للناقد والكاتب والأديب الراحل رجاء النقاش موهبة في اجتذاب المحبين
فهو المشجع،
وهو الذي يأخذ باليد في حنو غريب..
له في نفسي حب خاص، لأن تواضعه لم يمنعه وهو الناقد الكبير والشهير من ترديد الاعتراف بفضل أديب رائع هو الراحل أنور المعداوي ابن قريتي الصغيرة في أقصى شمال الدلتا المصرية، وسجل ذلك في الكثير من مقالاته
رأيت أستاذي رجاء النقاش ثلاث مرات،
الأولى حيث كنت طفلا صغيراً، ورأيت مشاهير مصر وأدبائها وكتابها العظام، يمشون وراء نعش المعداوي، الناقد الراحل عبد القادر القط، وعمنا محمود السعدني، والشاعر الشهير زكريا الحجاوي، والنقاش، والحمامصي وغيرهم من جيل الستينيات المعروف في الأدب المصري.
كانت هذه الجموع المهيبة، تمشي برهبة وراء نعش واحد من أشهر نقاد العالم العربي في فترة الازدهار، ودفع ضريبة انتمائه السياسي قاسياً للغاية.
طفولتي لم تفرق بين أصحاب البدل الراقية، لكني سمعت أن من بينهم كاتباً يدعى رجاء، فضحكنا نحن الصبية، كيف أن يكون ناقدا ذكراً واسمه على اسم أنثى (رجاء) وكانت نسوة قريتنا اللواتي يولولن أكثر استغراباً وإعجاباً.
المرة الثانية كانت في مكتب جريدة اليوم بالقاهرة، حيث كان مديرا للتحرير، وحينما علم أنني من المركز الرئيس ابتسم قليلاً، وكأنه يشكو، أجبرني حيائي في حضرته على الاستفسار منه، فقطعت الصمت بالقول: أستاذي.. لا زلت أذكرك وأنا طفل؟
فضحك وقال: ليه يا واد هو انا كبرت أوي؟
فقلت له: شبابك أستاذ لا حدود له.
فاستدرك: هيه قول لي بأة.. شفتني فين؟
فقلت له: في جنازة أنور المعداوي..
فهب واقفا: هو انت بلدياته؟
قلت نعم..
فاحتضنني بشدة، وأجلسني بجواره، وأخ يسرد علي، كيف أن هذا الناقد الكبير لو استمر حيا لغير موازين النقد الأدبي في العالم العربي، وكيف أنه صاحب أول نظرية للأداء النفسي في النقد.
جلست مع الأستاذ رجاء أكثر من ثلاث ساعات، كانت بالنسبة لي متعة لا مثيل لها.
الثالثة: كانت في الدمام، حينما جاء في زيارة للجريدةـ وصادف أن أقام رئيس التحرير مأدبة له، وعندما رآني، أمسكني من يدي، وأصر على أن احضر، وأجلسني بجواره.
فارق كبير بين النقاش الذي رأيته في المرات الثلاث، وبين آخر مرة، حينما شاهدته للمرة الأخيرة قبل أسابيع، هزيلاً نحيفاً، تحول هذا الوجه النضر، الذي يشع احمراراً إلى زجاج مكسور في حفل التكريم
استرجعت صورة الأستاذ، وقلت لنفسي:
ولو..
بالأمس.. مات رجاء النقاش..
لم يكن وحده، بل نعى الناعون أيضاً الزميل العزيز مجدي مهنا، الذي وصل بإصراره وعزمه إلى ما لا يحلم به كاتب ما
من حب من الناس، وتقدير من كافة أبناء المهنة مهما اختلفوا معه
مجدي كان صوت الضمير الذي يجلدنا "في الممنوع" كل يوم
وكان صوت الناس الذي يطل عبر قناة دريم أسبوعياً
لم يمنعه المرض أو الألم من الاستمرار في قلب المعادلة
في الأيام الأخيرة، عندما احتجب عموده اليومي، أحسست أنه لن يعود، حاولت بشتى الطرق أن أكتب له رسالة، لعلها تصل إليه في غيبوبته الأخيرة..
قرأت كلمات المحبين، في نفس العامود اليومي الذي أفردته جريدة المصري اليوم "حتى يعود"..
تمنيت لو شاركت بكلمة وداع على الأقل، لكنها الحسرة، عندما لا تتمكن من وداع زميل، بل تكتفي برثائه!
لا زلت أذكر وجهه النحيل، وهو الذي يسبقني بعام في كلية الإعلام بجامعة القاهرة..
لا زلت أذكر كل الزملاء الذين كانوا هم أمل الإعلام المصري الحديث، وصناعه الآن.
لا زلت أذكر ابتسامة سيف كمال نايل، والشاعر الجميل جمال بخيت ومجدي جمال الدين وجمال كمال، ومسعود الحناوي ومي نور الدين ونجلاء أبو ذكري، وسوسن ونور الهدى زكي، وطارق الشناوي ومحمد شومان وحنان شومان ومحمد الكيلاني، ومحمود نفادي، وأحمد نفادي وعبد المنعم السلموني ونصر القفاص وغيرهم.. وقبلهم تخرج أسامة سرايا، وعمرو عبدالسميع، وعماد الدين أديب، وليلى عبدالمجيد، وحمدي حسن، ومحمود علم الدين، وأشرف صالح، وأسامة أيوب، وخالد جبر، ومحمد المصري، ومحمود صلاح، ونوال مصطفى، وشريف رياض، وسمية سعد الدين، وعاصم القرش... وعشرات الأسماء التي تدير الآن الصحافة المصرية،
لا زلت أذكر حمدين صباحي ومحمد بسيوني والعزب الطيب الطاهر.. وفراج إسماعيل، وغيرهم ممن يصعب على في هذه اللحظة تذكرهم جميعاً..
لا زلت أذكر كل هؤلاء الذين تفرقت بهم وبنا السبل، فصرنا لا نلتقي إلا عبر تليفون عابر، أو ذكرى جميلة
قرأت الخبر اليوم، فوجدت عيني تدمع دون إرادة مني..
تنتحب بشدة على جيل جميل، مهما اختلف، ومهما تناقض، إلا أنه في النهاية علامة مهمة
استرجعت ذكريات تجاوزت عشرين عاماً، ولكنها في كل الأحوال تجعل من النقاش ومجدي قلباً حياً وفكراً ثاقباً وأسطورة خجول لم تأخذ حقها في عالم لا يعرف إلا أن يهز وسطه!