء- لكن الطب المعاصر لا يستطيع العمل بدون التقنية أو الابتعاد عنها والمهم انني في حديثي هذا عن مصطلحات طبية فإنني لا أبتعد عن محور التقنية بالتأكيد.
1- هنالك اصطلاح جديد ظهر في العلوم الطبية منذ أوائل الخمسينات يدعى بالـ Microchips أو الـ Microprocessor للدلالة على (المعالج الدقيق) الذي يستعمل في المستشفيات الحديثة والمتقدمة ويعتبر ثورة وانعطافة تقنية- الكترونية في عالم الطب لأنه آلة صغيرة تعمل ببرمجة آلية –Small system computer- والـChip هو بالحقيقة (رقيقة) أو قرص دقيق مصنوع من السليكون لذلك سمي أيضاً بالـSilicon chip ويعمل كأساس في تركيب ووظيفة الاجهزة الصغيرة في التشخيص والعلاج مثلما كانت ولا تزال (التقبلات) أو الترانسيستور أساس كثير من الاجهزة المختلفة وأولها المذياع. المهم أن الـMicrochip يستخدمه الاطباء كمصطلح للدلالة على الجهاز الدقيق الذي يعمل بالرقيقات السليكونية فأصبح الجزء الصغير من الآلة يدل على الآلة لمجموعها.
2- وفي علم المناعة وتركيب نخاع العظم توجد خلايا مهمة جداً تدعى (بخلايا ماست) Mast cells والخلية هي كرية بيضاء بدينة الشكل وتحتوي على كمية كبيرة من (حبيبات مغذية Basophil granules) وقد وصفها العالم (ايرلخ) منذ عام 1879 بالالمانية بالصطلاح Mastzellen بسبب شلكها البدين. إذ وجد لها ملابسة وشبهاً بالطعام وفي الاخص الطعام الوفير للخنزير. وهكذا اشتق لها اسم mast من الاصل اللغوي القوطي mast الذي يعني الخلية المرباة بالطعام الجيد أو المخلوق المربى بصورة سخية وفي الاخص الخنزير. ويمتد أصل الكلمة إلى السنسكريتية medas التي تعني سمين. والمهم أن العالم الالماني قبل أكثر من قرن وضع المصطلح استناداً إلى شكل الخلية أو الكرية فقط وليس على وظيفتها التي لم تعرف إلا قبل بضعة عقود من السنين، وفي المعجم الطبي الموحد سميت بالخلية البدينة كذلك.
3- وهنالك مجموعة من الاعراض المرضية اطلق عليها الباحثون الاطباء الغربيون اصطلاحات دارجة عادية لانها تشبه بعض الظواهر الحياتية المعروفة والتي يفهمها حتى الانسان العادي في منطقته دون التباس لكنها تثير التساؤل والدهشة والاستغراب، فمثلاً:-
‌أ- في مرض قصور القلب المزمن تطرأ تغيرات على الكبد بحيث أننا لو أخذنا مقطعاً منه لظهر بشكل جوزة الطيب (أو البويا) التي تستعمل كأحد توابل الطعام Nutmeg فسماه بـNutmeg Liver ولم يجد المعرب العربي إلا وضع اصطلاح (كبد كجوز الطيب) للدلالة على هذا المصطلح.
‌ب- وفي مرض (انغماد الامعاء) عند الأطفال عادة يتغوط الطفل برازاً مخاطياً كالهلام وتختلط معه بقع من الدم النقي الاحمر مثلما ينتثر الكشمش أو الزبيب على الهلام. وهذا النوع من البراز اطلق عليه العالم الاجنبي اصطلاح
–Currant jelly stool- أي ما يشبه حلويات الهلام أو (الجيلي) الابيض المزينة بالزبيب.
‌ج- وينتاب مريض حتى (التيفود) زحير يحدث في الاسبوع الثاني من المرض ويكون منظر البراز فيه بشكل سائل فيه قطع صلبة صغيرة خضراء من مكوناته فأطلق عليه العالم الغربي اصطلاح Pea soup stool –أي براز حساء البازلاء-.
