أشـعارك إلى الجـحـيم..!
صلاح انياكي أيوب
قيل لي يوما:" هذا زمن الرقص، و لتذهب أشعارك إلى الجحيم..!"
من هذه النافذة الضيقة يرى الغالبية العظمى من الناس الشعر... كل الناس الذين يهرولون خلف اللقمة المرة، و كؤوس الشاي الصيني... كل الناس الذين يقرأون جرائدهم الصباحية بالتقسيط المريح، ويصفقون ملء الكفين لأشقى الراقصات.
هل يتكون المجتمع من غير هؤلاء..؟ إن مجموع هذه النماذج هي صورتنا الثقافية التي تصرخ ضد أي إعلان عابر يروج "للقراءة للجميع". إنها النماذج نفسها التي تفضح زيف انتمائنا لزمن الشعر.. هذا الشعر الذي كان يوما عصب الرؤية، و الرؤيا... كان حلما و حكما... كان قيم الثورة المثلى و ضمير الغواية و التسكع. الآن، أصبحت القصائد هيكل إنشاء لا ظل له، و مجرد متاهة من الحروف تتوضأ بها شفاه الذين يخلطون ما بين الفاعل والمفعول به.
ففي ظل هذا الوضع المنكسر جملة و تفصيلا، لا أجد مانعا في التحدث عن نهاية مؤجلة لأزمنة الشعر، جميعها، مهما منحت الإصدارات الكثيرة اليقين لبعض المؤمنين بجدوى الكثرة، بأن الأجمل آت. لكني، و لوحدي، أستمد، و بغير يقين المؤمنين الأوائل بأن زمن الشعر بدأ يتحسس، في غفلة الجميع لحظات البوار الأخير.
إن كنت يا صاحبي، من المشككين في ملامح هذا البوار، فاسأل اليومي، و هو يكتب أدق تجليات هذه النهاية... للأسف... إن أغلبنا لا يستطيع النظر عميقا فيما حوله... و لو استطعنا عكس ذلك، لتوقعنا الأسوأ. لكننا تربينا على استبعاد كل خيارات التوقع السلبي. و بالتالي، بتـنا نرفل في ليالي "العسل" بعيدا عن مد الدمار الذي يعتري دواخلنا باسم المهانة المتكررة، و الحسرة، و العجز.
لم نؤمن يوما، أن للشعر خيارات التفوق و الثورة، و ما دون ذلك، فمجرد أقنعة تواري دمنا المهدور، و ما تبقى من كرامات. فمن يسائل يا صاحبي، هذه الصور لآلاف أطنان البارود و هي تدك جدارات البسطاء من الناس، و كأنها مجرد حدث عسكري عابر..؟!
إن زمن الشعر قد ولى!! و ما أصبحنا نعايشه الآن، و عن كثب، هو كلام يشبه الشعر... كلام يتغنى به الدجالون، و أشباه الراقصات... كلام يركن إلى ظلمات القهر، و البؤس بلا رغبة في تغيير فوضى العالم. فلا يكفي أن تكون أزمنة الشعر مجرد رماد للأحجيات المروية على الأسرة الحمراء.. !
لست أدري كيف مازلنا نؤمن بمثل هذا الزمن، و قد أصبحت الرداءة الزمن الحقيقي الذي دمر لون الأقواس، و المزهرية... و بات من يجهل عمق الإستعارة، ولون المجاز، و خيارات الفصل، و الوصل، و القلب، و... في الجملة العربية، من بيده مفتاح دعم الشعر، و الترويج له؟؟!
مَن يا صاحبي، مِن جموع هؤلاء الصامتين، المنبوذين، و المتمترسين خلف أبراجهم الوهمية، يستطيع أن يكتشف وهم الشعارات المروجة لبهاء الكون الشعري، و تجلياته الاستعارية؟؟ إنهم جميعا، يرددون ما قالته قصاصات الأنباء، أو ما أورده ركن قصي في صحيفة لا اسم لها و لا عنوان. هكذا يرددون، لأنهم لا يستطيعون الحديث عن أمر ما عاشوا أسوأ احتمالاته، و لا خبروا يقينا، أبسط لحظات المخاض فيه.
و لأجله سأصر على أن زمن الشعر إن لم يكن قد ولى، فالغد لن يتحدث حتما، باسمه. فالمثالية التي عظمت آلاف الأشخاص قبل أن تعظم الشعر نفسه، لم تعد إلا وهنا قابعا خلف القصائد الراحلة. ألا يرون يا صاحبي، كيف إذا دسم الوجبات السريعة، يعلو واجهات المتاجر و المجلات. و كيف أصبح هذا العراء، و شطحات المثليين أكثر حظا في أحاديث الناس من أخبار الأدب و الشعر. و الأكثر غرابة ألا نسمع لأكبر الشعراء صوتا، بعدما تعالت أصوات مغنيات المراقص و حمى التصفيقات.
أما الأخطر يا صاحبي، هو ألا نسمع لهم، و لو مجرد الهمس، بعد قليل من السنوات القادمة.