من المسؤول عن تخلفنا؟ عمرو خالد أم طه حسين؟ (1)
بقلم د. إبراهيم عوض

ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9

فى مقال له بالأهرام بتاريخ 26/ 12/ 2007م عنوانه: "من يتحكم فى عقل مصر؟" كتب الأستاذ شريف الشوباشى وكيل وزارة الثقافة بمصر كلاما عجيبا كله أخطاء ومقارنات ساذجة وأحكام مطلقة ليس فيها رائحة الصحة يدين به عصرين من عصور الحضارة الإسلامية إدانة تامة لا ترى فيهما إلا كل شر، ويلمز التدين من طَرْفٍ خَفِىٍّ ومن طَرْفٍ ظاهرٍ معا. وقد دفعنى ما جاء فى المقال إلى التعقيب عليه بما فتح الله به إبراء للذمة وتوعية للقارئ بأنْ ليس كل ما يُكْتَب فى الجرائد هو كلام سليم، بل فى كثير منه ضحالة وضآلة. ولسوف أورد أولا كلام الأستاذ الشوباشى كاملا، ثم أقفِّى عليه بما كتبته فى تفنيده.
قال الأستاذ: "لو تخيلنا أن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين بعث من قبره في هذه الأيام وأقام ندوة في قاعة صغيرة‏ فالأرجح أن عدد الحاضرين لن يتجاوز بضع عشرات‏.‏ ولو افترضنا أن الداعية عمرو خالد أقام في نفس الليلة أمسية دينية في إستاد القاهرة الدولي فالأرجح أنه سوف يمتلئ عن آخره‏،‏ بل وسيكون هناك تجمهر من المريدين في الخارج يُمْنَعُون من الدخول نظرا لامتلاء الإستاد‏.‏ هذا هو حالنا الآن في عصر سُحِبَتْ فيه السجادة من تحت أقدام أهل الثقافة، وانفض الناس عن كل من يتحدث بلغة العقل‏‏ ويتخذ المنطق والعقلانية وسيلة للتأثير في النفوس‏.‏
وقد ظلت مصر قرونا طويلة ترزح تحت مظلة الجهل وتغييب العقل في عصور سيطر خلالها العثمانيون والمماليك على مقدرات البلاد‏،‏ وكان همهم الوحيد هو الإبقاء على سلطانهم ونهب خيرات الشعب‏.‏ لذلك فقد كان من الطبيعي أن تسيطر الخرافات والأساطير على عقول الناس بتشجيع من الحكام الأجانب كما كان الحال خلال القرون الوسطى في أوروبا‏،‏ حيث كانوا يربطون المريض في شجرة ويضربونه بالسياط لاعتقادهم بأن الشيطان بداخله هو السبب في علته‏.
