الرصيف الخائن

توارت الشمس وانتصب قوس الظلام يطعن بسهامه بقايا بياض على أرصفة مرهقة لم يعد يغريها صفاء البياض بقدر ما كان يغريها همس الدجى الجائع لوقع الخطى الهاربة من مُدية الأقدار وهي تستجدي بقايا وطن..!
وأي وطن على رصيف خائن يحترف تقبيل الأحذية صباحا كما يحترف تقبيل الوجوه السافرة آخر الليل..صمْت المكان كان يبيح لي التنصت على جراحات غيري.. التي قد ألبسها يوما ..والحذر الشديد كان يكتم أنفاسي في غمرة الخوف من الآتي ،ومواربة الطرقات التي قد تبتلعني عنوة..
أحاول أن ألبس البياض حذاءً عساه يحظى بقبلة مهربة من رصيف خائن ..لكن وشاية المكان بالمكان ألبستني التهمة علنا ،رغم كوني لم أقترف ذنبا سوى الحلم على ناصية شارع كنت أظن أنه لي..وها أنذا أجَـردُ من هويتي لا لشيء إلا لأنني لبست جلبابا أبيض اللون ، كحذائي المصادر مع بقية أشيائي ، وحملت معولا على كتفي ، لأن البياض صار جريمة يعاقب عليها قانون الغاب ، وحـمْل المعاول رجولة يجب اغتيالها علنا قبل أن تغتالني سرا ..يجب أن أمشي خلف ظلي دائما ..! وإن حدث وسبقت ظلي ستبتلعني هاوية الظلام ...تماما كما يبتلع مثلث الموت البواخر والسفن دون سابق إنذار..
فكم صار مُرّا مذاق هذه الحقيقة وهو يتوسط حلقي أفقيا بحيث لا أستطيع لفظهُ كما لا أستطيع ابتلاعه لأن الجرح واحد والألم واحد في كلتا الحالتين ...! ولا حيلة لي أمام تقلّص رقعة البياض رويدا..رويدا ..بعدما صارت قطرة في بحر..
فهل صار ثوبي الأبيض قضية غائرة يصعب خوض غمارها ...؟؟ أم أن نزيف معولي على كتفي هو الذي أظهر قدرة البياض على كشف ماهية الأشياء ...؟ لأبدو مجردة إلا من وضوح فضحني بقارعة الطريق ..!
فكم هي موجعة صفعة المباغتة، عندما تخونك حتى الشوارع والمدن ، وتجد نفسك تصارع الفراغ لينفرد بالغلبة في كل الحالات ، ويجعلك تنزوي مطأطأ الرأس تخاف أن تلبس البياض إلا بعد الموت...! عندما تفك الروح الأغلال وتترك الجسد كزهرة نرد تتقاذفها الأيدي العابثة..
فهل حينها سيكتم الترب سرّي ، ولا يشي بلون آخر متاع لي ..؟ أم أن أول من سينبش قبري هو كفي ومعولي..؟؟.

من مجموعة نوافذ موجعة