اشارة الى ما كنت قد بدأتُ به من مناقشة مستفيضة لمفهوم الأمانة وشبهة الخيانة التي طالما يُنبز بها المُترجِمون.. استكمل هذا النقاش..
بداية.. وقبل الخوض في تفاصيل حوار اليوم... لا بد من لنا من التسليم بحقيقة أحسبها معروفة لدى كافة المشتغلين في ميدان الترجمة، لكنها قد لاتكون كذلك بالنسبة لغيرهم.هذه الحقيقة هي أن لا وجود لترجمة تتطابق تطابقا كاملا مع النص الأصلي( Source Text )المراد نقله للغة الهدف ( Target Language ) ، واعني بهذا التطابق هو أن المترجم بوسعه أن ينجز ترجمة لذلك النص تتطابق مئة بالمئة من شكله ومضمونه الأصلي كما وُجدَ في لغة الأصل.. أو كصورة منعكسة بالمرآة. وهذه هي ذات الحقيقة الذي اعتمدها كثيرٌ من المُنظـّرين في ميدان الترجمة كقانون ٍ فاعل ٍ من قوانين صنعة الترجمة سموه بفرضية الترجمة المطابقة( Exact Translation Hypothesis ) حيث اعتبرها Quine(1978) بمثابة الفرضية الصفرية الغير قابلة للتحقق. وكان حكمه على عدم صحة هذه الفرضية مستندا إلى أساس منطقي هو أن " النص( Text) هو فِعلًٌ(Event) في الواقع لا يمكن ان يُكرر نفسه على الإطلاق، لا سيما في ذات المكان وذات الزمان. فهو.. أي النص.. فعل قد سجل وجودا في العالم المادي والزماني لحظة الفراغ من انتاجه أو صياغته .ومن غير المقبول منطقيا أن يعيد الزمن نفسه والمكان نفسه ليولد نفس النص في ذات المكان والزمان حتى في ذات اللغة التي وُلد فيها".اذا فكيف الحال بترجمة ذلك النص ونقله الى لغة جديدة؟؟!!
ومن هنا تتضح لنا استحالة وجود نص ٍ آخر يتطابق مع النص الأول مطابقة كاملة وكلية في أي لغة ٍ من لغات البشر.
فأنت – أخي القاري – لو نطقت بجملة ما الآن وبلغة ما .. ولتكن العربية مثلا، ليس بوسعك قطعاً أن تعيد عجلة الزمن الى الوراء أو أن تعيد خلق موقف جديد مطابقٌ تماماً للموقف الذي قِيلت فيه تلك الجملة لكي تعيد قولها من جديد... بل يكفي أننا بتنا نتحدث عن قديمٍ وجديد ، أو عن أولٍ وثان ٍ. نعم بوسعك أن تتفوه بنفس تلك الجملة . ولكن متى؟ بعد أن تكون قد دخلت في زمن جديد، حتى ولو بعد طرفة عين، ناهيك عن احتمالات تغير المكان الذي كنت فيه، وطريقة القائك لتلك الجملة، والكثير الكثير من المتغيرات التي يمكن أن نتصورها والتي تصاحب ذلك الموقف الجديد.. ولعل من الحكمة أن نتحدث عن نسبية هذا المكافيء الترجمي ) Relative Translation Equivalence ) بدلا من المكافيء التام أو الكلي ( Exact Equivalence )
أردت من هذه المقدمة أن أخلـُص لنتيجة واحدة هي أن عنصر القصور الذي سيلمسه قاريء النص المُترجَم لا محال... هو أمر حتمي لا نقاش في فيه ولا حُجة لنا نحن المترجمين لرده .. اللهم الا اذا كان هذا القصور ناجما عن قصور قصدي أو ناجم عن قصور في قدرة المترجم نفسه.. وهذا ما لست معنيا فيه هنا على الإطلاق مادمتُ أضع في مخيلتي ذلك المترجم الكفوء ذو القدرة على النهوض بواجبه وحمل الأمانه بمها هو معهود به من شعور بالمسؤولية... وما دمت أهدف من مناقشتي هذه لأن أبرّءَ ساحة المترجم من شبهة الخيانة

أجد الفرصة سانحة الآن لأن أفصِّل في العامل الأول الذي يؤثرعلى اداء المترجم ويضعه عرضة لشبهة الخيانة أو عدم الأمانة - بأقل تقدير- دون حَول ٍ له ولا قوة. وأعني بهذا سُلطة النص ) Text Authority) .