‌د- وفي مرض الهيضة (الكوليرا) يكون البراز سائلاً أيضاً مثل ماء الرز
المنقوع ولم يتردد العالم الاجنبي في تسمية ذلك البراز بـ(زحار ماء الرز) Rice water diarrhea وهكذا نلاحظ أن واضعي تلك المصطلحات كان يشغلهم مظهر البراز فإذا بهم يشبهونه بأنواع الطعام والحلويات والتوابل دون تردد وحذر من مجاجة للذوق على الأقل.
4- وفي بعض امراض القلب وصماماته يتخذ القلب شكل حذاء الجندي، فسماه طبيب الاشعة بالقلب ذي شكل الحذاء Boot- shaped heart.
5- وفي مرض (الكيس الغذري Hydatid ryst) الذي قد يصيب الرئة ويتعرض للانفجار الموضعي يبدو سطح السائل في داخله أو حافته مثل البحيرة المغطاة بمجموعة من زنابق الماء الطافية في تصوير الاشعة فلم يتردد الاجنبي في استعمال اصطلاح (حافة الزنابق Hilly- water edge) للدلالة على مظهره الخارجي.
6- وفي مرض الكساح ينخسف عظم القص والاضلاع من الامام بحيث يبدو
كحفرة عميقة نجده عند الاسكافيين القدامى الذين كانوا يسندون الحذاء على
صدرهم أثناء العمل فأطلق على هذا النوع من التشوه الكساحي إصطلاح
(صدور الاسكافي Shoe-makers chest).
7- وعندما وضع العالم الغربي أول اصطلاحه لمرض الجدري والحماق في القرن الخامس عشر الميلادي نسي أن الرازي كان قد وصف وسمى تلك الامراض والحصبة منذ القرن التاسع. فأطلق عليها أسم Small pox وكلمة (Pox) Pocks هي البثرة البارزة ذات الحافة. ولما كان مرض الزهري منتشراً في أوربا آنذاك وله بثور كبيرة الحجم، فإن بثور الجدري كانت صغيرة Petit بالمقارنة بها لذلك سماها Small pox كنقيض لـ big أو grand. ولم يكن يعرف سبب المعرض. أم امرض الجديرة (أو الحماق) Chickenpox فقد إتخذه اصطلاحاً باعتباره مرضاً أخف
وطأة من الجدري فوجد (هيبيردين) منذ عام 1767م أن أنسب ما يستعمله
من مدلول لخفيف الوطأة هو الـ Chickenpox. لأننا نقول باللغة الدارجة Chicken- hearted بمعنى الشخص (خفيف الظل والقلب) بينما دعاه (فولر) عام 1730 بـ(مرض البلورات Crystals) ثم انقرض ذاك الاصطلاح. وهكذا نجد أن إصطلاحات الجدري والحماق (أو الجدري الخفيف) هي مجرد ملابسات في الشكل أو اللفظ أو التأثير.
8- وعقار (البلدونا) يستخلص من نبات باذنجاني الفصيلة يدعى بـ(نبات ست الحسن) Belladona، وقد أطلقه العالم الغربي استناداً إلى مفعوله الدوائي لأنه يوسع الحدقتين ويورد الخدين. فالفتاة أو الانثى الشاحبة إذا تناولته بدت حسناء جذابة، وهكذا نحت اصطلاح (عقار ست الحسن) لأن جملة bella domina باللاتينية تعني (السيدة الجميلة)، فأين التسمية الجمالية من مفعول العقار السُّمي هذا؟ لكن الناحت الغربي إستند إلى مفعوله على الجسم أو بالاحرى على الوجه فقط بينما هو بالحقيقة يؤثر في الجهاز العصبي المستقل جميعه.
9- وقد اكتشف العالم الغربي أن النزيف البسيط في الامعاء يمكن تشخيصه بالفحوصات المختبرية للبراز رغم عدم رؤية الدم بالعين المجردة، فهو نزيف مستورد أو (خفي) لذا دعاه الناحت الغربي بـ Occult-blood و (Occultum) باللاتينية تعني الاخفاء والحجب لكنها تعني اشياء كثيرة اخرى كما سنرى....
