من بدائع العروض

منذ القدم ، وربما من قبل أن يجف الحبر الذي كتب به الخليل كتاب العروض، والشعراء العروضيون يواصلون تذمرهم مللا من الأوزان التي كتب عليها العرب أشعارهم في الجاهلية، فتراهم بين الحين والحين ينتفضون لقتل هذا الملل بقصائد على أوزان يريدون لها أن تكون غريبة عن عروض الخليل. وأول هؤلاء عرفناه من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، قال: "وهو عبدالله بن هارون بن السميدع، مولى قريش، من أهل البصرة. وأخذ العروض من الخليل ابن أحمد، فكان مقدماً فيه. وانقطع إلى آل سليمان بن علي وأدب أولادهم، وكان يمدحهم كثيراً، فأكثر شعره فيهم. وهو مقل جداً. وكان يقول أوزاناً من العروض غريبة في شعره، ثم أخذ ذلك عنه ونحا نحوه فيه رزين العروضي فأتى فيه ببدائع جمة، وجعل أكثر شعره من هذا الجنس. فأما عبدالله بن هارون فما عرفت له خبراً ولا وقع إلي من أمره شيء غير ما ذكرته".
ولم نعرف من بدائع رزين الجمة إلا قصيدة يتيمة قيل إنها بلغت ستين بيتا مدح بها الأمير الحسن بن سهل ومات قبل أن ينشده إياها، وأولها :
قربــوا جمالـــــهمُ للرحيلِ** غدوةً أحبّتكَ الأقربوكْ
خلَّفوكَ ثم مضوا مُدلجينَ**مُفرَداً بهمّكَ ما ودعوكْ
وفيها حسب ما نقلته من معجم الأدباء لياقوت قوله:

من مبلغ الأمير أخي المكرمـات ** مدحة محـبـرة فـي ألـوك؟
تزدهي كواسطة في الـنـظـام ** فوق نحر جارية تـسـتـبـيك
يابن سادة زهـر كـالـنـجـوم ** محـيياً سـيادة مـا أولــوك
ذو الرياستين أخوك الـنـجـيب ** فيه كـل مـكـرمة وفــيك
ذو الرياسـتـين وانـت اللـذان ** يحييان سُـنّة غـازي تـبـوك
لم تـزالا حـياً لـلــبـــلاد ** والعباد ما لكمـا مـن شـريك
أنتما إن أقحـط الـعـالـمـون ** منتهى الغياث ومأوى الضـريك
يابن سهلٍ الحسنَ المسـتـغـاث ** وفي الوغى إذا اضطرب الفكيك
يا لمن ألـح عـلـيه الـزمـان ** مفزع لغيرك يا بن الـمـلـوك
لا ولا وراءك لـلـراغـبــين ** مطلب سـواك حـاشـا أخـيك
ووزنها على النحو التالي :
فاعلن مفاعَلَتن فاعلاتُ ** فاعلن مفاعلتن فاعلاتْ
إلا في نحو خمسة أشطر يبدو أنه وقع في نسخها تحريف.
ولقد توارت هذه القصيدة (البديعة) في زوايا النسيان؛ ومع ذلك فلم نعدم وجود مثلها في كل عصر من عصور الشعر يخرج علينا فيها صاحبها متذمرا من طول استهلاك أوزان الخليل، لتحتل قصيدته مكانها في تلك الزوايا. وآخر تلك المحاولات ما تصدى له أخونا الأستاذ خشان خشان بالرد عليه وعلى غيره ممن يطلعون بين الفينة والفينة باكتشاف وزني جديد.
نصيحتي، إذن ، لكل سدنة هيكل الخليل أن افسحوا المجال لهؤلاء الشعراء العروضيين فلعلهم يتحفوننا، كما أتحفنا رزين، ببعض من بدائعهم الجمة!