التراث ..... دراسة لا تمجيد ( )
فاجأني وادهشني شخص كبير العمر بسؤاله: ما جدوى البحث والتنقيب وبذل الاموال الطائلة من أجل اعادة بناء قلعة قديمة أو تمثال محطم او مدينة مندثرة؟ وما هذا الحرص والإهتمام المتزايد بالحديث عن التراث وتشجيع الكتاب والباحثين والمحققين فيه؟. واحتراماً للتراث والتاريخ –وفرق السن- لم اشأ أن اجيبه هكذا: أو تريد ان يتنكر لك ابنك، أو يهينك حفيدك؟ ، لاعتقادي بان الانسان لا يحترم نفسه وحاضره مالم يعرف ماضيه ويؤسس له ذكرى في مستقبله والاهتمام بالتراث هو أول مظاهر الاحترام للآباء والاجداد. ومن الاهتمام بالماضي ينفتح اول باب أمام الحاضر والمستقبل والزمن واحد لايتجزأ، لابداية ولانهاية، الماضي يعيش فينا ونحن نعيش منه والمستقبل يعيش علينا.
ولكن هل أن اهتمامنا بالتراث هو لمجرد الاحترام؟. كان جوابي أنه اول مظاهر الاحترام، والاحترام أبسط فوائده، ولنتبع الاحترام فوائد أكبر وأخطر وعندئذ نتعدى سلوك الاحترام الى سلوك المعرفة والتعمق، إلى العلم والتقدم. ودراسة التراث هي التعمق في أصول وتتبع جذور حضارتنا وهي الاطلاع على قاعدة الارتكاز ونقطة الانطلاق لحاضرنا، وتتبع لسير حضارتنا وتاريخنا. وقد لا يكترث البعض بهذه القاعدة ويقنع بما هو عليه –كما فعل صاحبي- ظناً منهم أن الحاضر بحد ذاته فوق ما يطيقون استيعابه، إلا أن مغبة عن ذلك هو الانفصام والمتاهة والتفاهة أو الغرور، متاهة السائر في قلب صحراء بلا حدود أو العائض في بحر بلا قاع، وتفاهة الوليد المتنكر لاصله ووالديه أو الغبي وارث الملايين وغرور الاحمق الذي يشعر بالعبقرية والجاهل المدعي الحكمة، وانفصام نركيس الذي يعشق نفسه فقط. ودراسة التراث هي الولوج الى عالم المعرفة الواسعة المتكاملة، إذ لا يوجد فرع ولا جزئية من معرفة حالية لا ترتبط بسابقة أدت اليها، والسابقة تمتد إلى سابقاتها، أي الى ميدان التراث الذي نحن بصدده وهو المنبع الأم. والدارس للتراث في موضوع عمله أو هوايته هو الوحيد الذي يستطيع أن ينقل المعرفة ويكتبها ويعلمها لجيله واساتذة التاريخ والأدب والفن والشعر الجهابذة المتمرسون هم الذين درسوا التراث وعشقوه وهؤلاء الاساتذة والمربون هم الذين خلدهم انتاجهم وتلامذتهم وشعبهم فمدرس الادب الحديث القدير هو من عرف مسبقاً الادب القديم أيضاً (التراث الادبي) واستاذ الفن المعاصر الماهر هو من هضم مسبقاً ايضاً الفن الغابر (التراث الفني).
والشاعر المجرد الشهير هو المتمرس الذي سبق ان امتص واستفاد ووعى الشعر القديم فتمكن بعدئذ من تجريده والانطلاق به الى ماوصل اليه. وهكذا نرى كيف أن التراث ظهير ونصير لعشاق المعرفة وللمبتكرين والمردين والمعلمين الخالدين، ولم يتمكن (طه حسين) مثلاً أن يحتل مكانه المرموق في النقد والادب والتاريخ إلا بعد أن نقب بعقله الثاقب طوايا وخفايا التراث العربي وزاذ على ذلك بدراسة تراث غربي آخر هو التراث الاغريقي والفرنسي. ولا يعني ذلك أن كل من درس التراث أصبح من مشاهير الكتاب أو الفنانين او المربين الا ان التراث اصبح عنصراً مكملاً ومغذياً لمن تتواجد فيه القابليات المطلوبة ليكون ذلك الاستاذ المجيد والاديب الفذ والشاعر القدير والناقد الواسع الأفق. ودراسة التراث تعزيز للعلوم المتعددة وإعلاء لشأن الانسان بحد ذاته. وليس الصعود الى العقر بأروع من اكتاف (أرخميدس) أو من نظرية (فيثاغورس) أو من قاعدة (باسكال).
إن التراث العلمي القديم هو الذي أدى بالانسان المعاصر الى ان يعبر الاجواء ويسبح في الفضاء ويسير على كوكب سماوي آخر، والمأساة التي يتحدث عنها شباب الادب والشعر ومن يتعلق بأذيال (كافكا) و (بروست) ليست بأروع وأعمق من المأساة التي تطرق اليها شعراء العرب أو كتاب التمثيليات الاغريقية أو شكسبير. وعبيد الرومان المساكين هم الآن زنوج جنوب أفريقيا والولايات المتحدة، وأفكار وتطلعات (سبارتاكوس) هي الآن افكار (انجيلا دنفر) و (مارتن لوثر كنج) وغيرهم. التراث إذن ليس دراسة لشيء مات وأندثر أنه دراسة لأفكارنا البشرية التي تحيا فينا دون أن تدري، فهي أشبه بدراسة اللاشعور أو استكشاف قيعان المحيطات أو الحفر في بطون الأرض. ولن تعترينا الدهشة بعدئذ إذا وجدنا بعض النظريات النفسية الحديثة ترجع باللاشعور والسلوك الى اصول سلالية موغلة في القدم. وقد تطرق (مزويد) الى ذلك تطرقاً عابراً عندما وجد بعض محتويات اللاشعور وهي أقدم بكثير من عمر الإنسان القصير، أما نظرية (يونج) فتقول بمنتهى الجرأة أن هنالك لا شعوراً آخر هو أضخم وأوسع وأعمق من اللاشعور الفردي الذي ذكره فرويد وهو –اللاشعور السلالي- مالذي نصب فيه أو تتشعب منه روافد اللاشعور الفردي أي أن اللاشعور الذي يؤثر في الفرد العربي الواحد مثلاً يحتوي على طاقات وميول وغرائز يشترك فيها إخوانه العرب الآخرون الآن ومنذ أقدم العصور وهذا اللاشعور الجماعي يتألف من تراث الافكار والعادات والاتجاهات المندثرة فينا ظاهرياً. ولعله عند هذا المستوى من اللاشعور السلالي التراثي نجد تفاسير لأغرب سلوك بشري يحدد في السبعينات من قرننا العشرين.
