الإقناع التجاري (نشرت في مجلة علوم 1970 )
بعد ما برز فيالقاموس الحديث إصطلاح –غسل الدماغ- على أثر حادثة تاريخية في اوائل النصف الثاني من القرن العشرين وتركزت حوله التساؤلات وتحولت نحوه الأنظار انحسرت موجة الدهشة والغضب وحلت محلها موجة من بحث ودراسة علمية حيادية واكتشف الانسان أن عمليات غسل المخ والتأثير والإقناع كانت تجري على نفسه وعلى غيره في كل لحظة من لحظات حياته المادية. ساعة من التأمل والتفكير الرزين أزاحت عن عيون الفرد الغربي حجباً كثيفة وكشفت له مدى وجود حرية الأختيار أو مدى فقدانها لديه وساعة التأمل تلك برهنت له أن ملبسه وطعامه وشرابه وسهراته والوان حيطان منزله وأثاثه ولعل كيفية أختياره لزوجته هي من ضمن عملية اقناع خفية سلطت على دماغه.
وعالمنا اليوم هو عالم الدعاية التجارية بحق يقوم المنتجون ويمارسونها على الزبائن وكافة الناس، والمنتجون تجار ... وللتجار @@@ التي ورثوها وأضافوا عليها بحكم الخبرة والممارسة لكنهم مهما بلغوا من الحذق فلا يمكن أن يسبروا الاعماق أو يفهموا النفس البشرية على حقيقتها كما يفهمها علماء النفس والاجتماع والأنثروبولوجي، لذلك راح المنتجون وأصحاب الشركات والبائعون الإعتياديون يستشيرون اولئل العلماء ليعينوهم ويبصرونهم بدروب الاقناع وجذب الزبائن وتسيير اتجاهات وعقول الناس نحو عملية الاقتناء والشراء. وقد تنوعت نواحي الدراسات الى درجة مدهشة وأذكر على سبيل المثال أن احدى مؤسسات الدعاية درست دورة الحيض عند ربات البيوت وما يطرأ على الأنثى من اضطرابات وتقلبات نفسية أثناءها لكي تجد لها منفذاً الى كيفية ترويج وبيع انتاجها من بعض مواد الطعام. ويشير البروفسور (كلايد ميلر) الى أن الانسان مخلوق من مجموعة انعكاسات شرطية على غرار اعتقاد بافلوف وإنه ما عمل رجل الدعاية إلا أن يعرف كيف يبني سلوكاً شرطياً في عقل المستهلك وهكذا شعر التاجر بأن عليه الاستعانة @@@ الاعماق النفسية ودارسي البواطن ليتمكن من اقناع الزبائن وبلغت محاولة الاستعانة بالخبراء النفسانيين الى حد أن جريدة (وول ستريت) الاقتصادية الامريكية قالت أن المنتج والتاجر في سعيها لزيادة الإستهلاك يندفعان الى عالم غريب من دنيا العقل الباطن ولنأخذ مثلاً الامرأة: انها تدفع دولارين ونصف (دينار عراقي) لشراء معجون أو كريم وجه للتجميل ولا تدفع أكثر من 20 سنتاً (100 فلساً) لشراء قطعة صابون .. لأن الصابون يجعلها نظيفة أما معجون الزينة فيجعلها جميلة –وهو الأفضل لديها- لذلك شرع أصحاب الدعاية يتحدثون عن الصابون .. والجمال بالإضافة الى النظافة فالمنتج يبيع وعداً والمرأة تشتري هذا الوعد بالجمال بالحقيقة ولا تشتري مجرد صابون ومنتجوا مساحيق التجميل لا يبيعون (دهم اللاتولين) وهو المركب الاساسي في معظم معاجين التجميل بل يبيعون الأمل بالجمال والفتنة. التجار إذاً رواد ميدان الدعاية منذ القدم وهم والمنتجون ينفقون في سبيل ذلك الأموال الطائلة فلقد بلغت نفقات الدعاية السنوية في شتى اقطار العالم البلايين من الدولارات أو الجنيهات ولا تزال في تصاعد مستمر، وكانت أضخم وأشد نفقات الدعاية التجارة في الولايات المتحدة وأوربا. ففي الولايات المتحدة قدرت نفقات الدعاية بـ 14500 مليون دولار عام 1964، وفي فرنسا بـ 3 بلايين فرنك سنة 1965 وفي تركيا بـ 4 ملايين ليرة، وفي المانيا الغربية بين 4-6 بلايين مارك، وفي لبنان بخمسة ملايين ليرة.