وبدأت بشائر عصر النهضة عندما بادر الوالي محمد علي‏،‏ مؤسس مصر الحديثة‏،‏ بإرسال البعثات إلى الخارج لينهل مبعوثوه من العلم والمعرفة التي كانت أوروبا قد استوردتها من العالم العربي الإسلامي في عصر نهضتها‏.‏ وشيئا فشيئا بدأ عصر جديد تماما على مصر، وهو ظهور طبقة ممن يمكن أن يطلق عليهم: "المثقفون" استفادوا من اطلاعهم على الفنون والآداب والعلوم الأوروبية‏،‏ وأضافوا لها اللمحات المصرية والعربية‏ المستمدة من حضارتنا العريقة‏.‏ ولأول مرة تم تأليف كتب بمنهج جديد تماما على العقلية العربية، وهو وضع مؤلف في موضوع خاص غير الدين ويكون للنص منطق وتسلسل يصلان بالقارئ إلى رأي في قضية عامة‏.‏ وربما كانت مقدمة ابن خلدون هي المحاولة الوحيدة الجادة في هذا الاتجاه قبل ذلك‏.‏ فلم يكن هذا العبقري رائدا في علم الاجتماع فقط، وإنما أيضا في منهجية التأليف‏.‏
ولعل أول كتاب في العصر الحديث يستحق هذا الاسم هو‏ "تخليص الإبريز في تلخيص باريز‏" لرفاعة الطهطاوي الذي وضعه بعد عودته من باريس واطلاعه على حضارة فرنسا وأوروبا‏.‏ ثم توالى كبار المثقفين من أمثال علي مبارك ومحمد عبده‏،‏ وعبد الرحمن الكواكبي وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد ومصطفى عبد الرازق‏،‏ ثم طه حسين والعقاد والحكيم وغيرهم‏.‏ وقد أتاحت الصحافة نشر أفكار كل هؤلاء على نطاق واسع لم يُتَحْ مثله لكل سابقيهم‏.‏ وتنبه كل هؤلاء لقيمة ذلك الاختراع الجديد فكتبوا جميعا في الصحف، وكان ألمع المثقفين يتخذون من "الأهرام" منبرا للوصول إلى أكبر عدد ممكن من القراء‏. وظل هؤلاء هم الذين يشكلون عقل مصر وضميرها طوال حقبة الملكية وحتى نكسة ‏1967.‏ وفي هذه الفترة الفاصلة في تاريخ مصر الحديث بدأ دور هؤلاء المثقفين يخفت شيئا فشيئا، وبدأ الناس لا يؤمنون بما يقولون، وظهر تيار يتهمهم بالكذب والاحتيال على الناس حتى أوصلونا للهزيمة والانكسار‏.
ولم يجد المتحدثون باسم الدين صعوبة في ملء الفراغ والسيطرة على عقول الناس‏.‏ فإن كان المثقفون، كما يقولون، قد مالأوا الحكام وأسهموا في تخدير عقول الشعب وتبرير الأخطاء التي أدت إلى التدهور والهزيمة‏،‏ فإن قادة الرأي الجدد الذين يتخذون الدين وسيلة للوصول إلي السلطة إنما يناهضون الحكم وينتقدون الحكومة ويعتبرون أن البعد عن الدين هو سبب كل المصائب التي حلت على مصر وأن الحكومات المتوالية تناست الدين فجرّت البلاد إلي الهاوية‏.‏ وأصبحت اللغة التي يتقبلها الناس هي لغة الغيب والخزعبلات‏ حتى رأينا العجب العجاب علي شاشات الفضائيات‏.‏ فإذا كان العقل قد أثبت فشله في تفسير الواقع فلا بد من وجود وسيلة أخرى لإرضاء الناس المتلهفين لمعرفة الحقيقة‏.‏ وظهرت طبقة من المتحدثين باسم الدين يغرسون قيما جديدة معظمها يأخذ من ديننا الحنيف القشور‏،‏ واستغل تيار سياسي هذا المناخ الجديد ليستشري في الحياة السياسية المصرية كما لم يحدث في تاريخها الطويل‏.‏
ومع انكماش دور المثقفين أصبح هؤلاء هم الذين يتحكمون في عقل مصر ويمثلون المثل الأعلى بالنسبة للشباب الذي يرى آفاق المستقبل موصدة في وجهه حتى أصبح بعضهم على استعداد لإلقاء أنفسهم في التهلكة من أجل الهجرة للخارج‏.
والمشكلة أن هؤلاء الذين يتحدثون باسم الدين لا يعرفون الدين‏،‏ بل يركبون الموجة للتوصل إلي أهدافهم التي لا علاقة لها بالسماء لكنها أهداف دنيوية ومادية وسلطوية‏.‏ وأصبح الذين يدغدغون الغرائز ويلعبون على أوتار الحرمان والفقر والخوف من المستقبل ويستغلون الإيمان المتجذر في أعماق الشعب المصري‏‏ هم الذين يتحكمون في عقل الأمة‏.
