المنفــــــــــــــــوش

لصلاح ابوشنب

كان يوما من أيام الصيــف الجميلــــة ذات الهواء العليـل المنعش ، والاسكندرية المضيافه كعادتها هــــى محط انظـــار سكان المحافظات الاخرى ، عاد من عمله كالمعتاد ، حــــاول ان يستلقى على الفراش خاصمه النوم ، قام الى الشرفه التـــى ترى البحر ، شاهد سباقا للفلك المشرعه يمخر امواج البحــر كان قد نظمه نادى اليخت المصرى ، شعر برغبة فى النـزول للتمشى على الشاطىء ومشاهدة السباق عـــن كثــــب ، ساقته قدماه الى الحانوت الذى كان يحتل ذاوية تكاد تكون فريدة . جلس يراقب المارة بين رائح وغاد ، اعـــداد كبيـرة من الناس غالبيتهم من الشباب والفتيات الذين يتعمدون تمضيــة الوقـــت فوق هذه البقعة المثلثه انتظارا لدخول دور السينيما التى تلتف حول الحانوت التفاف السوار بالمعصم . فى تلك الجلسه كـان الوقت يمر كالبرق دون الحاجة الى النظر لعقارب الساعة . المناظر المتنوعه والحركة الدائبه يقطعون الملل من أوصاله . فى خضم الزحام برز شاب وسيم ، فــارع الطــول رياضـــى البنيه مفتول العضلات يحتوى تحت ابطه فتاة جميلة ترتــــدى بنطال ضيق من الاستريتش اظهر مفاتنهـــا بشكل صـــارخ ، كانت منطويه تحت ذراعه الغليظـــه كانطــواء عصفور تحت جناح امه ، دلف الشاب الى الحانوت لاجـــراء مكالمـة هاتفيه تاركا فتاته تنتظره بالخارج قرب حافـــة الافريــز . شاب آخر عاقص الشعر تتدلى مـــن رقبته سلسلة من ذهـب زائف ، كنا نطلق عليـــه وعلـــى امثاله (خنافس) شاهدهـــا تقف بمفردها فغازلها ، تركتـــه وانتقلــت لتقـــف بجانــب بـــاب الحانــوت الزجاجى السميـــك المصنوع مــن مادة السيكوريت المصقول ، تسلل فى زحمة الناس حتـى كـــاد أن يلتصق بها . من خلف الزجاج لمحه الفتى وبشكــــل مفاجىء القــــى بسماعة الهاتف جانبا وبحركة رياضيه غاية فى الخفة والسرعة التقط الخنفس من كتفيه كالعصفور ، ودون ان يتـرك لـه أيـــة فرصه للدفاع عن نفسه دفعه بكل قوة فى منتصف اللـوح الزجاجـى فأخرجه من الجهة الأخرى وكأنما الزمن قـد توقف لحظــة ، كان الكل فيها فى حالة ذهول مما حدث ! خرج الفتى من الجهة الاخرى متسربل بالدماء وكأنما خرج من مجزرة تتدفق منه الدماء بعد أن تمزقت ملابسه وكأنمـــا شُرشِرت بشرشـره ، اســـرع اليه الناسُ اشفاقا عليه ، لكنه فآجأ الجميـع بالهــروب مُطِلقاً ساقيه للريح صارخاً فزعًا وكأنه يوم النشور وقـد خرج من مقبره ، وبين الزحام اختفى يَجُرُّ الخِزىَ مــن بعدِ مَهْـــزَأةٍ ومَسْخَرَة . وقفت الفتـــاة تعلن صراخهـــا بلطم الخديـــن بعين مـن الفجر والمقدره ، بعدما ألـْقتْ الحياءَ تحت اقدامها فَويلٌ لعبلــةِ مـــن عنترة . تكالب الناس على فتاها جملة واحـــدة وكــان أولهـــم صاحب الحانوت الذى اصر على الحصول علـــى ثمـن الباب الذى تحول الى فتافيت صغيرة تناثرت علــى الارض ، لكــن الفتى رفض بشدة وركبتـــه الغطرســـه والغـــرور وانتفشــت عضلاته ، وتظاهـــر بالتماسك وعـــدم المبالاة ، استدعــــى صاحب الحانوت الشرطه التى ما ان رأتها الفتاة حتـــى توقف صراخها وولولتها ولاذت بالهروب خلسه وتلاشـــت كمـــا لو كانت فص ملح قد ذاب ، ونسيت الحبيب ونسيت مشكلة الباب وقبضت الشرطه على الشاب وسيق الى قسم الشرطه ملببا . أمام المأمور وقف يبكى بكاء الطفل ، وتحولـــت الغطرســـــه والكبر والغرور الى ذل وهوان والقوة الى خـور وضعف بعد أن اكتشــف الشرطى انه لا يملك فـى جيبه سوى بضع قروش ربمــا لا تكفــى لاجراء مكالمــة هاتفيـــه أو اثنتيـن ، اشتــاط الحاضرون غضبا وعلى رأسهم المأمــور ، بعـد أن شاهـــدوا هـــذا الفقــــر المشمـــول بالاستعـــلاء والاستكبـــار الفارغين ممــــا زاد صاحـب الحانوت تمسكا بحقه فـــى الحصول على مقابل التلفيات كاملة . خر الفتى علـــى الأرض باكيــا محاولا تقبيـــل قدمـــى صاحـب الحانوت الذى ارتد الـى الخلف مـــن فوره . فى تلك الاثناء سمع الجميع صراخا علــى با ب غرفة المأمور وتبيـــن أن صاحبتــه هى والدة الشاب . امـــرأة رثة الثياب قد أذهــب الدهــر نضـــارة وجههــا واستبدلـه بتجاعيد الشقاء والكد ، أقسمـــت لصاحــب الحانـوت أنها تعمل خادمة فى البيوت لتوفر الطعام والقوت لاخوة هـذا الخامــل الممقوت الماثل أمامهم ، والذى ينتظر امتحـــان الثانوية العامـــه وقــد أرهقهــــا تعليمه والانفــاق عليه لانــه أملهـــا الوحيـد واللـــه على ما تقول شهيد. ألقى كاتب المحضر القلم من بين أصبعيـه وأغلق السجـــل بينمــــا أخرج صاحب الحانوت شيئـــا مــــن حافظته ودسه فى يد العجـوز الباكيــه التى انحنت تقبل يده ثـم انصــرف ، تـرك المأمور مقعـده وتقـدم نحوهــا فرفعهــا من فوق الأرض وفى صمت كان أبلغ مــن أى كلمـات امسك بيـد ولدها ووضعها فى يدها وتركهما ينصرفا فى هدوء.