هذه الحاجة الى الاستشارة والدعاية أظهرت للوجود مؤسسات جديدة في المجتمع وهي وكالات الدعاية. وكالات الدعاية والمؤسسات الاستشارية التجارية اقتضت ضرورة اجتذاب الزبائن أن تستعين الشركات والتجار بخبرة العلماء. وكانت في بدايتها استشارات فردية وشخصية. وكانت دراسة الأعماق موجودة على نطاق محدود قبل الحرب العالمية الثانية حتى أن بعض المنتجين استشاروا الدكتور (واتسون) الشهير مؤسس النظرية السلوكية الكلاسيكية في علم النفس ... وكان الأستاذ (دال هوتسون) من جامعة نيويورك هو أحد الذين اقترحوا استخدام 18 صفة تزعج أو تقلق الانسان فتحثه على اقتناء بضاعة معينة لازالة تلك المزعجات منها مثلاً:- الصراع، الامساك، الغازات المعوية، السعال، تنخر الاسنان ... الخ. إلا أن الدراسات الجدية للأعماق بدأت بعد الحرب العالمية الثانية إذ تكونت هيئات ومؤسسات مستقلة وتعتمد على خبرة مشاهير علماء النفس والاجتماع مثل (@@@) العالم النفساني و (مورفي) العالم النفساني أيضاً و(جاردنر) عالم الاجتماع والأجناس في جامعة شيكاغو وهارفرد. كما صدرت مجلات تجارية خاصة منها مجلات (تايد، والعمل الاسبوعية، وعصر الدعاية، و وول ستريت) وكلها في الولايات المتحدة، وأصبح من إختصاص بعض وكالات الدعاية مجرد تقديم النصح الى @@@ شتى من الناس أو الشركات. فالمؤسسة الفلانية مثلاً ترغب في انتاج نوع معين من البضاعة فتقدم الى الوكالة المختصة وتسألها عن رأيها في التسمية أو اللون أو الاسلوب الدعائي. وتدرس الوكالة الموضوع المطروح بمساعدة خبرائها وبحدود امكاناتها ثم تتقدم بتعليماتها وبنصائحها مقابل أجر طبعاً وقد يبلغ الاجر اليومي للإستشارة التجارية الواحدة 500 دولار (حوالي 250 جنيه) فإذا ما ضربنا عدد أيام الإستشارة بالمبلغ اليومي أدركنا جسامة الأجور الاستشارية تلك.
ولعله ليس من المبالغة إذا قيل أن الولايات المتحدة بوكالاتها التجارية تستطيع أن تختار لك اصدقائك المناسبين وتقدمهم لك مثلما يقدمون لك المفروشات والأثاث لبيتك الجديد ... ولقد اتسع ميدان الاستشارات هذه الى حد أن لجنة العلاقات العامة قدمت نصائح الى رجال الكنيسة عن كيفية التأثير في الناس أثناء إجتماعاتهم الرئيسية واستأجرت احدى المؤسسات قاعة كاملة وعرضت سلسلة تلفزيونية دعائية محلية على ثانية من الخبراء من علماء النفس والاجناس والاجتماع وطلب رأيهم في الدعاية التجارية التي شاهدوها واقتراحاتهم وانتقاداتهم لها. ويلجأ المنتجون احياناً –مبالغة في الحذر- الى استشارة مؤسسين للدعاية لتتأكد من خطواتها المستقبلية وتوقياً لفشل لا تحمد عقباه. وكثيراً ما نتفق اراء مؤسسة ديختر مثلاً مع آراء معهد (جسكن) للألوان وهما أشهر مؤسسين في الاستشارات التجارية وأصبحت دراسة الميول والاتجاهات المسماة اختصارا (م.ر) ضرورة لكل منتج ورجل دعاية وكان مؤسسها وأول اعلامها هو الدكتور ديختر آنف الذكر الذي اطلق على هذه الابحاث بـ(اتبار الأعماق). ومن دراسة الاعماق خرج الغلبية بمفاتيح الميول والرغبات التي يمكن تعديلها وتخويدها لتكون سلاحاً دعائياً ماضياً ومن هذه المفاتيح المعرفة حاجة الانسان الى تقليد الغير ... الى الشعور بالأمن الى المتعة الحسية عن طريق الفم (الطعام) الخ.
