شكرا قطر..." الغالب لبنان والمغلوب الفتنة"

إن قراءة متأنية لمسار الأزمات اللبنانية منذ تركيبة هذا البلد، ومنذ صيغته التجمعية الديمغرافية والطائفية في العام 1943 ، تؤكد على أن قواه السياسية لم تستفد يوميا من تنوع شرائح شعبه، ولم تسعَ في وقت أن تثمّر تعددية الأديان والمذاهب والمشارب والمعتقدات لتخلق نسيجا مجتمعيا مدنيا وحضاريا يقدر على أن يقدم نموذجا متكاملا في الوفاق والتوافق على وطن... كما وأن تلك القوى المتعاقبة سياسيا لم تولي يوما أهمية لتنشئة وطنية حاضنة لأجيال لبنان التي بالكاد مر جيل أو جيلين في معيار علم النفس الإجتماعي إلا وشهد أزمة سياسية عاصفة تنتهي إلى حرب أهلية موغلة في الطائفية أوالمذهبية، وإن لاحت في الأفق تباشير ثورة إصلاحية أو ثورة تغييرية ديمقراطية - على قلة مثل هذه الثورات في التاريخ اللبناني المعاصر- فإنها سرعان ما تتحول وتنحرف بقدرة قادر وبسحر ساحر سياسي كان أو من مواقف متشددة لرجل دين متشد، أو داعية مبشر أو حتى ممن يدعي بأنه مثقف ومعلم – للأسف- لترتد إلى جوهرها الطائفي والمذهبي.
إن شهده لبنان من فترات رخاء واستراحة، فإنما مردّها ليس لتوافق على إصلاح سياسي أو تعايش وطني أو لتخاطر فكري حضاري على بناء دولة المؤسسات وإنما كان سببه توافق المعنيون في السياسة اللبنانية على مصالحهم الخاصة والخاصة جدا، وليس إجماعا فعليا على حقيقة لبنان الوطن، ولا على مصلحة المواطنية اللبنانية المتأرجحة بين عدّة ولاءات هي بدورها تغرق في ضبابية قاتمة، وتعيش حالات من الإنهيار والتداعيات والإنفصامات الشخصية والنفسية التي لا تخلو من عقد كداء باتت مستعصية بمرور الزمن وتكرار التجارب المأساوية على مواطني هذا البلد...
كانت الأزمات وجولات الحروب الدامية والمدمرة في لبنان تنتهي تحت عنوان بدعة اخترعها السياسيون وأبطال الحروب أنفسهم لتغطية ما تم انتهاكه في حق البلد وساكنيه، وتسترا على ما فعلوه من آثام بحق أنصارهم ومحازبيهم وبحق الشعب : أن الجولة انتهت بلا غالب ولا مغلوب... حتى وكأن الحرب منذ شرارتها الأولى باتت محكومة بمحصلتها النهائية بهذا الشعار البدعة الذي يروق للسياسيين اللبنانيين في تغطية ملهاتهم وألعابهم الدموية الفئوية غير آبهين لما تتركه كل جولة من حروبهم وأزماتهم من جراح ثاخنة وعميقة تبقى في نفوس المواطنين، وإن سكتت المدافع والبنادق، وإن رفعت المتاريس عن الساحات والشوارع، وإن أزيلت مع كل هدنة خطوط التماس وحدود المربعات الأمنية...إن النتائج النفسية المتراكمة باتت خطرة في نفوس اللبنانيين المدنيين نتيجة غياب الوعي الوطني، فالهوة تتسع بين فئاتهم، والفرقة والشرذمة والتعنت والتعصب تزداد حدّتها على حساب العيش الوطني المشترك، ولعل المراقب للخطاب السياسي القائم اليوم يدرك مكنونات المخاطر الناجمة عن توصيف حالة العيش الوطني بمفردات مثل التعايش الوطني أي أن يتعود المواطن على الحالة المعاشة ليس أكثر، وأن يسلم بحقيقة هذا الواقع في تنامي عيشه في وطنه كحالة توافقية بالتراضي أكثر من كونه مواطنا فعليا كما حال الآخرين الذين يعيشون معه كمواطنين أيضا، ولعل أخطر ما تتداعى إليه مثل هذه الحالات من العيش مع عدم الإستقرار وفي ظل الإحتقان والتأجيج العواطفي الغرائزي: من طائفية ومذهبية وفئوية وعرقية: حالة القلق المزمنة التي تجعله في حالة توتر دائمة قابلة للهيجان، وقبول التحريض الجمعي والدفاع عن وجوده في أرضه وممتلكاته وغريزة بقائه أكثر مما يعني أنه يدافع عن وطنه ... ولعل هذا عاملا أساسيا في ايجاد السياسيين دائما لمن يقاتلون بهم في جولاتهم وحروبهم: فالأنصار كثر ! ما دامت التنشئة الوطنية الحقيقية والفعلية مغلوبة على أمرها لصالح الولاءات الأخرى ...
لقد لامس سمو أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، راعي اتفاق الدوحة، جوهر المسألة اللبنانية ورمى عباراته في وجه الفرقاء اللبنانيين المتصارعين يكاشفهم ويصارحهم في حقيقة أنفسهم عندما أسقط بدعة معادلتهم المستورة والمعلبة الجاهزة لإخفاء ما هم عليه، منذ أكثر من نصف قرن، وليرفع الغطاء فعلا عن أبشع عبارات المواراة والتحايل في قاموس الهدنات السياسية المتعاقبة، والتي كانت تضمر في طياتها ومراميها ومعانيها دائما الغفران للسياسيين على كل ما فعلوه! بل وتبرير ما صنعوه، بل والتحضير مستقلا لما سيرتكبونه من نزعات وأهواء مدمرة، دون الإلتفات أو الوقوف أمام مآسي الشعب وقتلاه وضحاياه وتدمير ممتلكاته وإعاقة الكثيرين الكثيرين من أبنائه،

