وهذا يعكس الوضع النفسي للمعرب بأعتباره كل ما هو أجنبي صحيح ومثالي أو ما عبر عنه آخرون "عقدة الأجنبي" فأسطورة المصطلح الاجنبي على ما وَجَد انه فيه من العشوائية او عجلة او اخطاء هي المشكلة الاولى امام تعريب المصطلح العلمي. وبعد كل هذا، واعود الآن إلى محور حديثنا لأقول أن مشاكل المصطلح العلمي هي:-
1- الشعور بالعجز والاحباط ونظرة التاليه للمصطلح التقني الاجنبي التي تجعل منه اسطورة سحرية من المحرم المساس بها أو تغيير حرفيتها وكأنها ليست من صنع البشر أو أنها من صنع بشر متميز منزه عن الخطأ والسهو أو المغالطة وحتى الاسفاف.
2- وهذا بدوره يؤدي إلى الانجماد والشذر تجاه المصطلح التقني الجديد، صحيح أن العلم ينمو بسرعة هائلة وسرعته تفوق سرعة نمو اللغة وشطحات الخيال لذلك يشعر البعض باننا عاجزين عن الاستيعاب أو اللحاق بالعلم ومجاراته. لكن نظرة واحدة إلى الوراء تؤكد لنا أن اللغة تنمو بسرعة أيضاً إذا ما تحررنا من الشعور بالاحباط وإذا علمنا أن ما يزيد في الطبعة الاخيرة عام 1974 من قاموس (دورلاند الطبي) كان 14 الف كلمة طبية جديدة عن الطبعة السابقة أدركنا كيف أن سرعة العلم لم تبهر أو تشل عمل الناحت اللغوي الغربي، فهل سنبقى متلكئين وندخل في حلقات مفرغة من النقاش وأمامنا العمل الكثير؟.
3- ترددت في بعض الندوات توصية تقول عن "مقاربة النهج العالمي في وضع المصطلح" وانني اعتذر واعترف بانني لم اسمع لحد الآن بوجود منهج عالمي نتعارف عليه في وضع المصطلح، فلكل أمة وشعب قواعده اللغوية ولا يوجد منهج موحد عالمي بالمعنى الدقيق لكن الظاهر أن العائلة اللغوية (الآرية- الاوربية) الاصل وسعة انتشار الفكر الاغريقي ثم استمراريته في اللغة اللاتينية جعله يكتسح العالم الغربي فيبدو وكأنه منهج عالمي. وما أرمي اليه هو أن لا نعتبر وجود منهج عالمي سبباً أو مشكلة أمام تعريب لغة العلم والتقنية الحديثة إذ لا توجد لقاعدة صارمة في اسلوب وضع المصطلح.
4- التقوقع في دائرة الترجمة الحرفية بدلاً من الأخذ بالمعنى والمدلول العلمي وبهذه الطريقة سنصل إلى حالة ذكرها باحثون آخرون وهي:-
‌أ- الانقياد وراء المصطلح الاجنبي بصورة شبه عمياء خالية من التمحيص والاصالة أو اللمسة العربية التراثية والانقياد اللغوي يؤدي بالنتيجة إلى انقياد غير مباشر سياسياً وفكرياً وحضارياً.
‌ب- جعل الترجمة والمترجمين ولغتهم طبقة لغوية خاصة منعزلة عن المجتمع اللغوي العام الذي يعكس روحية الحراك الاجتماعي وتطوره الحيوي المنسجم والمتمازج مع كافة قطاعاته.
‌ج- زيادة الثقة بيننا وبين التطور التقني بحيث نضفي على أنفسنا سمة التخلف المصطنع عندما تسيطر علنيا عقدة الاجنبي فينعكس ذلك على سلوكنا وشعورنا بالغربة والضآلة وهذا هو مرضنا وداؤنا.