وفي رأيي المتواضع فإنه لا أمل في أن تأتي أية إصلاحات اقتصادية أو سياسية أو هيكلية بثمار حقيقية مادام المتحكمون في عقل مصر يفسدون هذا العقل ويجرّون المجتمع إلي قضايا وهمية ومعارك دون كيشوتية يكون الخاسر الأول فيها هو الشعب المصري".
انتهى ما قاله الأستاذ الشوباشى، والآن جاء دورى لأدلى أنا أيضا برؤيتى فى القضايا الخطيرة التى طرحها وقدم تحليله لها ورأيه فيها وحلوله لما يتصل بها من مشاكل. ومن هنا أتوكل على الله وأقول: أول شىء نلاحظه فى هذه السطور هو وضع المؤلف للمثقف مقابل الداعية كأنهما نقيضان لا يمكن أن يجتمعا ولا أن يكون بينهما تفاهم أى تفاهم، فكأن الداعية ليس مثقفا، بل كأنه لا يستخدم عقله ولا يخاطب عقول الآخرين، إذ جعل الكاتب من المثقف صاحب عقل، أما الداعية فلا عقل له. وخلاصة الكلام هو أن الدين والثقافة شيئان متخاصمان لا سبيل إلى الالتقاء بينهما. وهذا كلام خطير غاية الخطورة، وبخاصة إذا رأينا أ. الشوباشى يندب حظ الأمة التى ابتلاها الله بالدعاة فاستجابت لهم وحرمت نفسها من بركات المثقفين من أمثاله هو وطه حسين! باختصار إذا كنتَ إنسانا متدينا: سواء كنت داعية أو واحدا من جمهور الدعاة فأنت إنسان لا عقل لك، ولا أمل فيك ولا فيما تسمعه وتقرؤه، بل الأمل كل الأمل أن تنصرف عن الدين وعن الدعوة إلى الدين، لأن الدين جهل وغباء. وأنت، إذ تفعل ذلك، إنما تنقلب على الخطة الصحيحة التى انتهجها محمد على ورجاله ومثقفو عصره حين تركوا ماضيهم واتجهوا نحو قبلة أوربا والغرب. أليس هذا هو ما تقوله السطور الماضية، صراحة أو ضمنا؟
ولكن هل كان طه حسين، الذى يجعل منه الشوباشى مثلا للمثقف ذى العقل، عاقلا فعلا فى كل ما كتب وتكلم ووقفه من مواقف؟ نعم، هل كان عاقلا مثلا حين أنكر أن يكون إبراهيم قد بنى الكعبة أو زار مكة أصلا رغم أن القرآن قد ذكر زيارته لمكة وبناءه الكعبة، فقال طه حسين المثقف العاقل نابذ الخرافة ومُزِيلها وقاشع حجب الظلمات عن العقول والنفوس والضمائر: وإِنِنْ؟ أى فليقل القرآن الكريم ما يشاء، أما أنا المثقف صاحب العقل المتنور فلا أصدق بشىء من هذا. أم هل كان طه حسين، إذ أنكر الشعر الجاهلى كله أو جُلّه لا لشىء إلا لأن مرجليوث المستشرق البريطانى قد سبقه بعشرة أشهر لا غير إلى إنكار هذا الشعر بعد أن كان هو نفسه قبيل ذلك مباشرة لا تدور فى خاطره خالجة من الشك فى ذلك الشعر، بل كان يؤكد وجوده إلى الدرجة التى كان يراه أساس الحضارة الإسلامية، أقول: هل كان طه حسين وقتها مثقفا عاقلا رغم أنه فى إنكاره للشعر الجاهلى لم يَسُقْ قط على دعواه الفطيرة أى دليل علمى؟ أم هل كان طه حسين، عندما دعانا إلى احتذاء أوربا فى كل ما تصنعه من خير أو شر، وحُسْنٍ أو سُوءٍ، وإلى نَضْو غشاء الشرقية العربية الإسلامية تمام النَّضْو والالتحاق بركب المدنية الأوربية والتنكر لكل ما لديْنا، هل كان طه حسين ساعتها مثقفا ذا عقل؟ ترى ما مقياس الثقافة والعقل عند شريف الشوباشى؟ أهو أن تكون مناهضا للدين؟ الواقع أن كلامه لا يقول شيئا آخر سوى هذا. لو أن طه حسين قال: إنه ليس بين يدىّ دليل خارج القرآن على أن إبراهيم زار مكة وبنى الكعبة هو وابنه إسماعيل، غير أنى فى ذات الوقت لا أستطيع أن أكذّب بما جاء فى القرآن لأن القرآن لا يمكن أن يكون مخطئا، إذ هو وحى سماوى، ووحى السماء لا يخطئ أبدا، فهو من عند الله أعلم العالمين، أو إن لم يكن يؤمن بالقرآن وبأنه من عند الله أن يقول: إننى لا أستطيع أن أكذّب بالقرآن لأنه ليس بين يدىَّ دليل على خطإ ما يقول، لقلنا له: نِعْم العقل. أما أن يكذّب بالقرآن دون أن يكون بين يديه أى برهان على صحة ذلك التكذيب فهذا هو فقدان العقل، وهذه هى مخاصمة الثقافة. ولو أن طه حسين أنصت جيدا إلى ما قاله له العلماء الأثبات الذين كانوا يعرفون أكثر جدا جدا مما يعرف هو عن الشعر الجاهلى وبينوا له أن كثيرا جدا من ذلك الشعر شعر صحيح، فاحترم علمهم وعقولهم وثقافتهم ولم تأخذه العزة بالإثم ويزداد تمردا دون دليل أو أثارة من علم، لكان رجلا مثقفا بحق وحقيق، أما أن يتمرد عليهم ويرفض أن يتعلم على أيديهم ما يجهله، فهذا هو فقدان العقل، وهذه هى مخاصمة الثقافة.
وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فهل من العقل والثقافة أن يعجز طه حسين عن أن يربى ابنه تربية عربية إسلامية، وقد كانا يعيشان فى بلد عربى، بل بلد زعيم العروبة، بحيث يعرف لغة الدولة والثقافة والحضارة التى ينتمى إليها، على الاقل إلى جانب اللغة الفرنسية التى لم يكن يعرف غيرها لأن أمه الفرنسية قد غرست فيه حب الفرنسية وكراهية العربية، تلك اللغة التى لم تحاول أن تتعلمها هى نفسها رغم أنها عاشت فى مصر عشرات السنين، ولو على سبيل المجاملة لزوجها وللبلد الذى جعل من زوجها وزيرا للمعارف، أى وزيرا للغة العربية وللثقافة العربية، لأن كل ألوان الثقافة فى تلك الوزارة بل فى ذلك البلد الذى تولى فيه طه حسين الوزارة إنما كانت وما زالت تُتَلَقَّى عن طريق العربية وتنتمى إلى الثقافة العربية؟ يقول أنيس منصور بالنص والحرف إن "ابن طه حسين الدكتور مؤنس لا يعرف العربية!" (من مقال له بعنوان "جاءوا من وادي الجن!"/ جريدة "الشرق الأوسط" الدولية/ السبـت 26 جُمَـادَى الأولـى 1426 هـ- 2 يوليو 2005م/ العدد 9713، وعلامة التعجب الموجودة بعد عبارة أنيس عن جهل ابن طه حسين بالعربية هى من عنده لا من عندى). هذا ما قاله أنيس منصور عن ابن طه حسين، الذى كان ينادَى فى البيت باسم "كلود"، كما كانت أخته تسمى: "مرجريت" نزولا على مشيئة الأم الفرنسية الجبارة التى كانت تربيهما تربية نصرانية فيما قرأنا، ولم يهتم أبوهما فى المقابل أن يربيهما تربية إسلامية، وها هى ذى كتبه التى ترجم فيها لنفسه وبيته وأولاده موجودة تشهد على ذلك. وقد استشهدت بأنيس منصور كيلا يقول قائل إننا نستشهد بخصوم طه حسين، فلا قيمة لتلك الشهادة.