بل لعله عند هذا المستوى من اللاشعور أيضاً نلتقي اعرق التراثات وتمتزج في تراث بشري واحد. ولكي لا نستغرق في حديث عن علم نفس صرف نرجع الى التراث لنتقول أن دراسة التراث هي دراسة لأنفسنا أيضاً وليست لأشياء ماتت فليس ثم موت الا للأجساد، أما الفكر والفن والعلم والأدب فقائم وأزلي في الوجود بالمفهوم الفلسفين وهو قائم وأزلي بالمفهوم البيولوجي أيضاً لأنه ثبت لنا أن الجينات والكروموسومات هي نابعة من أصل كروموسومات وجينات أجدادنا وسلالاتنا لكنها تتجمع وتتجدد بوسائل وعلاقات متعددة أبد الدهر وبتلك تختلف إمكاناتها وعطائاتها وكذا طفراتها. ودراسة التراث لا تستوجب أو تحتم تمجيد التراث وشتان بين الدراسة والتمجيد ولعل مكابرة البعض وإهمال الآخرين وبرود البقية من المتنكرين للتراث خلط بين الدراسة والتجميد. والحقيقة التي غابت عن هؤلاء أن الدعوة إلى إحياء ودراسة وتحقيق التراث لا تعني الدعوة الى تمجيده بالضرورة، لا التمجيد أو النقد أو الذم يتوقف على نتيجة دراستنا له وقد نقع من تراثنا على الغث والسمين، الجيد والردئ، الصحيح والخاطئ، وعندئذ فقط يحق لنا أن نمجد أو ننتقد. إن التمجيد لذاته –وجزافاً- سلوك مريض يرفضه المصلحون والسياسيون والمفكرون أما الدراسة فهي تعليم ومعرفة واكتشاف: تعليم للنواحي الجيدة ومعرفة بأخطاء الاقدمين واكتشاف فواصل لزوايا منسية وحقائق ضائعة وجوانب مخفية ومن مجموع هذه المزايا يتم البناء الحاضر ليكون متكاملاً وواعياً وحذراً من المزالق والثغرات.
واهتمامنا بالتزامن هو واجبنا نحو ماضينا تجاه حاضرنا من أجل مستقبلنا، والاهتمام غير التمجيد او الذم فلكل مقامه ومقاله، والواجب والانصاف يدعونا أن نمجد ونستفيد
متى اقتضى الامر ذلك وأن ننتقد ونستفيد متى اقتضى الامر ذلك ايضاً وهذه هي الخلفية Back ground التي يستند اليها ويحتمي بها كل انتاج فذ معاصر. وليس من الضروري ان الخلفية بارزة للعيان طالما كانت ثمة صلة روحية كامنة بين الاثنين ولذلك قلنا أن التراث ظهير لمن يريد والظهير هو الذي يمثل الخلفية التي يتحدث عنها الكثيرون. ودراسة التراث لا تعني أيضاً التعصب والضيق الفكري لأن تراث ثقافة ما اعلاء وتعزيز لتراث ثقافة اخرى او قومية أخرى، وما أجمل وألذ أن يلتحم التراثان والثلاثة والأربعة في مساجلات ومطارحات ومناقشات وحفلات ومآدب عقلية تمهد لمزيد من التعاون والأخوة البشرية والعدالة الاجتماعية. وهكذا يكون التاريخ والتراث علم الحركة وعلم الحياة وليس علم الاموات والحوادث المتفرقة، لذلك أصبح احياء التراث من الواجبات والمهمات الاساسية للجامعات ووزارة الثقافة والاعلام، وهو مايجري تنفيذه بإصرار في بلدنا.
بقي أن اعترف وأشارك بعض المفكرين الآخرين في التعبير عن مللهم وتذمرهم من بعض الكتابات التراثية. والحقيقة ان القارئ المعجب بالتراث لا يستسيغ تلك المقالات الانشائية التي تقول: "ولد فلان بن فلان ... ومات ... وعمل كذا وكذا ... وأفعاله كذا وكذا ..."
فالكتابة من التراث تتطلب التجديد والإضافة على ما سبق نشره وتتطلب الكشف عن طرائق وحقائق، أو اثارة نقاش وجدال قمر. ولعل النفور الظاهري للبعض من التراث يرجع الى جمود وتكرار بعض الكتاب والخطأ ليس في التراث بل في بعض كتابه التراث يعلمنا الكثير وأول ما يعلمنا التواضع وتجنب غرور القرن العشرين وهذه همسة متواضعة في آذان الذين يكابرون ويتجاهلون وينفخون في حفنة رماد ظانين أنهم سيضرمون ناراً عظيمة من شعر وأدب وفن دون حاجة الى ووقود ومؤونة من تراثهم العريق .....