وهنا يتقدم علم النفس والامراض العقلية بتزويد جوابي لأعماق النفسية. ويلجأ المحللون الى استطلاع نفسية المستهلك وكأنهم يستطلعون نفسية مريض نفساني. وقد يتم البحث مع مجموعة من عشرة مشتهلكين مثلاً أو يشعر الفرد بحريته وانطلاقه بين الجماعة. واستخدم جهاز كشف الكذب من قبل معهد الأبحاث والألوان لمعرفة تأثير الألوان في المستهلك، واستخدم (جيمس فيكاري) كاميرا سرية خاصة لتصوير درجة رفيف أجفان الناس تحت ظروف متعددة لأن رفيف الأجفان يدل على درجة توتر أو استرخاء عواطف الفرد، واستخدمت مؤسسة (رذروف وريان) التنويم المغناطيسي للكشف عن ميول العقل الباطن. لماذا مثلاً نستعمل البضاعة الفلانية ولماذا نحتسي الخمر الفلاني؟. ولكن كيف خدمت سيكولوجية الاعماق لفرويد ونظرية بافلوف رجال الدعاية؟. إن الاذكياء منهم يستثمرون الناس العصابيين على أنواعهم من ذوي المراق والوساوس وذوي المخاوف المتعددة والحصر والميول الجنسية المنحرفة من طلاب المقامرة او المدمنين فيضربون على الاوتار الحساسة في نفسياتهم التي لابد أن تلقي لها استجابة لديهم فتسد نواقصهم وتهدي من قلقهم المكبوت. ولايهم اصحاب الصناعة والتجارة صحة الفرد أو صحة المجموع. وهكذا يلجأ الخبراء الى مقاييس الشخصية ستبارات الذكاء لمعرفة مكامن الضعف والقواية. مثال ذلك: استخدمت استبارات زوتدي لإكتشاف الدوافع لدى شاربي الويسكي من قبل احدى المؤسسات الدعائية. وكان معروفاً لديها أن 85% من الويسكي يستهلكه حوالي 22% من شاربي الكحول، وهم الذين يحتسون كميات كبيرة. وتبين من نتيجة الاختبار الآنف الذكر أن الذين يحتسون أكبر كمية من الويسكي هم من الذين يتطلعون بالحقيقة الى تبديل شخصيتهم الواقعية بحيث يصبح الفرد الخجول المسالم قوياً صلباً ... الخ. وبذلك وجدت الدعاية التجارية مجالاً فسيحاً للضرب على تلك الأوتار.
ومن القواعد الثابتة في الإعلان تجنب النفي، فالإعلان عن السكاير يعد فاشلاً اذا جرى على مبدأ لا تخف .. ان السكاير لا تقتلك ... أو القول .. بعد تجارة عشرة اشهر أجراها علماء واخصائيون ثبت عدم حدوث تسمم مزمن أو حاد بالكحول ... فالأفضل دائماً أستعمال الدعاية الإيجابية التأكيدية الواقفة ... ومن الأمثلة الاخرى نذكر أيضاً أنه مرت حقبة من الزمن فتر فيها إقبال الناس على تناول الحلويات انسياقاً وراء الاعتقاد المعروف بأن الحلويات تؤدي الى السمنة وتنخر الأسنان. وجاء خبير المنتجين النفساني ونصحهم باستبدال الدعاية القديمة للحلويات والتأكيد على أن الحلويات (لذيذة ... منعشة ... وطعام مغذي ... كامل المزايا)، تم نصحهم أيضاً بإنتاج الحلويات بأحجام صغيرة ومقطعة على قدر مضغة أو نهشة وبذلك يعلل الفرد شراءه للحلويات بأنه سيقتطع وصلة منها وليس جميعها. واقترح خبيراً آخر بأن تقدم الحلويات كمكافأة للأطفال مثلاً وغيرهم وبذلك أصبح الإعلان عنها كما يلي:-