إن للنص ِ – ومهما صغر أو كبُر حجما أو منزلة ً – سلطة ً وهالةً لا يكاد يدركها إلاّ من يتعامل مع هذا النص عن مقربة أو كثب. ولعل المترجم هوأحد أقرب المقربين ما دام معنيا بهذا النص بكافة أبعاده وتفاصيله. فهو معنيُ به من حيث الشكل( Form) والمضمون(Content) ، إما بكليهما على قدم المساواة أو بأحدهما على حساب الآخر، تبعا لإعتبارات تختص بنوع النص نفسه ( ( Text Type أو بهدف الفعل الترجمي ( Purpose of Translation) أوبالطريقة أو النظرية((Approach or Theory of Translation التي يتبانها هذا المترجم في للتعامل مع ذلك النص.
وبالعودة الى بُعدي الشكل والمضمون (Form and Content) تتشكل سُلطة النص التي لا حِراك للمترجم خارجهما معاً أو كلٌ منهما على إنفراد، إذ يجد قاريء النص الجديد في لغة الهدف(Target Reader) أن المترجم قد كان حبيسا بينهما وتحت رحمتهما معا أو أحدهما مهما علا شأن النص أو تدنى ومهما إتسعت مقدرة ذلك المترجِم أو تضاءلت.
وهنا لابد لي من ألفتَ انتباه القاريء الكريم إلى علاقة هذين البعدين وتلازمهما مع بُعدٍ ثالث يؤثر فيهما سلبا وإيجابا من حيث تحديد ولاء المترجم وميله لأي من البُعدين الأولين... وأعني بهذا البٌعد نوع النص أو جنسه اللغوي (Text Type). وبعبارة أخرى، إن هذا البعد الجديد هو الذي يرسم معالم أداء المترجم ويؤثر تأثيرا حاسما على قراره بالتضحية بواحد من الُبعدين الأولين على حِساب البُعد الآخر... فنراه يميل تارة نحو بُعد الشكل (Form of the Text) وتارة نحو بٌعد المضمون(Content of the Text) وكأني به كالرجل المتزج بإمرأتين " فلن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم" . ومن غير الوارد في الحسبان مطلقاً أن يوفق المترجم الى أن يشطر ولاءه لهذين البُعدين بدرجة متكافئة بالكمِّ والمقدار. ولو قُدَّر لنا أن نعبِّر عن هذا القول بصيغة رياضية فليس بوسعناأن نطل من المُترجِم أن يشطر ولاءه للنص الأصلي كما يشطر العدد (100 ) إلى نصفين متساويين:(50) لبُعد الشكل و (50 ) لبُعد المضمون. وهذا ما كنت أعنيه بقولي بإستحالة تحقق فرضية الترجمة المتطابقة تماما ( Exact Translation Hypothesis ).
أقول : ان المترجم ليس له من محيص أن يميل ولو بمقدار درجة واحدة نحو أياً من هذين البعدين ، وسيكون قراره هذا مستندا الى الجنس اللغوي أو الأدبي للنص(Text Type) الذي يشتغل عليه سواء كان ذلك النص قصيدة شعر(Poem) ، أو تعبيرا إصطلاحيا(Idiom) أو نصا دينيا(Religious Text) أو قانونيا(Legal) أو نصا علميا(Scientific) من علوم الفيزياء أو غيرها من باقي العلوم الصرفة أو أغنية(Song) أو نصا تاريخيا(Historical) أو تقريرا صحفيا(News Report)الخ، والقائمة تطول مع ما لا أحصيه عددا من الضروب اللغوية المتعددة والأجناس الأدبية المختلفة. وكلما إرتبط النص الأصلي بثقافة وحضارة وعادات وتقاليد مستخدمي لغة الأصل، كلما تصاعدت وتيرة الخسارة التي لا حول ولا قوة للمترجم في تفاديها وكلما كان أقرب لشبهة الخيانة التي تلصق به دونما عدل أو انصاف...
وستكون لي وقفة أخرى قادمة للتفصيل بهذا الموضوع لكي ندفع عن المترجم هذه الشبهة التي لا يد لهُ فيها على الإطلاق.. بل إنها الأمانة بعينها أن يميلَ المترجم الى جهة بعينها .. ولولا هذا المَيل لما تسنى لفعل الترجمة أن يكون!!