تجليات المعرفة الباطنية في [ سيميائي ] " باولو كويللو "
الأداة السحرية كمحرك لفعل الإشراق

______________________________________
(أ‌) – مفتتح الدائرة : من الحلم إلى الحجرين عبر الساحرة و الملك .
الراصد لسيرة الأديب اللاتيني " باولو كويللو " و تقلباته الحياتية خلال مشواره السابق على تفرغه التام للإبداع الروائي لابد و أن تستوقفه ملاحظة انخراط الأديب المذكور في نشاطات تتعلق بممارسة السحر و محاولة استرفاد القوى الغيبية ، عن طريق انضمامه لإحدى الجماعات المشتغلة بهذا المجال في إنجلترا .
و الحقيقة أن هذا التوجه له ما يبرره على مستويين :
الأول : تلك الصبغة النفسية التي تسود كنمط عام يميز سلوك المبدعين بصفة عامة في انكبابهم الزائد على سبر أغوار الخفي و اقتفائه و امتياح رموزه و مجاليه في نواتج إبداعاتهم الخاصة .
الثاني : هذه التركيبة شديدة الخصوصية التي تطبع بميسمها نفسية " باولو كويللو " و التي أفرزت تناقضا على المستوى الظاهري لسلوكه الخاص و الذي يصفه بنفسه على أنه : ( ربما حار أهله بسلوكه غير المعتاد ، نصف خجول ، نصف استعراضي ، و رغبته في أن يكون " فنانا " ، شئ اعتبره كل فرد في عائلته وصفة تامة للانتهاء إلى منبوذ اجتماعي أو الموت بؤسا ) (1) .
و برغم وقوعه فريسة للأزمات النفسية ، مما استدعى علاجه في " مستشفى الدكتور إيراس في ريو دي جانيرو " لثلاث مرات متعاقبة خلال الأعوام 1965 ، 1966 ، 1967 على التوالي ، فإن أديبنا فيما يبدو كان أصلب عودا من المعتاد ، بل و مقاتلا من الدرجة الأولى ، حيث لم تكل يداه – برغم ما هو متوقع – من توالي الطرق على أبواب المجهول الكوني ، علها تجود بما يبل صدى نفسه الحائرة ، فكان أن انضم كما سبق إلى إحدى الجمعيات الإنجليزية المشتغلة بفنون السحر و منتميا إلى جماعات " الهيبيز " ، ثم منتهيا إلى مؤمن كاثوليكي متفرغ لإبداعاته الأدبية .
هذا الزخم من الخبرة الحياتية مضافا إليه عقلية طلعة منفتحة على ثقافات العالم جعلت من مفردات العالم الغيبي في بعده السحري أدوات مطواعة في متناول قلم " باولو كويللو " ، مفجرة سياقات جمالية و معرفية تحيل إلى فضاء الأسطورة و الخرافة و الحكمة القديمة ، مما يثير عبقا دسما لا يخطئه المتذوق لفن " كويللو " .
إلا أنني في طرحي هذا أسمح لنفسي بالذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك ، فأنا أزعم أن هذه المفردات الغيبية – خاصة ما كان منها منتميا إلى فضاء السحر بمعناه الطقسي – تلعب دورا أساسيا بوصفها دوافع أولية محركة لفعل السرد في أعمال " كويللو " ، بل و مطورة لذات الفعل ، مما يسمح بإمكانية استخلاص نسق بنائي كامل يتحكم في تطور السرد و تتابع الحدث و نمو الشخصيات .
و كنموذج تطبيقي فقد آثرت أن أنطلق من النص الشهير [ السيميائي ] The Alchemist و ذلك لعدة أسباب : أولها و أظهرها ، ارتباط النص في نسقه الحكائي بشخصية الخيميائي / السيميائي . ثانيها إسهاب " كويللو " في استرفاد الممارسات السحرية و السيميائية بمحمولاتها المادية و المعرفية مستعينا بمحورية المعرفة السيميائية و صياغتها لعوالم أبطال النص .