((إنك تستحق حلويات م.م ليغدو عملك الشاق هيناً ...)) ونجحت الطريقتان. وفي سنة 1956 استنكرت جريدة (ساندي تايمز) الطريقة الجديدة في الاعلان وهي الطريقة التي تدعى بـ(اعلان مادون الشعور) وكان مبتكرها أمريكي يدعى (جيم فيكاري) واستخدمها في صالات العرض والسينما. وكان يسلط بروجكتور ثانياً على الفلم الذي يجري عرضه على الشاشة بطريقة خاصة خافتة جداً تكاد أن لا تراها العين وبواسطة البروجكتور تظهر جمل وكلمات دعائية مثل –اشرب كوكاكولا- او –تذوق شوكولاته ن ن- وبما أن درجة وضوح الجمل تلك هي تحت الحد الشعوري فإنه يخيل للمشاهد أن ما يراه أو ما يكاد أن يراه هو ايعاز داخلي في عقله الباطن. فيتناول الشوكولاته او يندفع الى شرب الكولا وبهذه الطريقة زادت مبيعات الكوكاكولا الى السدس والشوكولاته الى اكثر من النصف. وقد استنكر معهد الاعلان والدعاية في انكلترا هذا الاسلوب المتنكر ونشر اعتراضه في كتاب اسماه (التوصيل تحت الشعور) في عام 1958 كما منع المعهد 243 وكالة اعلان من استخدام تلك الطريقة بقوله: "إن المواطن حر في اختيار او رفض ما تعرضه عليه الدعاية والاعلانات التجارية ... غير أن طريقة ما تحت الشعور تتعارض مع تلك الحرية. وحكاية التحفيز والحث الشعوري ليست حديثة بالحقيقة. اذ لمح لها ارسطو وتناولها بالشرح الفيلسوف لبينز عندما ذكر احتمال احداث الحوافز احساساً طفيفاً جداً قد لا يدرك المرء أنها حدثت فعلاً أو انه شعر بها حقيقة بينما يستدل عليها بعدئذ بنتائجها عليه فحسبز وهكذا اوضح @@@ في سنة 1910 كيف يمكن خفض درجة الصوت والكلمات المسموعة الى حد يكاد لا يسمع او كأنه صادر من الباطن. وفي عام 1955 قدم ديكسون دليلاً على أن الدماغ البشري يلتقط الحوافز مادون الشعور وأجرى ديكسون تجربة أخرى مماثلة لما فعله آدمز وذلك بأن أطلق بضعة كلمات على جماعة من الحاضرين بخفوت تحت درجة الشعور ولما سألهم عن الكلمات الأولية التي تخطر أو تقفز الى اذهانهم في الآونة أجابوا بالكلمات التي اطلقها لتوها.
وقد أشار (الدوس هكسلي) في ندوة تلفزيونية الى الحقيقة المرة وهي أنه اذا ما اكتشف رجل الاعلان القاعدة الناجحة في اعلانه استند عليها بكل ثقله واضاف عليها تعديلات وتحسينات مطردة وأنه قد يستغل نفس الاساس والقاعدة لاغراض دعائية اخرى كالدعاية الى انتخاب نائب أو رئيس.
الإعلان في التجارة:- يقال ان الاعلان بدأ منذ العهد الروماني إذ كان بائعوا الاصباغ والدهان يعلنون عن بضاعتهم بالكتابة بها أو بواسطة دفعات صخرية توضح ألوانها ونوعيتها. غير أن الاعلان والدعاية للبضائع والمنتجات بدا بصورة واسعة عندما أصبح الاستهلاك والتوزيع يشمل جماهير كبيرة وبضائع ثانوية لأن الاحتياجات الأولية الضرورية كالخبز واللحوم والخضراوات لا تحتاج الى دعاية كما أن القرية الصغيرة لا تتطلب ابواقاً من الحانك والخباز والاسكافي لإعلام الناس عن بضائعهم لأن الاعلان يتم هناك من الفم الى الاذن مباشرة وعندما صدرت الصحف والمجلات كانت خالية أول الامر من الاعلانات التجارية وكانت أولى صحيفة تنشر اعلاناً هي (ميركوريا بريتاينكوس) في عام 1922، وبعد أن اجتاح الحريق الكبير لندن ظهرت الاعلانات على نطاق واسع وكانت تدور حول المحلات والعناوين التي اعيد فتحها في محلات اخرى من المدينة بعد الحريق. وكانت صحيفة (نيوزلند) الصادرة في بوسطن عام 1704 أول صحيفة امريكية تنشر اعلاناً بأجر وكان اعلاناً عن سندات مفقودة.
