الخطوط

يقولون أن اكتشاف المنظور كعلم هندسي ، ناتج عن محاولات " برونلسكي " في بواكير النهضة الإيطالية .. و أن " دافنشي " توسع بعدها في أبحاثه على أبعاد الجسد الآدمي في أطروحته التي تقدم فيها خطوات على محاولات " فيتروفيوس " ... أما " ألبرشت ديورر " فقد قام بأبحاث على جسد المرأة ، و التي قيل أنه قام فيها بتجميع مقاييس الجسد - المثالي من وجهة نظره – من عدد من عذارى مدينته ، و يتجلى ذلك بشكل أكثر فنية ( و أقل جمالا ) في لوحته " نيمسيس " .
كان المنظور غريبا في هذه الذكريات الضبابية التي كونتها رؤية مأخوذة من منظور عين الطائر من فوق كتف خالتي الأعجف و هي تحملني بدأب لا يعرف الكلل في غدوها و رواحها ، فأنا الوحيد الباقي من ثلاثة أخوة ، رحل اثنان منهم إلى عالم اللاعودة في آخر غيابات نقطة التلاشي المنظورية ، ليتخلف أفق غير متناه من الحزن المرعوب يكلل فضاء لوحة حياتنا المنزلية بهلع أنثوي يتوقى محاذير قدر صارم .
في المساء يهرع إلى الكتف الأعجف عدد من الأكتاف البضة ، يطالبن بحياكة ثياب شفيفة ، تضاجع تضاريس لينة لترسم " نيميسيس " أكثر طراوة و تجمع مقاييس الجسد المثالي من وجهة نظر الرجال .
محمولا على الأكتاف البضة ، تداعبني صدور مكتنزة تنث باندلاعات الحرير و حرافة العرق الغزير ... تلتقط عين الطائر من منظورها أودية مدفونة بين ربا الاكتناز ... واد بين ربوتين ... واد بين ربوتين ... الربوة اليسرى أكثر دفئا و أوفر طعاما ... تمور بطمأنينة حية لدفقات منتظمة ... دفقة ... دفقة ... و النعاس يجتاح .
تأتي الخادمة " حميدة " في مواعيد دورية منتظمة لتساعد في نظافة بيت العائلة و في طقس الخبيز الشهري . في أواخر الثلاثين كانت ، و أرملة يقولون . في المساء تنسلخ من سواد جلبابها لتفضح تضاريسا جائعة ، يزيدها جوعا فراق خاطف لحبيب لم يشبع بعد ظمأ الأرض العفية ، تلهبها عذابات الخدمة في البيوت فتكاد تستعير خشونة عضلية لا تمت لها بصلة .
تقف عارية في الطست النحاسي و تندلق أكواز الماء لتنجرح فوق النتوءات حاملة إلى أسفل إرهاقات النهار ...
- تعال لما احميك !!!
- ما هذا يا حميدة ؟!!!
- هذا .....
من مستوى النظر ، مثلث قرر أن يمارس اليوجا .. يرتكز على رأسه لأسفل متحديا قوانين الاتزان ، و تندلع رؤوس العشب الأسود في كل اتجاه .
تتزوجني لكي نلعب عريس و عروسة ... عريس صغير و عروسة كبيرة .. تعلمني الكلام العيب ..
- قل ... قل ... ، العريس بعمل في العروسة إيه ؟!! ... ها ها ها ...
ذات صباح و الأحلام ما زالت تكفن بغلالاتها السالومية السبع وضوح الرؤية في عيني . من منظور عين النملة أصعد السلم الكبير إلى حيث شقة " نجلاء " و أختها الكبيرة التي يشبه جسدها جسد النساء الكبيرات برغم أن وجهها ما زال يبدو أقرب إلى وجوهنا الصغيرة .
أدلف من باب الشقة الموارب ثم يمينا حيث غرفة " نجلاء " و أختها . تباغتني الرؤية لكي تفتض الغلالات السبع عن عيني المدهوشتين ... في الطست النحاسي تجلس أخت " نجلاء " ، تندلق أكواز الماء لتتهادى و تتأبى على السقوط ، شيء ما يجعل الماء يسلك سلوكا مختلفا عن ذلك الذي يسلكه فوق جسد " حميدة " ، يتهادى الما ء على جسد الفتاة الغضة و يتأبى على السقوط ، يتحدى قوانين التوازن و يتهادى على تضاريس متكورة تشرب الماء و تفجر الهواء ، و المثلث المندلع سوادا يكهرب نحاس الطست بألق سماوي مخضر مصفر محمر ... طيات البضاضة تجلس مطمئنة على كرسي الحمام الخشبي ، و المثلث الأسود يقبع في آخر نقطة التلاشي لمثلث آخر قدماه على الطست و ساقا مرمريته متوفزتان ، داعيتان لاختراق مجهول الحسابات ، و فخذا طراوته يدلفان للأسفل ، للأسفل ، للأسفل .. و الربوتان ذاتا الوادي ترتكزان على العديد من الربا .
