علة الكمال ( نشر في جريدة الجمهورية قبل وفاته بشهرين)
أليس من الغريب ان نتكلم عن علة في الكمال ..؟ فالكمال قمة الآمال والاحلام والطموحات، والكمال زينة الفضيلة والاخلاق والجمال، والكمال دليل الدقة والحكمة والمهارة، والكمال مسألة حيوية في الفكر والفن والعمل، فهل يحق لنا بعد كل هذه المزايا أن ننعته بالعلة أو النقص أو الخلل..؟ وهل تريد أن ندخل في رياضة سوفسطائية لنجمع بين نقيضين ونبرهن أن الواحد يساوي أثنين؟ الحق ان الزاوية التي نريد أن ننظر منها إلى مسألة الكمال هي الزاوية العملية التطبيقية في الحياة فالدوران في حلفة المثاليات والنظريات لا جدوى منه إلا اذا عاد بالفائدة إلى دعم تقدمنا وانتعاش امورنا. فلندخل إذن حلبة التحليل والنقاش المنطقي ولنأخذ بجزيئات المسألة لنجمعها بعدئذز
هنالك الكماليون ذوو المزاج والطبع الكمالي الذي لا يمكن أن ينتج شيئاً إلا اذا اعتبره كاملاً. وهذه الخصلة فضيلة على علاتها وواجهتها دون ريب. لكن بعضهم –وهم ليسوا بأقلية بين الناس- تطغى عليهم هذه النزعة فاذا به لا ينتج شيئاً قط، وتراه غارقاً في خضم التفصيلات والجزيئات، وغارقاً أيضاً في خضم من الاحباطات ومحاطاً بأسوار من الخيبة والعجدز الذاتي لأنه يعتبر أي شيء ينجزه ناقصاً أو معيباً أو تافهاً والنتيجة هي أن من يبغي الكمال. أو عاشق الكمال من هذا الصنف، يصبح عقيماً منجمداً خائفاً من نفسه أو خائفاً من الآخرين واحتمال نقدهم لاعماله، وهذه إحدى علل الكمال، تقديس ووله يؤدي إلى عقم في الفن أو الفكر او النقد أو العمل أو الكتابة، والكمال صعب المنال كما نعرف، ولن نجد نتاجاً بشرياً يمكن أن نعده كاملاً بدرجة الاطلاق او كمالاً حقيقياً، لكن بعض الناس ستجاهل ذلك كما رأينا في المجموعة السابقة، إلا أن مجموعة أخرى من الناس تعرف ذلك جيداً ولكنها تستخدم نفس الوسيلة وتعزف على ذات النغمة لغرض وضع العراقيل أمام أي مشروع أو تحرك أو إنتاج برفع رأسه ويريد أن يبدأه الآخرون. فإذا استبشروا –أو سمعوا- بفتح كلية أو معهد أطلقوا السنتهم في بيان وتعداد نواقصها ومعايبها موقعاً أو ادارة او بناء أو تجهيزاً وإذا سمعوا بوجود مدرستين صباحية ومسائية في بناية واحدة قالوا أن ذلك يؤثر في كذا وكذا من خفض المستوى العلمي، وارتباك اداري، و ... و . أما لو عرفوا بأن ظروفاً قاهرة توجب وجود ثلاث مدارس في بناية واحدة لاغمي عليهم من الجزع أو الدهشة لتصورهم عدم إمكانية ذلك. وهم أنفسهم من الجماعة الذين يختلقون العراقيل المفتعله امام القريب لأنهم يتقدمون بعشرات الذرائع والمعاذير والمشاكل التي تقف أمام المشروع في عملية التعريب –وخاصة في الحقل الطبي- وهم يتناسون كيف جرت عملية الترجمة ونقل المعرفة من الحضارات الأخرى إلى العربية في بواكير عصر النهضة الإسلامية العربية، بل أنهم يتجاهلون كيف تمت ثورة علمية بهذا الترعيب الذي قام به عدد نزر يسير من المعربين وفي ظروف صعبة لا تقارن برفاهية وتقنية العصر الحديث وكيف كانت أعمالهم لا تخلو من الاغلاط أو الغموض أو الهفوات، لكنها أدت رسالتها وسجلت ثورة في تاريخ العلوم عند العرب، وهؤلاء هم أنفسهم الذين لا يسعهم تصور امكانية نجاح حملة محو الامية لان وسوستهم أو ترددهم أو تشكيكهم وانعدام روح الاقدام والمبادرة تحجب عن افكارهم امكانية جمع الامبين في مدرسة مبنية من الاجر الطين أو حتى في العراء أو تحت ظلال الاشجار ولو التفتوا قليلاً إلى تاريخ قريب جداً، ولو نظروا إلى الوراء عقداً او عقدين من الزمن لأدركوا أن المشروع يمكن أن يبدأ بالاوليات والاساسيات الضروريات ثم يتكامل تدريجياً. ولقد عايشنا كليات في جامعات القطر منذ أن كانت تحبو في بنايات صغيرة وقاعات تدريس محدودة ومختبرات ضيقة وبصفة اساتذة عراقيين وأغلبية من العرب والاجانب المعارين والمتعاقدين، فإذا بها الآن تتسع لأعداد غفيرة من الطلبة وتضم كادراً تدريسياً فنياً وبنايات حديثة ومجهزة بأحدث التقنيات وهكذا كانت كلية الطب البيطري في الموصل مكونة من دار أهلية صغيرة مستأجرة للعمادة، أما طلبتها فكانوا يدرسون في قاعات ومختبرات كلية الطب، فإذا بها الآن وقد إحتلت بناية حديثة شامخة ذات اقسام وقاعات ومرافق فسيحة، وكذا بدأت كلية طب المستنصرية والكوفة، وكذا بدأت كلية التربية الرياضية ثم كلية طب الاسنان في الموصل، وهكذا ستبدأ كلية القانون في هذا العام الدراسي، وفي هذا العام ستحتفل كلية طب الموصل بعيد يوبيلها الفضي وأصبح بعض خريجيها أساتذة فيها. والامثلة كثيرة لا تحصى على مجالات اخرى في سلسلة التطور الحضاري.