لقد تميز خطاب أمير قطر بعبارة كان من شأنها أن تحاكي الواقع اللبناني بما هو عليه ولتزيد من عمق وتفهم مؤتمر الدوحة ولتكون واحدة من أهم البنود، وإن لم تصنف على أنها بند بين فرقاء الصراع، ولكنها في حقيقتها كانت ملامسة فعلية تاريخية لتكرار مصائب لبنان وطنا وشعبا والتي اختصرتها عبارات سموّه بالقول إن هذا الاتفاق: "شكل خروجاً على قاعدة لا غالب ولا مغلوب" معتبراً "ان الغالب هو لبنان والمغلوب هو الفتنة".
كما وأن هناك حقيقة أخرى لا ينبغي أن أغفلها في مضمون مقالتي هذه حول إتفاق الدوحة أمانة للتاريخ والمسؤولية الأخلاقية في رؤية واقعنا اللبناني والعربي ومفادها: أن نجاح قطر فى التوصل لاتفاق لتسوية الأزمة فى لبنان، وتوقيع اتفاق مصالحة بين مختلف الفصائل اللبنانية، أكسب الجامعة العربية ثقلا وعمقا، خاصة أنها على مدار شهور عديدة لم تستطع التوصل لمثل هذا الاتفاق، ورغم ذلك فإن الدور القطري ليس منفصلا عن دور الجامعة العربية، وإنما كان امتداد داعما لها، هذا الدور وعلى حد تعبير صحيفة "واشنطن بوست الأمريكية" أكسب الجامعة العربية ثقلا وعمقا جديدين يجعلها أكثر تصميما على حل الصراعات العربية المشتعلة مستعينة في ذلك بالدعم القطري غير المحدود الذى يتبنى سياسة محددة لتسوية الأزمات العربية، ولمّ شمل العرب تلك السياسة التي أعادت الروح للجامعة التى كان يريد البعض قبل سنوات إعلان وفاتها بل وربما ستنعكس هذه الإيجابية التي تمخضت عنها اتفاقية الدوحة إلى إعادة الروح إلى الشارع العربي كله.

ولعل ما أكد عليه الدكتور عمار علي حسن مدير مركز الدراسات في وكالة انباء الشرق الأوسط: من أنه لا أحد يستطيع أن ينكر أن النخبة الحاكمة فى قطر طموحة، وتحاول أن تلعب دورا اقليميا فاعلا ومؤثرا فى المنطقة، وقد نجحت فى ذلك من خلال دور الوساطة الذى قامت به فى حل الازمة اللبنانية...
على كل الأسباب الثلاثة التي كانت وراء نجاح الدور القطري يمكن تلخيصها بالتالي: أولا : أن الظروف والأوضاع فى لبنان كانت قد نضجت بدرجة كافية بحيث اقتنع الفرقاء فى لبنان أن الاتفاق أمر ضروري ولا غنى عنه، والسبب الثانى: أن الأطراف الإقليمية باركت الدور القطري، وبالتالى لعبت قطر دور الجسر بين دولتين إقليميتين معنيتين في ما يدور على الساحة اللبنانية ولاسيما في أزمته الأخيرة وهما: سوريا والسعودية، أما السبب الثالث: فهو ظهور حالة من الأطراف الدولية، اقتنعت بضرورة أن تتخذ موقفا بشكل محايد، وغير متحيز لطرف على حساب الطرف الآخر...
وأخيرا لقد اثبت للمجتمع اللبناني أن التدخل الأجنبي هو تدخل هش، وغير حقيقي، وأضحى سياسيوه من مختلف فرقاء الصراع أكثر تيقنا: أن الحل هو الحوار وأن الاتفاق هو الأجدى، وأن لبنان هو الوطن فوق كل أشكال ما يتمترسون فيه من أوطان :المصالح الطائفية والمذهبية والتحالفات الإقليمية والدولية ...