وكانت الاعلانات القديمة مجرد اخبار حقيقية صادقة تلفت انظار القراء وانتباههم الى حدث او اختراع جديد. وتسللت الى الاعلانات روح المنافسة رويداً رويداً ثم @@@ الاجتذاب والفات النظر والحيل اللفظية والتشويق والاثارة مصحوبة بالرسوم والكاريكاتير والالوان. وكانت وسائل الاعلان تعتمد على التكرار أو استعمال الشعر والقافية الجناس. ومن اوائل الاعلانات عن البضائع كانت عن اصباغ اللحى .. اصباغ الاحذية .. الادوية السحرية لاعادة الشباب أو ازالة الصلع أو شفاء امراض الصدر. ولم يقتنع التجار بالصحف وحدها كوسيلة للأعلان لأن قراء الصحف محدودون فلجئوا الى لصق الإعلانات على الحيطان وبدأ فيض زاخر يغطي الجدران في كل مكان خاصة هي غير خاضعة للضريبة حينذاك، ولم تنتبه الدول الى تلك الحيلة التجارية إلا بعد أن @@@ قانون يمنع الاعلانات والملصقات على الجدران إلا بموافقة صاحب البناية وكان ذلك في لندن عام 1939. ثم تلا ذلك الاعلان بتوزيع المنشورات باليد بواسطة رجال متنقلين دعاهم (تشارلز ديكنز) برجال الساندويتش، إذ كانوا يحملون اكداس الإعلانات من أمامهم وخلفهم ثم لجأ التجار الى مشاهير الفنانين ليرسموا لهم مناظر ومواقف تساير خط دعايتهم. ومهما كان استنكار الناس لذلك واتهامهم لهم بإهانة الفن فإن الاعلان عن الانتاج التجاري باللوحات انتقل الى فرنسا. وكان الفنان (طولوز لوتريك) في مولان روج يرسم الحوادث اليومية في ذلك الملهى الشهير وكذلك فعل (جول شيري)، وفي عصر اللورد (تورثكليف) انتقل الاعلان في الصحف الى مرحلة خطيرة إذ اصبح الممول الرئيسي لحياة الصحيفة ذاتها.
والصحيفة التي لا تعتمد نصف نفقاتها –على الاقل- على وارداتها من الاعلانات محكوم عليها بالإفلاس والاحتجاب، كما اصبح الإعلان تجارة بحد ذاته ونشأت المؤسسات والشركات الدعائية المختصة كما ذكرنا. واصبح رجل الاعلان ليس مجرد ضابط اتصال او وكيل اعلان بل شخصاً مستقلاً ومكتفياً بعمله. واصبح الاعلان علماً نفسياً يستغل عواطف الامومة أو غرائز التقليد وحب السيطرة والرخاء والغنى وحب الظهور والتطلع الى كسب اعجاب الغير ومديحهم. كذلك استغل الإعلان تجارب بافلوف في خطوة الاقتران والتكرار بحيث أن الكلمة المعينة اذا ذكرت حل محلها في ذهن القارئ أو السامع مباشرة الموضوع أو البضاعة المقصودة في الدعاية ماذا ذكرت كلمة (هوفر) مثلاً تبارد الى ذهنه راساً @@@ الدعائي (ماكنة التنظيف والكنس) الكهربائية. وقد شرح هذه الارتكازات النفسية التجارية البروفسور والتر د. سكوت مدير المختبر النفسي في شيكاغو في سنة 1909 وذكر أيضاً كيف أن اصحاب الاعلانات يتجنبون الفكاهة والدعاية في الاعلان لأنه عمل جدي. إن الجدية المتعمدة تلك والخبرات النفسية والاجتماعية تقدم للمستهلك معلومات لا يمكن أن توصف بأنها حقيقة أو صادقة، بل مجموعة من أنصاف الحقائق والاكاذيب والمخالطات والمبالغات والمبهمات التي تحمل الوجهين أو الخداع بصورة عامة.
ويتجلى ذلك في الاعلانات عن الأدوية كما هو موضح في الأمثلة التالية:-
استعملوا الكلوكوز .. ستشعرون بالتعب لشدة حاجتكم اليه ....