و ربما يكون من المنطق أن نبدأ بمدخل ذي صلة بمفهوم السيمياء كما يفهمها المعنيون بالغيبيات و كما صاغ " كويللو " نصه على هدي هذا المفهوم :
( تعني كلمة " شم " أو " كم " اللون الأسود في الهيروغليفية ، و لأن مصر أرضها سوداء فقد جرت العادة على استعمال الكلمة حين وصف مصر . و يذهب كثير من العلماء إلى أن مصر مهد الكيمياء ، و لهذا أطلقت الكلمة اشتقاقا من كلمة " كم " أو نسبة إليها . و يتبع رأي آخر ما كتبه " تزوسيموس " Zosimus ، و هو كاتب من " بانوبوليس " عاش في القرن الرابع الميلادي ، و يقول الكاتب المذكور أن مخترع الكيمياء كان رجلا يدعى " شيمس " Chemes و أنه ألف كتابا أسماه " شما " أو " كما " منذ عهد سحيق ، ساعدته فيه بنات الناس اللائى تزاوجن من الملائكة الذين هووا ) (2) .
( و كانت صناعة الكيمياء قديما تقوم على أساسين ، البحث عن شجرة الحياة أو شجرة المعرفة ، و قد مزجوهما في شجرة واحدة ، ثم حجر الفلاسفة ) (3) .
تلك الإحالة إلى المنشأ المصري للكيمياء القديمة " السيمياء " ، و هذا الحصر في سعي علم قديم إلى حيازة منبعي الخلود و الثروة – شجرة الحياة و حجر الفلاسفة – يجدان صداهما في دوافع الرحلة التي خاضها الراعي الشاب " سانتياجو " بطل [ السيميائي ] ، و التي بشروعه فيها فإن فعل السرد يبدأ في الانفجار مفتتحا دائرة عودها على بدئها في ذات نقطة الانطلاق – مدينته الوطن – و لكن شتان ما بين البدء و العودة ، فبدء الرحلة يتم و البطل لما يتفتح وعيه بعد ، فهو ما زال في طوره الغفل ، فما أشبهه بالمادة الغفل لمعدن اعتيادي يوشك أن ينصهر في بوتقة سيميائي محنك يروضه عبر سلسلة من الأحوال و الأفعال حتى تتوهج طينته و تتخلص من خبثها و تصل إلى فورانها الأقصى ، فما يعتم أن يلقي إليها بنفحة محسوبة من سر حجر الفلاسفة ، فتشهق الروح في غمرة المشاهدة و يتسلخ الفؤاد عن طوره الغشيم إلى كينونته العارفة بالفعل بعد أن كانت قيد المعرفة بالإمكان .
إلا أن " كويللو " لا يقنع فقط بالإطار المعرفي الدال و الموحي لنسق الرحلة / الطواف في الحج / المعرفة الباطنية الذوقية / التحول السيميائي من الخبيث إلى النفيس ، لكنه و بقوة يشرع في اتخاذ تدابير إجرائية تضمن دوام و استمرار فعلي التدفق / التطور لكل من الشخوص و الأحداث على حد سواء ، و هو ما يمكن تتبعه فيما يلي :
1- إدراك الراعي الشاب – على المستوى الحدسي – أن وعيه ما زال مدرجا في أكفان الغفلة ، هذا الإدراك يأتي مشفوعا بنزوع لاستكناه الدلالة السحرية للأحلام كعامل للتفسير و الإيعاز بالفعل معا ، و هو ما تسوقه الجمل الدالة : ( كانت العتمة لا تزال سائدة عندما استيقظ ، تطلع إلى أعلى ورأى من خلال السقف نصف المحطم نجوما تتلألأ . و فكر لنفسه : " كنت أود أن أنام فترة أطول " كان قد عاوده نفس الحلم الذي رآه في الأسبوع السابق ، و مرة أخرى استيقظ قبل نهاية الحلم ) (4) .
(و بدأ الشاب يدهش للأفكار التي تنتابه ، و اكتشف أنها غريبة . ربما كانت الكنيسة التي تنمو في داخلها شجرة الجميز مسكونة بالأشباح . أيكون هذا هو السبب في أنه قد رأى ذلك الحلم نفسه مرة أخرى ) (5) .
و أتوقف هنا للحظة عند دلالة رمز الشجرة النابتة فوق هيكل الكنيسة ، و ما يتضمنه من مزاوجة بين شجرة الخطيئة المسيحية و هي ذات الشجرة التي تتخذ مظهرا معرفيا و سرمديا في المفهوم السيميائي ، و التي بعد أن يتم تفتح الوعي في ختام رحلة " سانتياجو " تكون هي ذاتها مناط الرحلة و مخبأ الكنز .