وهناك كلام آخر كثير يمكن أن يقال فى هذا السياق، ولكن نكتفى بما ذكرته جريدة "الرياض" السعودية يوم الخميس 11 صفر هـ- 1 إبريل 2004م/ 1425العدد 13068 السنة 39 عن ذات الموضوع ، وإن كانت توسعت فيه بما يجلّى الصورة أكثر وأكثر، إذ كتبت تحت عنوان "الابن المنسي لطه حسين": "قبل أسابيع قليلة توفي في باريس الابن الوحيد للدكتور طه حسين من زوجته الفرنسية سوزان. اسم ابن طه حسين هو مؤنس، وكان يحمل شهادة دكتوراه في الأدب الفرنسي. وقد عمل فترة من الزمن أستاذا جامعيا وموظفا في منظمة الأونسكو بباريس. وقد جاءت وفاته في ذكرى مرور أربعين عاما بالضبط على وفاة والده، وإثر حديث أدلى به إلى جريدة "الحياة"، التي نشرت مع الحديث صورة لمؤنس بدا فيها شبيها شبها واسعا بوالده، سواء من حيث طوله أو من حيث ملامح وجهه. ولكن مؤنس غادر فجأة هذه الحياة إثر إدلائه بهذا الحديث، فما إن عادت الصحفية التي أجرت معه الحديث من جديد إلى منزله لغرضٍ ما بعد أيام من زيارتها الأولى حتى قيل لها إنه تُوُفِّي. وكان عند وفاته في الحادية والثمانين من العمر، وهو العمر الذي عاشه والده أيضا. وقد أجهد الكثيرون من القراء أذهانهم وهم يبحثون عن آخر ظهور لمؤنس طه حسين في مصر أو في الحياة الثقافية المصرية والعربية، أو عما إذا كان قد ظهر أصلا في الصحافة المصرية أو في ناد من نوادي القاهرة، فأعياهم التذكر. ذلك أن مؤنس غادر مصر قبل حوالي الخمسين عاما إلى العاصمة الفرنسية حيث حصل على الجنسية الفرنسية وعاش في فرنسا كأي مواطن من مواطنيها. ومع أنه نقل بعض أعمال والده إلى الفرنسية، ومنها كتابه: "أديب"، كما أنه كتب ذكرياته عن والديه ومنزل الأسرة في القاهرة، إلا أن ذلك لم يكن له أي صدى في الحياة الثقافية المصرية. وهذه الذكريات عن والديه وحياته معهما وهو شاب لا تزال مخطوطة لم تخرج إلى النور بعد، وتبحث وزارة الثقافة المصرية في الوقت الراهن عن مترجم مصري ينقلها إلى العربية. وقد أثارت وفاة مؤنس طه حسين على هذه الصورة في منفاه الباريسي، إن صح انه كان يعيش في منفى، ردود فعل مصرية تمحورت حول المسؤولية عن غيابه خارج مصر طيلة هذه المدة وانقطاعه انقطاعا تاما أو شبه تام عنها، إذ لم يحضر إليها سوى مرات قليلة تُعَدّ على أصابع اليد الواحدة، ومن أجل المشاركة في مناسبات عائلية تستلزم مشاركته كوفاة والده أو والدته.