5- عدم ايماننا بالمقدرة على المرونة والتصرف وأريد أن اقول بصراحة أن فئة المعربين قد تشعر بالانكماش والذنب أمام صلابة وصرامة وحدية بعض السادة اللغوين الافاضل بشأن قواعد اللغة العربية. وأرجو أن لا يفسر كلامي على غير وجهه الذي أعنيه، إذ أنني أقدر وأحترم الاستاذ اللغوي الحريص الأمين على لغتنا العربية وأصولها وقواعدها، لكني أريد من المعرب أن لا يفقد شخصيته واجتهاده وشجاعته أمام الخبير اللغوي المتزمت. إنها مسألة علاقة إنسانية – تربوية وليست علمية صرفة، إنها كعلاقة الاستاذ بتلميذه، هو يعلم طالبه ويوجهه نحو الاصالة والتراث والتقاليد والسلوك المقبول. كما يجب على المبتدئ أن يتطور ويبرز ويبدع وهذه هي حالة التوازن المنتج. أما المتزمت والأمر القسري (المعنوي) والهجوم والمنع والرفض بجمل "هذا خطأ" أو "لا يجوز" أو .... أو لم يجْرِ ذلك على لسان العرب من قبل، دون اعتبار عوامل نشوء اللغة وتطورها وانسياب المعاني بالتماس والملابسات والاخذ والعطاء وضروريات السرعة المعاصرة... كل ذلك يؤدي إلى انكماش التلميذ- أو المعرب إلى حالة من التوجس والخوف والخجل من سلطة اللغوي الجبارة. وهنا انتقل مباشرة إلى وسائل تبسيط وتسريع ودفع عجلة التعريب التقني والعلمي فأقول إنها يمكن أن تتحقق بالطرق التالية:-
1. التعاون بين اللغوي والمعرب بحيث يجتهد اللغوي ويبدع ويبحث عن مفاتيح وحلول لغوية تفتح المغاليق وتمهد المعضلات بدل الجلوس فوق المنصة العالية للمراقبة والنقد وبذلك تدب حركة متناسقة بين عملية التعريب وقواعد وضوابط اللغة. وهذه هي قمة التعاون المنتج المعطاء وما ذكرته آنفاً عن موقف اللغوي المتزمت من المعرب يضع المعرب في (شطيرة) أو (ساندوش) أو بين مطرقة النفوذ الاجنبي وسندانة التزمت اللغوي، وهي حالة نفسية مرهصة يجب أن لا نغفل خطورتها. فالأصل في العمل والانتاج هو ما يسبقه من حالة نفسية صحية وأُهبة ذهنية لكن الذي يجد نفسه بين المطرقة والسندان لا يحضى بتلك الاهبة والنشاط، وعلينا أن نحرص على تحريك اللغوي ليبدع في مرونته لا أن يقسو بعصا خبرته ويردد كلمات زاجرة من (لا ... وكلا .... ولا يجوز) وهو اسلوب تربوي فاشل في كل مراحل التدريس. فاذا ما وفرنا الجو النفسي للمعرب وحررناه من المطرقة والسندان، واقتنع بأن @@@@ متوفرة (دون جهل أو فوضى) وأن اللغة العربية يمكن أن تطاوعه إذا فهمها وطاوعها واستعان بخبراء اللغة المتعاطفين المتسامحين (دون تسيب او تساهل لا مسؤول)... عندها يمكن أن نضع القواعد والمناهج والضوابط العامة للتعريب التقني- العلمي مؤمنين بشعار الأخذ والعطاء والتقبل المرن.
2. الأخذ بالمعنى الاقرب للمصطلح في حقله الخاص به بدل الترجمة الحرفية:-
‌أ- فاصطلاح Occult blood الذي دل على (الدم الخفي) في البراز جاء عن اللاتينية Occultum ويعني يخفي ويغطي، كما يعني (السر الخفي، والصوفي، والسحري، والميتافيزيقي) وعلوم الخفايا Occult Sciences
هي التي تدور حول علم السحر والجن والشياطين لذلك دعيت أيضاً
بالـ Occultism.