10- ومرض Hypochondriasis تعني توهم المرض والوسوسة حول وظائف أجهزة الجسم ويقابل ذلك بالعربية اصطلاح (المُراق). وكلمة Hypochondrium هي (المَرَق أو المَرَاق) وتدل على الجزء العلوي من احشاء البطن التي تقع اسفل الاضلاع وعظم القص. والمرض في اليونانية واللاتينية يعني (الالم والمرض في ذلك الموضع من الجسم)، كما يعني أيضاً (هبوط المعنويات). لكن الطبيب النفسي المعاصر أطلقه على مرض (المراق) والوسوسة. فأين الاصل القديم من الاصطلاح الحديث ... عدا صلة واحدة هي أن المصاب بالوسوسة المراقية يحس بالكآبة والانقباض في أعلى بطنه أحياناً ويشعر بهبوط معنوياته حتى لو كان قلق واهتمام المريض يدور حول قدمه أو رأسه.
11- وفي علوم الحياة عثرنا أثناء عملنا في مصطلحات علوم الحياة على رتبه من الحشرات تسمى بـ Ascospermophora وهي ترادف إصطلاح Milli-poed أي (ذوات الالف قدم). والحقيقة العلمية الآن أنه لا وجود لألف قدم أبداً بل ربما 44 أو اقل أو اكثر وجميعها أرجل مزدوجة متناظرة ومع ذلك فإن واضع المصطلح أدخله في الادب التقني العلمي وأصبح مقبولاً لدينا لمجرد أن العالم الغربي توهم ألف قدم لتلك الحشرة، فهل نعربها بـ(الفية الارجل)؟ أم برتبة (مزدوجة الاقدام المتعددة) وهو الأصح والأدق؟....
12- وكلمة Catharsis تدل باليونانية (Catharsis) تدل باليونانية (Katharsis) على النظافة والطهارة وقد استعملها العالم الغربي للدلالة على التطهير الروحي أو التنفيس كما هي الحال في حقل الطب النفساني لكنها تستعمل أيضاً للدلالة على استخدام المسهلات لتطهير وتنظيف الامعاء من الادران والاوساخ.
13- ومرض الناعور- أي الهيموفيليا Heamophilia يعني (حب الدماء) كما يستدل من الكلمتين الاغريقيتين philia بمعنى (رغبة في شيء أو صداقة وحب) و heame بمعنى (دم). لكنه مرض لا يرعب صاحبه في الدماء بل انه يعاني من سرعة حدوث النزف الآني أو لانفه جرح وعدم تخثيره بسرعة مثل بقية الناس. ومع ذلك فإن ملابسة (الميل إلى النزف) مهدت للعالم الغربي اصطلاح heamophilia بينما المصطلح العربي (الناعور) ادق من ذلك بكثير.
14- وتظهر على شبكية العين بقع تشبه القطن المندوق فسماها العالم الغربي
Cotton – wool spots ولحد الآن يختلف الاطباء في كيفية حدوثها فهي ذات علاقة بارتفاع ضغط الدم وبداء السكر وهي بقع موضعية منتفخة من اغلفة الاعصاب البصرية للعين بيضاء اللون ذات حافة مرّيشة مثل شعيرات القطن. ولم يتردد العالم الغربي في تسميتها ببقع القطن المندوق بينما هي ظاهرة لانتفاخ ورشخ من اعصاب العين.
15- واصطلاح (السادّ) أو (السدّ) Cataract مشتقة بالاصل من اليونانية Kattaractus التي تعني (شلال) أو (الماء الساقط) وفي الاغريقية الاولى (كما في اللاتينية) تعني الحاجز أو الساتر الذي يسقط فجأة ليوصد ويغطي الباب والشباك أو المدخل إلى مكان ما. ومنذ عام 1550م تداول العلماء في فرنسا ثم اوربا تلك الكلمة. وبعد ذلك عرفوا أن المرض هو ابيضاض في عدسة العين. وهكذا نجد أن اسباب المرض وطبيعته يختلف عن أصل التسمية وإن كانت النتيجة هي صحيحة- أي اسدال ستارة على فتحة العين وتعتيم البصر إلى درجة العمى.
16- وقرحة الإثني عشر المزمنة التي تؤدي إلى تضيق في بوابة المعدة وانتفاضها بالطعام فتظهر في التصوير الشعاعي بشكل ابريق الشاي Teapot deformity.