ذات الكنز الذي اختتم فعل القص – و المكون من عملات ذهبية أسبانية قديم و أقنعة ذهبية توحي بغزوة أسبانية لإحدى حضارات أمريكا الوسطى – يحيل إلى بداية القصة حين يحكي الفتى كيف بدأ كراع : ( لم يضف الأب شيئا إلى ما قاله ، و في اليوم التالي أعطى ابنه صندوقا يضم ثلاث عملات ذهبية أسبانية قديمة . قال لولده : هي عملات وجدتها ذات يوم في أحد الحقول ) (6) . ها نحن أولاء أما دائرة أخرى تبتدئ بذهب من نفس نوعية الذهب الذي تختتم به ، الذهب الذي صاغ " سانتياجو " راعيا ، هو ذاته الذي توج نجاحاته طوافا في الآفاق و مطمئنا بالمعرفة ، و هو ذاته المعدن الذي ينتظم جهود السيميائيين في سعيهم لإتقان حرفة [ التحولات ] . ثم تأتي هذه الإحالة العرضية إلى مصدر الذهب في كل من عطية الأب و لقية الكنز ، فكلاهما يحيل إلى حضارات أمريكا الوسطى التي ألهبت خيال الفاتح الأسباني " كورتيز " لغزو " مونتيزوما " في عقر ما تبقى من مجد مهيض لنهب ذهب حضارات السحر و الأسطورة ، حضارات الضحايا البشرية و الثعبان الريشي ، حضارات " إنكا " ، " أزتك " و " مايا " .
هذا الوعي الحدسي الذي يدغدغ رغبة الرحلة في نفس " سانتياجو " كان من الطبيعي أن ينتهي إلى محض خاطر من الخواطر التي تجوس بخيالات الشباب المبكر ما لم يعمل " كويللو " على تطويره إلى حيز الاستشراف :
2- و ذلك بدفعه إلى سياق القصة بشخصية ذات صلة بعين الوجود الغيبي ممثلة في عجوز غجرية قارئة للكف ، تكفل هي الأخرى استمرار النسق الدائري للأفعال ، فهي تظهر في بداية القصة بوصفها مفسرة للحلم و محرضة على الإخلاص للرؤيا ، و تظل كامنة في الوعي حتى تطل برأسها مرة أخرى في مختتم الدائرة مطالبة بحصتها الضمنية في كنز " سانتياجو " . إن هويتها السحرية تطفر عبر المونولوج الذي يسوقه " سانتياجو " في جلسته قبالتها ليحكي حلمه : ( و كانت الشائعة الرائجة أن الغجري شخص يقضي حياته في خداع البشر ، و قيل أيضا أن بينهم و بين الشيطان عهدا ) (7) .
إن العجوز في ظلال هذا المفهوم تعمل في اتجاهين متعاكسين : فهي من جهة عامل مثير للفضول بوكزه للوعي في اتجاه الحلم ، و من جهة أخرى هي عامل مثبط نظرا لسوء السمعة اللصيقة بها . هذا التعارض يلقي بالتبعة كاملة على الاختيار الحر للشخصية المنوطة بالصراع – " سانتياجو " – و في ذات الوقت يدفع بالبطل إلى معاناة إدراكه لإمكانية تطوير الذات بخوض رحلة مجهولة المعالم .
3- ثم يعمق " كويللو " من الدلالة السحرية في اختياره لوجهة الرحلة – أهرام مصر – بكل ما تمثله مصر و أهرامها من تداعيات سحرية و غيبية في العقلية الأوربية ، ترتبط بسحرة مصر القديمة و التراث الغيبي الذي يحوم حول علم الهرميات Pyramidology . و لكي يحافظ " كويللو " على شحنة الغموض المفترضة في مثل هذه الإحالة فإنه لم يتطرق طوال تدفق السرد في الرحلة إلى استقصاء العنصر المكاني بتفصيلاته و إنما ظل المكان بمثابة حضور لفظي لا يتعدى ذكر الاسم – مصر ، الأهرام ، أهرام مصر – فالمراد هنا هو الإيعاز لا التقرير .