‌ب- وكلمة Vector تعني في الطب البشري والبيطري كل حشرة او حيوان ينقل الجراثيم والطفيليات لكنها في علم الرياضيات تعني الاتجاهات والموجهات، وفي الهندسة الميكانيكية تعني الكمية الموجهة ذات القوة،وفي الفيزياء تعني السعة الموجهة Vector magnitude، وفي البحرية والطيران تعني دقة أو موجة المركبة.
‌ج- وكلمة Ortho السابقة تعني باليونانية Orthos المنتصب والسوي والمستقيم (مادبالوادبيا) وفي الطب نقول (بهر الرقود Orthopuoea) لأن المريض يضطر للرقاد وهو منتصب أو متكي على الاريكة لضيق تنفسه. وفي الطب نقول كذلك Orthopedics للدلالة على علم جراحة العظام لأنه العلم الذي يختص بتقويم العظام وتسويتها إلى الوضع الطبيعي.
‌د- وكلمة dull تعني في علم النفس (الغبي)، وفي الفيزياء تعني (المعتم وباهت الضوء والبريق) وفي الميكانيك تعني (الكليل) كالسكين غير الحادة القاطعة، وفي الانواء الجوية تعني (غائم) وفي لغة الادب تعني (التخفيف والملل)، مثلما نقول (الاسى يخفف عنه الزمن) Sorrow is dulled by time و (السعادة يكمدها القلق) Pleasure is dulled by anxiety.
‌ه- وكلمة Scatter في علم الاحصاء هي نسبة واسلوب (الانتشار) في منحتى أو مخطط لصفة أو عامل معينيين لكنها في الفيزياء تعني (تشتت) الضوء واستطارته، وفي علم النفس تعني الغفلة وتشتت الفكر brainscatter، وفي الأدب والاجتماع تعني (الانتشار والتبعثر).
واكتفي بهدذه الامثلة للبرهنة على أن الكلمة الاجنبية الواحدة قد تعني بضعة مدلولات في حقول مختلفة ويجب أن لا نتردد في أن نضع لها نحن ما يلائمها من مصطلح حتى في الحقل الواحد، مثل إصطلاح بقع القطن التي تستعمل في طب العيون كما ذكرت، تستعمل في تصوير الاشعة للرئة المصابة بالتدرن الرئوي.
3. الأخذ بأسماء الاعلام على علاتها عد أسماء الاعلام المطاوعة. فالاعلام امتياز للشخص المكتشف والمبدع أو المكان أو الحدث، فمدرسة فرويد ونظرية روسو وقانون ويبر تبقى كما هي. وقاعدة أرخميدس من أقدم هذه الأمثلة.
4. استعمال النسبة في الكلمات المركبة لحل مشكلة الاصطلاحات الاجنبية المزدوجة والثلاثية والرباعية فعربيتنا تنفر من التركيب ولكن النسبة هي الحل الوسيط وهي أفضل من النحت المبهم وبدعة الدمج الركيك المنافي للسلالة فيمكننا أن نقول (نفسجي) مقابلة لـPsychosomatic، ونفسي عضوي لـPsychoorganic (وسمع- بصري) audio- visual بدلاً من (سمبصري) التي هي أشبه برمز مضحك ... وهكذا. ونحن نعرف أن من مشاكل العربية هي الكلمات المركبة لكنها ليست مستحيلة الحل.
5. اذا كانت اللغة تتطور، واذا كنا نسافر بالطائرة ونستعمل رموز (مورس) وأرقام الحاسبة الالكترونية للضرورية الحضارية ومواكبة التقدم التقني فإنني أرى أن استخدام اصطلاحات المختصرات أمراً لا محيد عنه في مثل هذه الحالات، فنقول مثل الغربيين LSD, RBC, PKU, ATP, SOS وعشرات غيرها معروفة لدى الجميع ويمكن كتابتها بالحروف العربية بالطبع كما يمكن شرحها ومدلولها وأصلها الكامل في المعجم والقاموس، فالمختصر RNA هي (الحامض الخلوي الرايبوزي Ribo- nuclic acid) لكننا لو اختصرناها إلى (ح خ ر) لابتعدنا عن الرمز الحالي وهو RNA الذي يفهمه كل مختص في جميع أنحاء العالم. ولا أعتقد أن ابقاء المختصر الاجنبي كما هو يحدث خللاً في العربية العلمية. أما تحوير اللفظ عندما نترجمه حرفياً فهو غير مقبول إذ وجدت في مقالات مختلفة أن الباحث العربي يستعمل الفاظ أشعة (جاما) ومقياس (جالون) بالجيم بينما هي الاصل gallon و gamma، أي بالكاف المخففة.