كما طرح بعض المثقفين المصريين سؤالا حول سبب هذا الغياب. فهل كان ذلك هو النظام الناصري الذي كانت ترزح تحته مصر، أم لأنه وجد في باريس والغرب الترجمة الحقيقية لما كان حلم به طه حسين في كتابه: "مستقبل الثقافة في مصر"؟ أم للسببين معا؟ وقال مثقفون مصريون آخرون إن سبب ذوبان ابن طه حسين في فرنسا يعود إلى التربية التي تلقاها في منزل والديه في مصر. فالأسرة كلها كانت تتخاطب بالفرنسية فيما بينها، والمدرسة القاهرية التي كان مؤنس يتلقى فيها العلم كانت أيضا مدرسة فرنسية. ومع أن طه حسين كان يريد لولديه مؤنس وأمينة أن يجيدا اللغة العربية إلا أن وجود زوجته الفرنسية في البيت حال عمليا دون تحقيق هذه الرغبة، أو لنقل: إن رغبة زوجته طغت على رغبته. والغريب أن مؤنس ليس الوحيد في أسرة طه حسين الذي هاجر نهائيا من مصر إلى الخارج، فبعده لحقت به إلى باريس ابنة شقيقته أمينة المتزوجة من وزير خارجية مصر السابق محمد حسن الزيات لتقيم بالقرب منه في باريس، واسمها سوسن. أما شقيقة سوسن، واسمها مني، فقد هاجرت بدورها إلى الولايات المتحدة هجرة نهائية. وبذلك لم يبق في مصر من أسرة طه حسين أحد!
وقد طرح هؤلاء المثقفون المصريون السؤال التالي: لو أنه كان لعباس محمود العقاد أولاد، هل كان من الممكن أن يتركوا مصر نهائيا إلى الخارج؟ لقد كان العقاد شخصية مصرية صميمة متشبعة بالروح العربية الإسلامية. وقد كان مستبعدا لو تزوج ورُزِق بأولاد أن يسلك أولاده طريق باريس أو غير باريس. ولكن لأن طه حسين سلك سبيل "التفرنج"، ولم يكن إسلامه متينا من البداية، فقد مهّد السبيل لأن تدخل الرياح إلى منزله وتقتلع أسرته خارج بيئتها ومحيطها. والواقع أن ما يقوله هؤلاء المثقفون المصريون لا يخلو من الحقيقة. فما كتبه طه حسين أو عمل من أجله يمكن أن يؤدي لا إلى هجرة ولديه نهائيا من مصر إلى الغرب، بل إلى هجرة مصرية جماعية إلى أي مكان. بدأ حياته الفكرية بكتاب عن الشعر الجاهلي شك فيه بشخصيات واردة في القرآن الكريم، كشخصية إبراهيم عليه السلام. وفي كتب أخرى وجد أن لليهود حضورا قويا في التراث العربي الإسلامي، ودعا إلى تقوية هذا الحضور. وذكر في أحد كتبه أن مصر خضعت لغزاة كثيرين كان منهم العرب. وفي كتابه عن المتنبي شك بوجود أب شرعي لأبي الطيب واعتبره، بوجه من الوجوه، لقيطا أو ابن زنى! ولكن لعل ما ورد في كتابه: "مستقبل الثقافة في مصر" شكّل السبب النظري لهجرة ولديه إلى الخارج. فقد ذكر في هذا الكتاب أن العقل المصري إذا كان قد تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر المتوسط، وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط. وقد خطا خطوة أخرى في هذا الاتجاه عندما قال إن "المتوسطية" تؤدي تلقائيا وحتميا إلى أوروبا، وتعني الأوروبية وتفضي إلى التأَوْرُب أو الأَوْرَبة. فعنده أن طريق التقدم والقوة هي "أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة: خيرها وشرها، حلوها ومرها". فإن خيف على مصر من "أن يؤدي الاتصال القوي الصريح بالحضارة الأوروبية إلى التأثير على شخصيتنا القومية وطمس ما ورثنا من ماضينا وعن تراثنا"، فإن الرد لديه أننا إنما "كنا معرّضين لخطر الفناء في أوروبا حين كنا ضعافا مسرفين في الضعف، وحين كنا نجهل تاريخنا القريب والبعيد، وحين لم نكن نشعر بأن لنا وجودا ممتازا". أما الآن بعد التحرر والتطور والتقدم، "الآن وقد عرفنا تاريخنا، وأحسسنا أنفسنا، واستشعرنا العزة والكرامة، واستيقنّا أن ليس بيننا وبين الأوروبيين فرق في الجوهر ولا في الطبع ولا في المزاج، فإني (يمضي أو ينتهي طه حسين) "لا أخاف على المصريين أن يَفْنَوْا في الأوروبيين".