للإمساك مضار .... حاربه باستعمال الملين –سين- ......
الروماتزم ينتج عن شوائب في الدم ... فاغسل الشوائب باستعمال ملح –عين- ....
فإذا شئنا الحقيقة العلمية كان الكلوكوز ضروري للجسم البشري فعلاً لكن الانسان لا يتعب اذا لم يتناوله مالم يكن مصاباً بمرض معين، وكل جائع يتعب أيضاً. كما أن الامساك لا ضير منه مالم ينتج عن امراض معروفة في الجهاز الهضمي، بينما استعمال الملينات بكثرة هو الذي يؤدي بالحقيقة الى مضاعفات وامراض. أما الروماتزم فهو تعبير غامض حتى على الاطباء، ومن ال@@@ عزوه الى شوائب في الدم. وينطبق الشيء نفسه على مساحيق الغسيل واعاجيبها، فالمسحوق الفلاني يحوي على المادة السحرية العجيبة التي اكتشفها خبراء لأحداث المزيد من فقاعات الأوكسجين، فاذا ما تحققنا عن ماهية تلك المادة السحرية اذا بها الـ(بيربورات) القديمة المعروفة .. كذلك حدث ولا حرج عن السكاير وانواعها واعاجيب الاعلانات عن مذاقها وروائحها، فإذا جئنا بمجموعة من المدخنين المزمنين واطبقنا عيونهم بالاربطة وقدمنا لهم أنواع السكاير ليدخنوها ويميزونها بواسطة الغليون لفشل أكثرهم في ذلك. وتحدث الدعاية الأعاجيب من الإقبال على المنتوجات حتى الشعب الإنكليزي المحافظ انطلت عليه حيلة تجارية امريكية.
فقد كان الانكليز يتناولون الزبيب المستورد من استراليا وافريقيا الجنوبية والذي كان يغمر أسواق انكلترا. وكان لدى جمعية الزراع الامريكان فائض ضخم من الزبيب أيضاً، فما كان من الجمعية الفلاحية تلك إلا ان تصرف 250 الف دولار خلال ستة اسابيع على لندن وحدها واحتلت الدعاية عن الزبيب بدون نواة كل أتحاد لندن من باصات وجدران وزوايا وقطارات تحت الأرض وكانت النتيجة أن بيع من الزبيب الامريكي 20 الف طن خلال سنة واحدة. وجاء التلفاز بعد السينما ليقدم ميداناً فسيحاً للإعلان التجاري مصحوباً بالموسيقى والأغاني والتمثيليات القصيرة جداً، ثم ظهر التلفاز التجاري ذو القطاع الخاص كما ظهرت السيارات حاملات اللافتات والمذياع التجاري وهكذا فإن ارخص البضائع وأبخص القيم يمكن أن تباع بالإعلان المتكرر والمثابرة. انه المستمر على العقل البشري لتدق فيه الافكار والاتجاهات كما تدق المطرقة على مسمار ويكون الطرق اقل جهداً واسرع مفعولاً عند الناس القلقين أو ذوي الوساوس والمراق والشكوك، وتزداد حمى الدعاية واللغو النفساني كلما تراكمت البضاعة لدى البائعين والمنتجين وارتاعوا من كسادها إلا أن النتيجة خداع وارباك للفرد المستهلك ويعترف (دافيد اوجيلفي) أحد رؤساء مؤسسات الدعاية والاعلان بقوله: "لايوجد في الحقيقة فرق ذو شأن بين مختلف أنواع السكاير ... ولا في أنواع الويسكي ولا البيرة ... إنها جميعاً في حكم السواء وكذا أنواع الكيف والمساحيق والمعاجين والسيارات! ... ".
ويتوقع المراقبون أنه اذا صدرت قوانين حكومية تمنع الاعلان التلفزيوني عن السكاير فسوف تخسر محطات التلفزيون في الولايات المتحدة الامريكة فقط حوالي 200 مليون دولار سنوياً تربحها من تلك الاعلانات. الا أن الحرب الإقناعية للتدخين ستستمر ... وما تنفقه الشركات على الاعلان التلفزيوني تستطيع استغلاله في مجالات اعلانية اخرى كاليانصيب والجوائز والهدايا وربما في البحث العلمي أيضاً عن فوائد التدخين أو مضاره الموهومة