6. إتباع منهج قياسي ومستقر في السوابق واللواحق الكثيرة الاستعمال في الاجنبية، ونحن ندرك صعوبة الصيغ العربية في التركيب والتصغير والنسبة دون شك، ومع ذلك فقد وجدت في أحد القواميس العربية أن اصطلاح mast cell وضع مقابله (خلية دقلية) – أي نحيلة بينما هي خلية بدينة لأن المعرب ترجم كلمة (mast) إلى معنى (سارية السفينة). و (دَقَلَ) في العربية تعني الخشبة الطويلة التي تعمل كالسارية. ودقل تعني أيضاً النحول والضآلة، وهذا الاهمال في تحوير المعاني غير مقبوزل لأنه تشويه لتاريخ ولادة الكلمة ومدلولها العلمي.
7. اتباع القياس الواحد (كلما أمكن) عند استخدام صيغة معينة للدلالة على مدلول المصطلح. فالفعل والاسم والمصدر ليست كالنعت والصفة او صيغة الكثرة والمبالغة وصيغة الاستعداد والاهبة والفاعل والمفعول به.... كلها يمكن أن تقع في اطار عام، وهنا يدخل المجاز في اللفظ عندما نرى أن اللفط مقارب للمعنى العام.
8. واذا ما تجنبت بقية التفاصيل الاخرى التي جرى التداول فيها وعنها في كثير من ندوات سابقة فإنني أرى ان ما جاء من توصيات عامة في (ندوة توحيد المنهجيات في تعريب المصطلح العملي) والتي عقدت في الرباط في شباط عام 1981 يمكن اعتبارها المؤشرات العامة الواضحة المعالم لوضع المصطلح العلمي وتعتبر توصياتها قومية شاملة لان من اشترك فيها من اساتذة كانوا يمثلون معظم دول جامعة الدول العربية إضافة إلى ممثلي المنظمات والامانات والمجامع العربية المشتركة.
9. وأخيراً فإنني أضيف إلى هذه التوصيات شروطاً أولية بديهية وهي أن يكون المعرب عالماً في حقله وأن يكون ملحاً بلغته العربية بمستوى جيد وأن يستعين بالاساتذة اللغوين ويجعل من لغته درساً مستمراً لا يمكن أن يحيط به في فترة معينة ثم يتوقف.
10. اما وجود مصرف او بنك للمصطلحات، وعقد ندوات عربية للتنسيق للتوصل إلى مصطلح عربي واحد يلتقي فيه خبراء كل قطر حسب إجتهاداتهم فهو طموح آخر لا شك أنه سيتحقق يوماً ما. لكنني لابد أن أمر بسرعة على اسلوبين في جمع وخزن بنك المصطلحات:-
الأول:- هو إتباع التسلسل الأبجدي القاموسي من حرف الألف إلى الياء (A) إلى (Z) حتى يتكون لدينا في النهاية معجم في ذلك الحقل من العلم.
والثاني:- هو التعرض إلى المصطلح (المشكلة) والمصطلح التقني (الجديد) والصعب لوضع مرادف له بغض النظر عن تسلسلة الابجدي. لكن بعض المجامع العلمية بإتباعها هذا الاسلوب نراها تختار المصطلحات السهلة والقديمة كما نلاحظ تكراراً فيها في جلسات متباعدة وهذا من شأنه أن يؤخر عملية التعريب. إن لكل أسلوب ايجابياته وسلبياته لذلك لا أتحيز لواحد منها لكنني لا أميل أيضا إلى رفض وحذف أحدهما فنخسر من الفوائد أكثر مما نربح من الخسائر ......