4- ثم ما يلبث عامل التحريض أن يتخذ تحققه الأقصى في الظهور المفاجئ للشيخ الغريب العربي ، و الذي يواصل طوال استمرار السرد اقتسام ملامحه و سماته مع شخصيات أخرى – بائع الحلوى و السيميائي – مواصلا دوره التحريضي و الإرشادي لضمان اكتمال الدائرة و من ثم اكتمال وعي الشخصية و اكتمال التفاعل من أجل الترقي . في البداية تعمل هذه الشخصية من خلال عامل تشكيك في المسلمات الاعتيادية التي اصطلح معظم البشر عليها في سياق علاقاتهم بمفاهيم كتبهم السماوية . فغالب الناس يمارسون كسلا فكريا بشكل لا يسمح حتى بالنظر من زوايا مغايرة ، مما انعكس بالسلب على الشروح الخاصة بالكتب المقدسة ، و التي تصر في غالبها على تقديم صور من الجبر و المصائر المقررة سلفا مقصية عامل الإرادة للأبد مما يكرس للقدرية و التواكل ، و هنا يظهر المفهوم المغاير للسحر في بعده الإجرائي ( السحر قائم على ثقة الإنسان بأنه يستطيع السيطرة على الطبيعة مباشرة ، إذا عرف فقط القوانين السحرية التي تحكمها ، هو في هذا قريب من العلم . الدين و الاعتراف بالعجز الإنساني في بعض الأمور ، يرفع الإنسان فوق المستوى السحري ، و فيما بعد يحتفظ باستقلاله جنبا إلى جنب مع العلم الذي انهزم أمامه السحر ) (8) . يجد هذا المفهوم تحققه فيما يلي : ( تفحص العجوز الكتاب من جميع جوانبه كما لو كان أعجوبة و هو يقول : هه هذا كتاب مهم و لكنه ممل للغاية ... واصل العجوز حديثه : هو كتاب يتكلم عن الأشياء نفسها التي تكاد تتكلم عنها كل الكتب الأخرى ، أي عن عجز البشر عن أن يختاروا مصائرهم بأنفسهم ، و في النهاية يحاول أن يقنعك بأكبر كذبة في العالم . سأله الشاب مدهوشا : و ما هي إذن أكبر كذبة في العالم ؟ - إليك هي : أننا في لحظة معينة من عمرنا نفقد السيطرة على حياتنا و من ثم يتحكم فيها القدر . تلك هي أكبر كذبة في العالم ) (9) . و كأن المفهوم الذي يقدمه " كويللو " هنا لفعل السحر لا يتجاوز مفهوم الدين و لكن في كيانه الخالص المتخلص من إسقاطات البشر لمفاهيمهم القاصرة عنه و التي يحاولون فرضها على غيرهم بدعوى الوصاية و الهيمنة . كما يأتي هنا مفهوم دقيق ملتبس للوهلة الأولى ، هو ذلك المتمثل في وجوب اعتماد المرء على إرادته الخاصة لتحقيق " أسطورته الذاتية " من جهة ، و من جهة أخرى في وجوب اتباع المرء للعلامات و إخلاصه لحدسه دون تردد لنيل خلاصة ما خطته المقادير . إلا أن هذا الالتباس لا يلبث أن ينفك بالرجوع إلى التعريف السابق للسحر ، فالمرء بإدراكه لقوانين الكون الباطنية يلقي بنفسه في خضمها غير هياب من النزال و يخوض لجتها بكل تقلباتها واثقا من النتائج المقدرة سلفا و لكنه في ذات الوقت يكون مزاولا لفعل إرادي دفع به لاتخاذ القرار الذي أحجم عنه الكثيرون الذين فقدوا من ثم ما كان من الممكن أن ينالوه من خارطة القدر – بائع الفشار كمثال – و بذلك ندرك الالتباس في لفظة " مكتوب " التي يجب أن تكون قد ولدت عربيا لكي تدرك مغزاها . هذا التشابك يتعمق من خلال وصف شخصية الشيخ نفسها ، و التي تحمل في طياتها ذات التناقض و التنوع و الالتباس . فهو رث الهيئة الخارجية إلا أنه يرتدي درعا من الذهب السميك أسفل ملابسه الرثة ، و هو عربي الهيئة إلا أنه يصف نفسه بأنه " ملك سالم " في إحالة صريحة لمدينة " سالم " Salem الإنجليزية التي تعج بالساحرات و قرناء الشيطان في التراث الشعبي الإنجليزي الذي انتقل إلى صياغات السينما العالمية . و هو يعلم عن الشاب ما جعله يتخذ قراره النهائي باعتزال رعي الغنم استعدادا لخوض الرحلة ، و في ذات الوقت لا تمنعه حيازته للعلم و المال – الدرع الذهبي و المعرفة / حجر الفلاسفة و شجرة المعرفة – من طلب نسبة العشر في خراف الراعي كأجر للمساعدة .
