اقترب مواعد اذان المغرب في أول يوم من رمضان 1434ه وقد بلغ مني الجوع والعطش مبلغهما , فأخذتني سنة من التفكير خطر لي فيها أن الله تعالى خلق الإنسان من جسد وروح , وأن الحياة الإنسانية لكي تتزن فما من خيار أمام هذا الإنسان من الاهتمام بجانبي تكوينه ..جسده , وروحه , لأنه إذا اهتم بأحدهما وأهمل الآخر ، لم يستمتع بهما معا , وخسرهما معا
فالإنسان الذي يهتم بجسده فقط يعيش حياة مادية مظلمة أهم خصائصها ( الرق) أو العبودية للمادة , والرقيق لا يملك من أمره شيئا , فكل شيء فيه حتى إرادته يجب أن تتحرك في المجال الذي يسمح به سيده دون نشوز او انحراف .
والذي يعيش بلا روحانيات هو ذلك الإنسان الأسير الرقيق الذي يأخذ أوامره من المال والشهوة والعاطفة الجامحة فهؤلاء من يستعبدنه ويشكلن له علاقاته بغيره , ويرسمن له قيمه الخاصة وسلوكه الخاص الذي يخدم هذه القيم دون أي اعتبار .
وهذا النمط الإنساني لا بد أن يرتطم بغيره من الناس ارتطام عداء ومنافرة , ومن ثم لا يجد سعادة ولا اطمئنانا في حياته , بل هي التعاسة مهما صوَّر لنفسه وخادعها , ومهما ساق له من تبريرات حينما يحادثها بنجوة من الناس , ومن أجل هذا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف أن الحياة المادية التي يخلص فيها الإنسان للمادة وينسى الروح والقيم النبيلة هي حياة التعاسة والشقاء فقال صلى الله عليه وسلم : (( تعس عبد الدينار , تعس عبد الدرهم , تعس عبد الخميصة , تعس عبد الخميلة , تعس وانتكس , وإذا شيك فلا انتقش )).
وقد أدرك الإنسان مؤخرا هذه الحقيقة , فقد تقدم ما شاء أن يتقدم في مراقبة نفسه وتصرفاته , وتحليل أفكاره , ومراقبة ذهنه , ومحاولة التحكم في عقله , ليصل بذلك إلى السعادة , ولكنه اكتشف أن التقدم والحصول على البصمة المميزة في الحياة وترك أثر يمدِّدُ ذكره في العالمين – اكتشف أن كل هذا لا يمكن أن يتمَّ إلا إذا راعى الإنسان مكوناته الأربع وهي : (الجسد , والقلب , والعقل , والروح ) .
اكتشف الإنسان أن التوازن والانسجام في الحياة لا يمكن أن يتحقق بعيدا عن صلة روحية بين المخلوق والخالق , ولا يمكن أن يتم بلا إيمان , تحقق الإنسان من ذلك بجهده العقلي وتجاربه المستمرة , واستفادته من أخطائه ونكص على عقبيه يستشهد بنصوص من كتبه المقدسة التي اعتزلها واعتبرها ضربا من الخرافات ونوعا من المخدِّرات .. نكص يصطلح مع الإيمان الذي نبذه في فترة من ماضي زمانه ..عاد من سفره الطويل في طريق الإلحاد ليكتشف إنه إنسان ..إنسان ..جسد وروح , وقلب وعاطفة .. ولا بد أن ينمى ذلك كله , وأن يمارس نوعا من الرياضة الموجهة لتنمية هذه الأركان الأربعة , ليصل في النهاية إلى الاتزان والنجاح والسعادة .. اقرأ مثلا ..كتاب العادة الثامنة لمؤلفه ستيفن .ر. كوفي أو كتاب العادات السبع للناس الأكثر فعالية للمؤلف نفسه ..
تذكرت ُ محتوى هذين الكتابين مع بوادر شعوري بروحانية الصيام في اليوم الأول من سيدي شهر رمضان , نعم هو سيدي لأنه يعلمني معنى السيادة على رغباتي وشهواتي وعواطفي ..إنني أتحكم في نفسي وأنا صائم ..أقودها ولا تقودني ..أوجهها ولا توجهني ..لقد صرت قائدا ..
إن خالق الإنسان قد صمَّم له في أصول دينه ما يحفظ له هذه الروحانية التي تستقر بها حياته , ولم يشأ سبحانه أن يجعلها نفلا من النوافل يُترك لاختيار الإنسان بل أكرهه عليها وألزمه بها , لأهميتها الحيوية في حياته كإنسان , ألزمه بها حتى يذكره بذلك الجانب الخفي من تكوينه والذي يحتاج إلى الرعاية والتعهد والتغذية والمراقبة والإصلاح , فقد أمره بالصوم وجعله ركنا من أركان الدين .
والصوم عن الطعام والشراب والشهوة هو انحياز إلى الجانب الروحي من تكوين الإنسان , فهو حرمان مشروع , وتأديب بالجوع , وخشوع لله وخضوع .
والصوم يُشعر الصائم بلذة الطعام والمعنى الروحي للماء الذي أحيا الله تعالى به كل شيء , ويحس الصائم بحكمة الله تعالى في قيام السعادة على المتناقضات فلولا الجوع ما عرفنا لذة الطعام , ولولا العطش ما أدركنا لذة الشراب , ولولا التعب لسئمنا الراحة , ولولا الحزن ما كان للفرح معنى , ولولا نهار رمضان ما استمتعنا بأذان المغرب وما عرفنا فرحة الصائم حين يفطر .
فالصوم يجعل منك أيها الصائم نصف ملك في مبناك وأعظم من ملك في معناك لأنك تقدر على معصية ومع هذا تساميت عليها , وتقدر على الشهوة وترفعت عنها , وتقدر على الفرار من قيود العبادة ولكنك آثرت البقاء في حضرة مولاك .
ولا تصل إلى ذلك إلا بمراعاة المعنى الروحاني في كل تصرفاتك وأنت صائم , فيجب أن تتسامى على دناءة النفس التي تنظر للآخرين نظرة احتقار وتحرك ثعبانها في محيط فمها ليلدغ هذا وهذه , فتستمتع بذكر عيوب الآخرين , والمعنى الروحاني في الصيام يجب أن ينسرب نوره إلى عينك لتغلق جفنها عن كل عورة حرام , والمعنى الروحاني في الصيام يكسوك حلة من حلل السكون والهدوء , فلا تصخب ولا تجهل , وتعلِّم كل من يحاول نزع هذه الحلة عنك أنك لن تنسلخ منها فتذكره إني صائم ..إني صائم ..
والمعنى الروحاني في الصيام يغل يدك عن الطيش في سفرة الإفطار , فهذا الشهر شهر الروح لا شهر الجسد , فتخفف في طعامك لتعطي لروحك أوسع مساحة في جسدك , ومن ثم تخف للصلاة والقيام ..والصلاة كبيرة إلا على الخاشعين .
والمعنى الروحاني في الصيام يتقوى بالقراءة الروحانية للقرآن الكريم فهو كلام الله ولذا فهو روح روحانيتنا ..نحن البشر .. إنه كلام من وهبنا الأرواح , فكيف إذا دخلنا إليه من هذا الباب وكيف إذا كان هذا الدخول في الشهر الذي نزل فيه القرآن الكريم ..