17- واصطلاح (متلازمة الاغراق) Dumping syndrome في الطب يستخدم لحالة تنتاب المريض الذي اجريب له عملية اقتطاع جزء من معدته وخياطتها مع القسم الاعلى من الامعاء فيحدث تفريغ سريع للطعام مثلما تفرغ السيارة القلابة مجموعة المواد التي تحملها من تراب أو ركام أو أوساخ لأن اصطلاح dumping في
الهندسة المدنية وعلوم الحياة تعني بالحقيقة (الاغراق) و (موضع الانقاض).
و dumping wagon هي عربة نقل الحفائر والاتربة. أما في علم الاقتصاد والتجارة الدولية فهي (إغراق) السوق بالبضاعة والسلع للتخلص من فائضها وللمنافسة، فأي من واضعي المرادفات لنفس الكلمة هو الاقرب إلى الصواب، إن الملابسة فقط جمعتهم سوية.
18- واستعمل فرويد اصطلاح (الطاقة الفكرية besetzung) للدلالة على القوة العقلية فلما ترجمها الانكليز إلى كلمة cathexis لم ترق لفرويد في حينها لأنها لم تعبر عن قصده بالضبط ومع ذلك درجت كاصطلاح يدل على الطاقة المشحونة أي أن العالم النفسي الانكليزي لم يستطع وضع مصطلح دقيق لكلمة ألمانية رغم أن الانكليزية والالمانية متقاربتين في الاصل والمنشأ.
ولدي أمثلة وفيرة أتركهاالى فرص أخرى.. ولكن تبين مما تقدم أن واضح المصطلح الاجنبي عندما ولد وسجّل ونحت المصطلح كان في حالة ذهنية ونفسية ليست مهيئة تماماً، ومن جميع النواحي والضابطة لشروط وضع المصطلح لكنه لم يتردد كثيراً في وضع المصطلح بل أقدم عليه وستنداً إلى ملابسة من نوع ما تجعل القارئ في صلة رمزية مع المعنى مهما كانت الصلة والملابسة هزيلة أو بعيدة أو حتى منافية للذوق، لكنها موجودة بشكل من الاشكال، فالملابسة في اعتقادي هي العماد الاول والاساس في نشوء اللغة بصورة عامة ولولاها لما تطورت أية لغة ولانتاب نموها العلمي علة البطء والخمود وسمة التردد والانهيار لان الحاجة والفكرة الوليدة منها هي أصل اللغة وليس العكس، وقد وجدنا أن الملابسة يمكن أن تكون بالصورة الآتية:-
1- في الصوت: وهي بالحقيقة أساس النظرية التي تقول أن محاولة الانسان تقليد أصوات الطبيعة ومخلوقاتها كانت أساس لفظه ونطقه الكلمات الاولى من عمر البسيطة.
2- في الشك الظاهر للعين المشابه لطعام أو شيء أو حيوان.
3- في المحصلة والنتيجة النهائية (مادية معنوية كما رأينا في اصطلاح الساد) الذي يسدل ستائر على عدسة العين.
4- في الوظيفة أي في عمل ذلك الشيء أو المخلوق كما يتصوره العلم آنذاك، وتبقى الكلمة كما هي ما لم يضطر العلماء إلى استبدالها بتغير الحقيقة العلمية بصورة جذرية.
5- وفي الحركة التي تنجم عن عمل أو واجب ذلك الشيء أو المخلوق.
إن الملابسة والمناسبة المشتركة إذن فتحت أمام النحات الاجنبي الباب على مصراعيه لوضع المصطلحات وهذا هو سر السرعة والوفرة في وضع المصطلح الاجنبي ولكن الملابسة التي اعتمدها الاجنبي ولم يحاربه فيها اللغوي والنحوي المختص في بلده أصبحت أمامنا اليوم عقبة كبرى لأن بعض من يقومون بعملية التعريب ينظرون إلى المصطلح الاجنبي وكأنه كلمة مقدسة متكاملة بليغة دقيقة لا يمكن المساس بها أو نقدها أو تحويرها أو تعديلها عند التعريب. أي أن المصطلح الاجنبي غدا في نظر البعض –اسطورة سحرية- جعلته أسير الترجمة، وأسير الشعور بالنقص أمام الاجنبي وتفكيره واجتهاده، وجعلته مفيداً بضوابط وهمية هزيلة وجعلته ينسى أو يتناسى مكانة وقدرة لغته الأم ووفرة الاختبارات فيها لغزارتها وانها لن تنصرع ببضة كلمات جديدة أو صيغ نادرة.