5- و لكي يسوق " كويللو " مزاوجته ما بين الدين و السحر إلى تحققها الأقصى ، يورد رمزا تتحقق فيه المعضلة التي تبدو استحالتها للوهلة الأولى ألا و هو الدرع الذهبي الذي يرتديه الشيخ ( كان العجوز يلبس درعا من الذهب السميك المرصع كله بالأحجار الكريمة ... انتزع الشيخ من درعه حجرا أبيض و آخر أسود كانا في وسط الدرع و قدمهما للشاب قائلا : - خذ ، هذان الحجران يسميان " أوريم " و " توميم " ، الأسود يعني " نعم " و الأبيض يعني " لا " . عندما لا تصل أنت إلى الاستلال بالعلامات فسوف يفيدان ، و لكن اطرح عليهما دائما أسئلة محددة و اسع بوجه عام لأن تتخذ قراراتك بنفسك ) (10) . هنا مرة أخرى مزيج من اتباع العلامات و اتخاذ القرارات ، مزيج من السحر و الدين ، يحيلنا مباشرة إلى نظام العرافة الديني المزاول بواسطة كهنة اليهود عن طريق " درع هارون " ، ففي سفر الخروج نقرأ : ( و تصنع صدرة قضاء . صنعة حائك حاذق كصنعة الرداء تصنعها . من ذهب و أسمانجوني و أرجوان و قرمز و بوص مبروم تصنعها . تكون مربعة مثنية طولها شبر و عرضها شبر . و ترصع فيها ترصيع أحجار أربعة صفوف حجارة ز صف عقيق أحمر و ياقوت أصفر و زمرد الصف الأول . و الصف الثاني بهرمان و ياقوت أزرق و عقيق أبيض . و الصف الثالث عين الهر و يشم و جمشت . و الصف الرابع زبرجد و جزع و يشب . تكون مطوقة بذهب في ترصيعها . و تكون الحجارة على أسماء بني إسرائيل اثني عشر على أسمائهم . كنقش الخاتم على كل واحد على اسمه تكون للإثنى عشر سبطا . و تصنع على الصدرة سلاسل مجدولة صنعة الضفر من ذهب نقي . و تصنع على الصدرة حلقتين من ذهب . و تجعل الحلقتين على طرفي الصدرة . و تجعل ضفيرتي الذهب في الحلقتين على طرفي الصدرة . و تجعل طرفي الضفيرتين الآخرين في الطوقين . و تجعلهما على كتفي الرداء إلى قدامه . و تصنع حلقتين من ذهب و تضعهما على طرفي الصدرة على حاشيتها التي إلى جهة الرداء من داخل . و تصنع حلقتين من ذهب . و تجعلهما على كتفي الرداء من أسفل قدامه عند وصله من فوق زنار الرداء . و يربطون الصدرة بحلقتين إلى حلقتي الرداء بخيط من أسمانجوني لتكون على زنار الرداء . و لا تنزع الصدرة عن الرداء . فيحمل هرون أسماء بني إسرائيل في صدرة القضاء على قلبه عند دخوله إلى القدس للتذكار أمام الرب دائما ز و تجعل في صدرة القضاء الأوريم و التميم لتكون على قلب هرون عند دخوله أمام الرب . فيحمل هرون قضاء بني إسرائيل على قلبه أمام الرب دائما ) (11) . نحن هنا أما نفس " درع هارون " الذهبي بنفس ما يحتويه من حجري " أوريم " و " توميم " . ( و تعني كلمتي الأوريم و التميم ، الأنوار و الكمال ، إشارة إلى نور الله سبحانه و تعالى و كماله اللذين يتجليان في الإرشاد الإلهي حين القرعة ) (12) . و تجدر الإشارة إلى أن الربط الأدبي بين التحولات السيميائية و " درع هارون " في رائعة " ميلتون " [ الفردوس المفقود ] حين ينشد : ( فأما المعدن فيبدو بعضه من النضار و بعضه من اللجين الصافي / و أما الحجر فمعظمه من الزمرد أو الزبرجد / أو الياقوت أو الياقوت الأصفر و سائر الأحجار الإثنى عشر / التي سطعت / على درع ( هارون ) . و كان ثم حجر آخر / تخيله الناس كثيرا دون أن يروه في غير هذا المكان / إنه الحجر أو قل إنه يشبه الحجر الذي عبثا