اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سامي الذيب مشاهدة المشاركة
وقد اشرت سابقا بأن المرحوم الدكتور محمد أحمد خلف الله - الذي تعتبره كافر - لا يتفق معك إذ يطالب بإعادة نشر القرآن بالترتيب التاريخي لنزول السور لتسهيل فهمه

وقد عرض فكرته في كتابه دراسات في النظم والتشريعات الاسلامية، مكتبة الانجلوالمصرية القاهرة 1977 ص 245-257

فهل هناك في هذا المنتدى رأي مخالف لقول السيد منذر ابو هواش ويتفق مع المرحوم الدكتور محمد أحمد خلف الله؟
ـ

الدكتور سامي الذيب،،

بعد التحية ..

لقد طالعتُ السجالات السابقة، وهي في جلها تتمحور حول "التسلسل التاريخي" لسور القرآن، إن جاز لنا اعتماد صك مثل هذا الاصطلاح تجاوزاً.

وفي الواقع هناك خلط في طرحك بين قضيتين، وهو الخلط الذي نجم عنه وصولك إلى نتيجة غير صائبة من الناحية العلمية. وإليك بيان ذلك:

فأما القضية الأولى: فهي أن ترتيب سور المصحف حالياً ليس بحسب ترتيب النزول.

وأما القضية الثانية: فهي اختلاف ترتيب السور لدى بعض الصحابة بما يشير إلى أن الترتيب لم يكن محل إجماع.

لقد ربطتَ بين هاتين القضيتين بحيث اعتبرتهما قضية واحدة، مما جعلك تذهب إلى أن اختلاف ترتيب السور لدى بعض الصحابة كان مردّه عدم وجود إجماع لا سيما في ظل ترتيب النزول! والاختلاف على الترتيب الحالي، والجدال حول توقيفيته من عدمها. وللحق فهي أمور التبس بعضها على آخرين قبلك.

أقول: كان القرآن (سوراً وآياتٍ) ينزل متفرقاً طوال فترة رسالة النبي، فضلاً عن نسخ آيات وإسقاطها من القرآن بأمر إلهي. ولم تكن هناك حدوداً فاصلة بين المكي والمدني، لا على مستوى السور ولا حتى على مستوى الآيات: فكان الأمر ينزل من السماء بوضع هذه الآية في السورة الفلانية في الموضع الفلاني، حتى يُعرف أن الآية الفلانية تنتمي للسورة الفلانية، مكيّها في مدنيّها والعكس!

وكان القرآن وقتها يُكتب ساعة نزوله على المواد المتاحة في بيئة وعصر النبوة، كالرقاع والأكتاف وجريد النخل وغيرها. لكن هذا التدوين لم يكن هو وسيلة حفظ النص، بل كانت الحافظة الأم لهذا القرآن هي صدور الرجال. من أجل ذلك لم يهتم الصحابة بتجميع ما يدوّنونه من القرآن في حياة النبي، نظراً لوجود الحفاظ، ولأنهم لم يكونوا ليفعلوا شيئاً دون أمر النبي.

وفي ظل هذا المشهد يستحيل وضع ترتيب لنصوص لم تكتمل بعد، لأن التنزيل الحكيم ظل حتى آخر حياة النبي، إلى أن نزل جبريل في العرضة الأخيرة بالوضع النهائي للقرآن، الشيء الذي بلّغه النبي بدوره إلى كتّاب الوحي. لكن ماذا يصنع الصحابة بما كتبوه من القرآن قبل هذه العرضة الأخيرة التي كانت بمثابة الاستقرار النهائي على نص القرآن؟ لقد أبقوا على ما هو مكتوب، لا سيما وأن الواحد منهم كان المكتوب لديه من القرآن متفرقاً غير مرتب ولا مكتمل، وربما لم يصل لعلمه شيء من الآيات التي نزلت، أو لم يُخبَر بنسخ هذه الآية أو تلك.

لقد كان المرجع الأول لنصوص القرآن هم الحفاظ الذين حفظوه بترتيبه الأخير عن ظهر قلب، ولكن هؤلاء بشر .. وحتماً ستنتهي أعمارهم شيئاً فشيئاً مما قد يؤثر سلباً على حفظ وانتشار القرآن. من هنا انتبه الفاروق عمر بن الخطاب إلى ضرورة جمع ما كتبه الصحابة وبخاصة بعد مقتل كثير من الحفاظ.

يقول القرطبي (الجامع لأحكام القرآن):

"أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق، رضي الله عنهما، بجمع القرآن مخافة أن يموت أشياخ القراء، كأبيّ وابن مسعود وزيد. فندبا زيد بن ثابت إلى ذلك، فجمعه غير مرتب السور بعد تعب شديد، رضي الله عنه" اهـ (1/50).

ذلك أن القرآن حتى وفاة النبي لم يكن مجموعاً ولا مرتباً، بل حسبما هو معلوم من هذه الفترة تحسباً لنزول نصوص أخرى. يقول السيوطي في كتابه (الإتقان) :

"وقد كان القرآن كُتب كله في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن غير مجموع في موضع واحد، ولا مرتب السور" اهـ (1/76).

فانتبِه، هداك الله، إلى قوله (غير مرتب السور) التي نستخلص منهما أمرين:
(1) أن مقصود جمع القرآن كان جمع كل السور المتناثرة هنا وهناك، كل سورة بآياتها، وضمها إلى بعضها البعض. ولم يتسنّ لزيد ترتيب هذا المجموع الضخم الذي تمكن من التحصّل عليه.
(2) أن الترتيب النهائي سور القرآن كان معروفاً، لأن الإقرار بأن السور لم تكن مرتبة يعني أنه كان هناك ترتيب لم يُراعَ، وإلا لو لم يكن هناك ترتيب معلوم للسور لما قيل إنها غير مرتبة، وهذا الأمر لا يخفى على أريب!

هذا المجموع الذي تحصّل عليه زيد لم يلغِ ما احتفظ به عدد من الصحابة من كتاباتهم الخاصة، إذ ظل لدى بعضهم نسخته من القرآن على غير نسق أو ترتيب. من أجل ذلك نقلت لنا الروايات ما بين تلك المجموعات القديمة من النسخ (والتي أطلقوا عليها مصاحف) من تفاوت شديد في ترتيب السور، بل ونقص بعض الآيات، لأنه كما اتضح لديك لم تكن غاية الجمع هي الترتيب بل التجميع وإتمام كل سورة على حدة.

يتبع