تئز و تشق الهواء صرخة هلع مستغيثة ، تجلد معدنية الطست لتعاود أصداؤها الرجوع من نقطة التلاشي إلى صدر المشهد ...
- اقفلي الباب يا ماما !! الواد شافني و أنا باستحمى !!!
- تعال يا حبيبي .. تعال لغاية ما تخلص حماها .
تغيم الرؤية للأبد بينما ضلفتا الباب تكبران و تكبران حتى تبتلعا كل فضاء الؤية .
- ارسموا كل الأشكال التي على السبورة .. مربع .. دائرة .. مثلث .
كل الفتيات يرسمن مثلثات جميلة منتظمة .
- ما هذا ؟!! .. لماذا نرسم المثلث مقلوبا أسودا هكذا ؟!!
- لماذا لا أمتلك العشب الأسود؟!!
لماذا الفتيات يقتنين العشب الأسود مبكرا عن الأولاد ؟!!
- انظروا .. إنه يقول الأكاذيب !!
- لا و الله ، أنا شفته !!
- لا ، كذاب !!
لماذا لا يصدقني الأولاد عندما أخبرهم أن الفتيات يقتنين المثلثات و يكدسن الأعشاب السوداء ؟!! .. لماذا تنكسر في أيدينا مثلثات الهندسة البلاستيكية سريعا ؟!!
" نرمين " تحب " ايمن " لأنه ابن الأبلة المدرسة و لأنه شاطر .
" رشا " لا تحب أحدا .. تعلم أنها جميلة و نحن نعلم أنها جميلة ، و نعلم أنها تعلم أننا نعلم أنها جميلة .
- أنا ألعب مع " حميدة " عروسة و عريس .. تعالي يا " رشا " نلعب عريس و عروسة .. قولي ... قولي .. ماذا يفعل العريس مع العروسة ؟
في الصباح تهوي من نقطة التلاشي عشر خرزانات قاسيات .. تعلو .. تعلو ... ثم تقترب .ز تقترب ... تسطر في المنظور عشرة خطوط دموية تعلمني الأدب .
- يا قليل الأدب .. ماذا كنت تقول لزميلتك ؟!!
- إنه قليل الأدب .. يقول الكلام العيب ... لا تكلموه .
قالها ناظر المدرسة مدوية في مكبر الصوت أثناء طابور الصباح .
البنات تجلس في صف ، و الأولاد في صف . في الصف الأول تجلس " نرمين " بجانب " أيمن " لأنه ابن الأبلة ، و لأنه شاطر و لأنها شاطرة ، و لأنهما مؤدبان لا يعرفان الكلام العيب ... و " رشا " ما زالت لا تحب أحدا .. و أنا أجلس في الصف الأخير .
في الفسحة أظل في الفصل لا أخرج لأنني معاقب ، و " رشا " أيضا لا تخرج لأنها لا تحب أحدا و لأن أحدا لا يستحق اللعب معها لأنها اجمل البنات .. تقترب ..
- الناظر ضربك علشان أنا قلت للأبلة انك قلت لي كلام عيب .... انت زعلان ؟!!
- لأ !! .. قوليلي .. هل .. هل .. لأ بلاش سوف تخبرين الأبلة .
- لا لن أقول .. ماذا تريد ؟!!
- هل لديك عشب أسود ؟!!
- ماذا تقول ؟!! لا..لا !!
- لا ، كاذبة كل البنات لديهن عشب أسود غزير !!
- لأ .. مافيش .
- طيب لو مافيش بصحيح وريني !!
من منظور عين النسر أرى مثلثا أجرد ، لا يختلف بياضا عن كلاحة المثلثات الهندسية البلاستيكية التي تنكسر سريعا . هل لهذا السبب لا تحب أن تلعب مع أحد حتى لا تنكشف ؟!!
- ها .. صدقت ؟
- انت وحشة ، وحشة !! ... انت مش بنت !! .. انت مش جميلة !!
تلملم فضيحتها ، تعدو إلى خارج الفصل ، أحاول اللحاق بها لأصالحها .. احاول ... أحاول ... و لكنني لا أستطيع .