ما طلبه / الفلاسفة و طويلا ما بحثوا عنه على الأرض هنا / دون طائل رغم علومهم و قدرتهم على تقييد / الطيار ( هيرميس ) و فك قيود ( بروتيوس ) القديم و استحضاره / من السحر في شتى أشكاله / و تقطيره في الإمبيق حتى يعود صورته الأولى / و هل نعجب إذن إذا كانت الحقول و البقاع هنا / تخرج زفراتها إكسيرا صافيا و تجري الأنهار / بالذهب السائل إذا كانت لمسة مؤثرة واحدة / من الشمس رأس الكيمياء رغم بعدها الشاسع عنا / تختلط بمياه الأرض فتبدع / هنا في الظلمة كثيرا من الأشياء الثمينة ) (13) . و يبسط العلامة الدكتور " محمد عناني " القول فيما يخص " درع هارون " و علاقته بعلم المعادن القديمة بقوله : ( .. و قد وردت في الكتاب المقدس ترجمة درع هارون " صدرة القضاء " ( النص العربي ) و وردت في النصوص الإنجليزية بصور مختلفة منها " درع للفصل في الأمور " ، و " درع للحكم " و " درع لتحديد إرادة الله " ... أما الأحجار الكريمة المذكورة فهي جميعا ترتبط بالشمس في إطار النظرية السائدة آنذاك عن درجات المعادن و طبقاتها . و قد كانت لها دلالات صوفية نابعة من وجود الأحجار نفسها في بوابة أورشليم الجديدة ...... حجر الأوريم المذكور في سفر الخروج 28/30 و قد تخيله الناس كثيرا في غير هذا المكان لأنهم كانوا يقولون إنه هو نفسه حجر الفلاسفة . أما حجر التميم المذكور في نفس الآية فيقال إنه من الأحجار القمرية التي يمكن أن تحول المعادن إلى فضة ، بينما يستطيع حجر الأوريم في ظنهم تحويلها إلى ذهب لأنه شمسي ) (14) . هذان الحجران لعبا دورا هاما في تحولات الرحلة ذاتها حين سرقت أموال " سانتياجو " و كاد يعود أدراجه فمنعاه حين استشارهما ، كما كانا سبب توثيق علاقته بشاب إنجليزي مشتغل بالسيمياء حين شاهدهما معه و من ثم صار رفيقه إلى مصر موسعا من مدى رؤيته لحقائق العالم و تعدد مستويات الرؤية الخاصة بها .
6- هذا الإنجليزي يعكس ما سبق و أسلفته عن الخلفية الخاصة بممارسة السحر في تاريخ " كويللو " الشخصي عن طريق علاقته بجماعة إنجليزية ، كما يحيل إلى تاريخ طويل اشتهرت به إنجلترا في علاقتها بعوالم السحر بداية من سحرة " السلت " وصولا إلى مجتمعات السحر الحديثة في المدن الإنجليزية . هذا فضلا عن هذا الشاب في سياق وصف " كويللو " له يرسم بجلاء ملامح عامة من شخصية الكاتب نفسه ، خاصة في شغفه الجامح بعوالم الغيب و سعيه الملحاح للفهم : ( تركزت كل حياته و كل دراساته على البحث عن لغة واحدة يتكلمها العالم ، و في البدء انصب اهتمامه على لغة الاسبرانتو ثم على الأديان ، و انتهى به المطاف إلى السيمياء ... غير أن السيميائيين لا يفكرون إلا في أنفسهم و دائما ما يحجبون مساعدتهم . و من يدري – لعلهم قد فشلوا في اكتشاف سر " العمل الكبير " – أي حجر الفلاسفة ، و ربما يكون هذا هو سبب اعتزالهم ملتزمين الصمت ... اشترى أهم الأعمال عن السيمياء و أندرها ، و اكتشف في واحد منها أن سيميائيا عربيا شهيرا زار أوربا قبل عدة سنوات ، قيل إن عمره نيف على مائتي عام و إنه قد اكتشف حجر الفلاسفة و إكسير الحياة ) (15) . هذه الروح الحائرة الباحثة جاءت كخير ما تكون مراعاة لمقتضى الحال في تلك المرحلة من الرحلة التي تتعاور النفس خلالها شتى صنوف الوساوس و دعاوى النفس بالنكوص و التراجع .