ويبدو أن الدكتور مؤنس حسين، رحمه الله، سمع كلام والده وأراد أن يختبر صحته بنفسه. سار سيرة الأوروبيين وسلك طريقهم وكان لهم شريكا في حضارتهم، فانتهى إلى الفناء فيهم. وفي غمار هذا الاختبار الصعب نسي مؤنس مصريته تماما، وربما إسلامه أيضا، فتحول إلى مواطن فرنسي إن لم يكن كامل المواطنية الفرنسية فإلى فرنسي لا يختلف عن أبناء المستعمرات الفرنسية التي يمكن لأبنائها أن يحوزوا الجنسية الفرنسية وأن يقيموا في باريس وينعموا بالحياة الرغدة فيها. صحيح أنه كتب في باريس ذكرياته عن منزل الأسرة: "رامتان" بالقاهرة، ولكنه كتب هذه الذكريات بالفرنسية لا بالعربية التي نسيها مع الوقت تماما وكمالا. وذكر في الحديث الذي أدلى به إلى صحافية مغربية ونشرته جريدة "الحياة" أن هذه الذكريات لا قيمة لها الآن لأنها لا تعني أحدا. ولكن المشكلة كانت في أن بوصلة التقدم عند طه حسين، وهي البوصلة التي استخدمها ابنه وأضلّته، كانت بوصلة غير سليمة. ذلك أن التقدم لا يعني وجوبًا التأَوْرُب، فهو يمكن أن يحصل بطريقة أخرى لا تؤدي إلى طمس شخصيتنا وهويتنا. كما أنه بالغ عندما تحدث عن العزة والكرامة، وجانب الصواب تماما عندما قال جازما إنه ليس بيننا وبين الأوروبيين فرق في الجوهر ولا في الطبع ولا في المزاج، ولذلك لا خوف على المصريين من أن يَفْنَوْا في الأوروبيين. ولما استخدم ابنه وَصْفَته، عن ظنٍّ منه بأن والده لا يمكن أن يقول ما قال إلا وهو متيقن من نجاعة طبه، فَنِيَ فناءً تاما في الفرنسية الأوروبية لدرجة تحوله إلى رقم في شقة في عمارة بأحد أحياء باريس! مع الوقت نسي مؤنس طه حسين مصر كلها، كما نسي منزل الأسرة وتراث والده. لم يكن قد بقي في ذاكرته سوى مشاهد ضبابية لأسرةٍ، الزوجُ فيها منصرفٌ إلى شؤون الجامعة والتعليم والأدب والثقافة، والزوجة فيها منصرفة إلى تربية ولديها تربية فرنسية مسيحية في جوهرها. كان العالم الجزائري عبد الحميد بن باديس يمجّد الأمهات الجزائريات اللاتي يلدن للجزائر أبناء بررة مخلصين لها، ويخشى على بلده من الفرنسيات المتزوجات من جزائريين لأنهن يلدن للجزائر أبناء ضعفاء في وطنيتهم وثقافتهم ولغتهم القومية. وقد أثبتت تجربة مؤنس طه حسين، الابن المنسي لطه حسين، الذي تُوُفِّيَ في باريس ودُفِن فيها كما يُدْفَن الغرباء، صحة نظرة ابن باديس وخطأ نظرة والده".