ولو كان المخططون والمسؤولون والمنفذون مترددون لما أقدموا على البناء والتطوير والمثابرة في البدء ثم في اكمال النواقص وسد الثغرات واستبدال المستهلك وانشاء الحديث. إن البداية الصحيحة في كل عمل ومشروع هو التخطيط واعداد الاوليات والاساسيات، ثم التنفيذ بحدود الامكان. أما البداية العليلة والخطأ الكبير فيقع عندما تؤجل كل الاوليات والاساسيات المتوفرة والجاهزة انتظاراً لما هو اكمل واحسن، وهو بالأحرى تعويق وليس ببداية لأنها لن تبدأ قط. ترى ماذا سيحدث لو كان هذا المبدأ هو السائد؟ وماذا سيفعل الفرد ذو الدخل المحدود، وماذا ستفعل الدول المتخلفة الفقيرة والنامية؟ هل ستتخلى عن كل مشاريع التنمية لأنها بدائية وكيف ستكون عسيرة البناء والانتعاش، هل سنتفق ذليلة عاجزة ومنكمشة؟ وأقول من يستطيع أن يأتيني بقصة أو قصيدة او تمثيلية او كتاب أو بناء أو مشروع أو قانون "كامل متكامل" لا عوج فيه ولا أمناً؟ إن ذلك من المحال، فالكمال نهاية مطلقة، وعندما نصل الكمال في شيء نكتشف اننا لن نصله بعد وعندما نتصور أن الجهاز أو العمل الفلاني وصل حد الكمال لا تلبث أن تبرز هفوات وسلبيات لم تكن في الحسبان، وعندئذ نبدأ من ذلك الطور الكامل لنسير في مرحلة تكامل جديدة وهذا هو جوهر التطور، ولكنه تطور في خطوات لأننا لو بدأنا بمقالة أو لوحة وانتهينا منها ثم عدنا من جديد لنكمل نواقصها، ثم عدنا مرة ثانية وثالثة ورابعة لنكمل نواقص الاخرى لما ظهرت إلى الوجود قطعاً ولدخلنا في دوامة أبدية وانتابنا الوهن والعجز كأولئك العاجزين من –عشاق الكمال- ولو كان مشروع اليوم أو بحث هذا الشهر ناقصاً ثم نشر وظهر للوجود وجاء باحث آخر –أو الباحث نفسه- ليعيد القراءة ويضيف إليها، اذن لسرنا في عملية تجديد دائبة وهكذا يمكن أن تكون القراءة الجديدة للتاريخ أو الشعر أو القصة أو الملحمة مكملة –وربما أفضل- من دراسة جرت قبل قرون.
وقد يتصور القارئ الكريم انني ضد الكمال، وقد يتهمني بأنني أحبد وأميل إلى البدائية أو التسرع وربما التهور، وحاشا الله، بل أعوذ بالله أن يكون ذلك قصدي لأنني مجدت الكمال واشدت به في إفتتاحية المقال، لكنني أقول ((.. أنه عندما لا يتوفر الاحسن فلنبدأ وننفذ الحسن ... وإذا لم يتوفر الحسن فلنبدأ وننفذ المناسب والممكن ... والممكن في نظري هو توفر الاوليات والاساسيات والاركان وإلا كانت البداية عرجاء والعملية مريضة مهما كانت نوعية وماهية تلك العملية ...)) كما أنني أرجو أن لا نخلط بين الكمالية والمثالية.. فليس كل مثالي كامل .. وليس كل كامل مثالي .. فالكمال يشمل كل شيء ويمتد إلى أي شيء والمثالية ذات مضمون ومفهوم اخلاقي ... ومن يمتلك بعض الخصال المثالية فهو اخلاقي وخير ... وطيب ... وحسن ... حتى وإن لم يبلغ حد الكمال فيهم. الكمال طموح وتصور يخلق العزيمة ويشد الإرادة، ولكنه مثل قوس قزح وهم جذاب وهدف سامي إذا وصلناه حيث نتصوره لم نجسده أو نعثر عليه .. ولذلك يقال بصدق –ان الكمال لله وحده- ومن يطمح أن يبدأ بالكمال أو يصل إلى الكمال فهو حالم. واعود فأقول –خلاف عنوان المقال- أن الكمال ليس بعليل في الحقيقة لكن العلة في الانسان المتردد والحالم، والعلة في تصور الكمال على غير حقيقته والعلة فيمن يجزع ولا يعمل ولا ينتج ......