7- يأتي ذلك في نفس الوقت مقترنا بتفعيل مفهومي " إكسير الحياة " و " حجر الفلاسفة " المذكورين آنفا في توقيت دقيق يطابق ذروة الفعل الإكتشافي و المعيد لترتيب ذرات الشخصية في آن ، مما يستلزم [ عملا كبيرا ] من شأنه توفير مناخ [ السر الأعظم ] الذي لا غنى عنه لنجاح عمل السيميائي . ( الإكسير هو أي عنصر وسيط كيميائي أو طبيعي يستطيع تحويل المعادن الدنيا إلى ذهب . و هذا ينطبق على حجر الفلاسفة ، و كان الكيميائيون يحاولون جادين التوصل إلى إكسير طول العمر أو ما أسموه بالذهب السائل ) (16) . ( و من البدهي أن العملية الكيميائية لتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب لا يمكن أن تتم إلا بوسيط . و من هنا نشأ الاعتقاد في وجود حجر أطلق عليه حجر الفلاسفة يمكن بواسطة سحق جزء منه و إضافته إلى المعادن الرخيصة إجراء عملية التحويل ، هذا طبعا مع تلاوة بعض التعاويذ السحرية . و ربما ساعد على الاعتقاد بأن المصريين كانوا فعلا يقومون بعملية التحويل عن طريق حجر معين وجود الأحجار التي كان المصريون يقدسونها و هي ما كانوا يطلقون عليه اسم " كيفي " . و يقول " بلوتارك " أن الأحجار المقدسة كانت تتكون من عدة معادن : ذهب و فضة و شست و مافك [ حجران ، الأول أزرق و الثاني أخضر ] ) (17) .
و بعد ، لعل هذا العرض يكون قد أوفى بالغرض الذي هدفت إلى إثباته في مفتتح القول و الرامي إلى إثبات دور العناصر الطقسية السحرية في دفع عملية التطور في بناء الشخصيات و تدفق السرد في رواية " السيميائي " و في بيان مدى استفادة " باولو كويللو " من التراث الغيبي في سياقات شديدة التعقد و التراكب من أجل تحقيق صياغة لها فرادتها و جاذبيتها .
و للحديث بقية .

هذه الدراسة و غيرها متوفرة على http://altculture.blogspot.com

د . ياسر منجي
lucifer_yass@yahoo.com
القاهرة في 29/1/2005

الهوامش
1- باولو كويللو ، فيرونيكا تقرر أن تموت ، ترجمة ظبية خميس، روايات الهلال ، العدد 627 ، مصر ، 2001 ، ص 20 .
2- إبراهيم أسعد محمد ، نظرات في تاريخ السحر ، مطبعة الأمانة ، مصر ، 1976 ، ص 473 .
3- المرجع السابق ، ص 475 .
4- باولو كويللو ، ساحر الصحراء ، ترجمة بهاء طاهر ، روايات الهلال ، العدد 571 ، مصر ، 1996 ، ص 14 .
5- المرجع السابق ، ص 17 .
6- المرجع السابق ، ص 19 .
7- المرجع السابق ، ص 21 .
8- برنسلاو مالينوفسكي ، السحر و العلم و الدين عند الشعوب البدائية ، ترجمة فيليب عطية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، مصر ، 1995 ، ص 17 .
9- باولو كويللو ، ساحر الصحراء ، مرجع سابق ، ص 26 .
10- المرجع السابق ، ص 37 .
11- خروج 28/ 15-30 .
12- إبراهيم أسعد ، نظرات في تاريخ السحر ، مرجع سابق ، ص 344 .
13- جون ميلتون ، الفردوس المفقود ، ترجمه و قدم له و كتب حواشيه د.محمد عناني ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، مصر ، 2002 ، ص 215 ، 216 .
14- المرجع السابق ، ص 723 .
15- باولو كويللو ، ساحر الصحراء ، مرجع سابق ، ص 64 .
16- جون ميلتون ، الفردوس المفقود ، مرجع سابق ، ص 723 .
17- إبراهيم أسعد ، نظرات في تاريخ السحر ، مرجع سابق ، ص 476 ، 477 .