من حكايات عمتي

الديك باض جوهرة

حكاية للأطفال

نزار ب. الزين*


أم سعاد ، توفي زوجها مخلفا لها الفقر المدقع و خمس بنات جميلات .
كانت أم سعاد قد تعلمت خلال فترة صباها صنع السجاد ، فاشترت نولا من أحد أقاربها ، و وعدته بأن تسدد ثمنه من مبيعات إنتاجها ، و سرعانما جددت معلوماتها القديمة و بدأت ـ من ثم – تنتج سجادا يمتاز بالجودة و الجمال ؛ و هكذا تمكنت خلال سنتين من سداد كامل دينها و من وقاية بناتها من غائلة الجوع ، و سرعانما تعلمت بناتها المهنة الواحدة تلو الأخرى ، وتكشفت مواهب ابنتها الكبرى سعاد عن مصممة مبتكِرة للرسومات الرائعة التي كانت تزين إنتاج الأسرة من السجاد الذي ضاهى بجودته السجاد العجمي الشهير.
شيهانة ، صغرى بناتها لا زالت غير قادرة على مثل هذه الأعباء ، و لكن كان لديها هواية مربحة ، فقد أخذت على عاتقها تربية و رعاية قطيع صغير من فراخ الدجاج في خم بنته لها في إحدى زوايا ساحة الدار .
و لكن أمها التي تحب لحم الدجاج أكثر من حبها لبيضها ، ما أن كبر حجم الفراخ ، حتى بدأت تنقص القطيع أسبوعا بعد أسبوع ، فلم يبقَ لشيهانة في آخر الأمر سوى الديك ( أبو صياح ) كما أسمته، و عندما ارادت أمها ذبحه لتطهو منه وجبة شهية كعادتها كل اسبوع ، تصدت لها شيهانة و بكت بحرقة راجية أمها أن تترك لها أبو صياح حرا طليقا فلم يبقَ لها غيره ، فلانت عريكة الأم ، فأفرجت عنه .
دئبت شيهانة على تدليل ديكها أبو صياح ، تطعمه اللوز و الجوز و الفستق و الزبيب ، و تسقيه من ماء الزهر ، و تنظفه بيديها الصغيرتين و تلاعبه و كأنه طفل قرين لها .
كانت تجري وراءه أو يجري وراءها ، قافزا تارة على كتفها و تارة أخرى فوق الجدار الفاصل بين دارها و دار جيرانها ، و كأنه يتحداها أن تفعل مثله ، ثم ترجوه أن يهبط فيطير نحو صدرها ، لتحضنه بين يديها حانية .
و ذات صباح ، ما أن سمعت صياحه اليومي حتى نهضت مسرعة ، و إذ دنت من الخم لتقدم لديكها الحبيب طعام فطوره من اللوز و الجوز و الفستق و الزبيب ، و إذا بها تلمح في إحدى الزوايا مايشبه البيضة و لكنها كانت بيضة ذات بريق عجيب يخطف الأبصار .
نادت أمها صائحة بما يشبه الإستغاثة ، و قد استبد بها مزيج من الدهشة و الفضول ، هرعت أمها مذعورة ، تبعتها بناتها و قد استبد بهن القلق على صغرى شقيقتهن .
عندما وصلت أمها إلى الخم ، قدمت شيهانة البيضة إلى أمها قائلة :
- الديك باض !!
تأملت أمها البيضة ، قلبتها بين يديها ، ثم صاحت فرحة :
- إنها جوهرة .. إنها جوهرة .. الديك باض جوهرة يا شيهانة ! الديك باض جوهرة يا بنات !!!
و بدأت البنات يقفزن فرحات و هن يهزجن معا :
- الديك باض جوهرة ... الديك باض جوهرة
*****
ما انفك " أبو صياح " يبيض كل صباح جوهرة جديدة !
واستمرت العائلة تهزج : " الديك باض جوهرة .. الديك باض جوهرة "
و لكن الجارة أم عدنان و ابنها الكسلان عدنان الذي طرد من المدرسة مؤخرا بسبب كسله و تكرار رسوبه ، و الذي رفض أن يبحث عن عمل رغم أنه أصبح شابا طويل القامة مفتول العضلات ، معتمدا على الثروة التي خلفها له الوالد ؛ كان يقضي يومه متسكعا في الحارة أو جالسا في مقهى أبو رعد المجاور يحتسي الشاي و يسحب أنفاس الأرغيلة ، أو أمام أبو قعّود بائع الفلافل يتناول الشطائر ، أو نائما على سريره .
تنبه و أمه إلى أهازيج بنات الجيران ، ظنا في البداية أنهن يتخابلن أو يخرفن أو يلعبن لعبة ما ، و لكن تكرار الهتاف شحذ فضولهما :
- أيعقل أن يبيض الديك يا أمي ؟ يسألها ، فتجيبه و قد استبدت بها الدهشة :
- أيعقل أن يبيض الديك جوهرة ، يا عدنان ؟
و لكن عندما لاحظا أن دار الجيران بدأت تتحول إلى قصر ، و أن أثاثا جديدا دخل إليها ، و أن عربة جديدة يجرها حصانان مطهمان تنتظر أم سعاد و بناتها جانب باب دارهن مع حوذيها ، ليقلهن أو إحداهن حيث تشاء أو يشأن ؛ استبد بهما الحسد على الرغم من يسر حالتهما المادية ؛ و أصبح لا حديث لهما إلا عن الجارات اللواتي قلب الديك المعجزة ، حياتهن من فقر مدقع إلى غنى فاحش ، فكانا كلما سمعا الهتاف : " الديك باض جوهرة " ، يتحرقا غيظا و حقدا .
و ذات يوم قرر عدنان الكسلان أن يسطو على بيت الجيران و لم تمنعه أمه .
تسلل من فوق السور الفاصل بين الدارين قبل بزوغ نور الفجر مستعينا بضوء القمر الساطع ، و تمكن من القبض على الديك ، فربط منقاره بخيط كان أعده و عقد جناحية ببعضهما بعضا ، ثم رماه من فوق السور فتلقفته أمه ، و ما لبث أن تبعه .
كانت أم عدنان قد أعدت خما كبير لضيفها العزيز أبو صياح ، أدخلته إليه بعد أن حلت عقدة جناحيه و ربطة منقاره ، و أغلقت وراءه باب الخم .
مضى يوم ..
مضى يومان ..
مضى أسبوع ...
مضى أسبوعان ..
و الديك لا يبيض ، و هو كذلك لا يصيح ، و لا يأكل من الشعير الذي تقدمه له ، فهزل و أصابه الوهن ، فقررت أم عدنان ذبحه و طهوه قبل أن يفقد كل لحمه !
أوقدت النار ، في ساحة الدار ، و ضعت فوقها قدرا كبيرا مليئا بالماء منتظرة أن يغلي ..
في هذه الأثناء أخرج عدنان الكسلان أبو صياح من الخم ..
و اتجه نحو أمه التي كانت قد جهزت السكين ؟؟؟
و فجأة ..!
تمكن ( أبو صياح ) من الإقلات من قبضة عدنان الكسلان .. و بينما هو يجري وراءه تعثر فاختل توازنه ، فأمسك دون أن ينتبه بطرف القدر الحار فاحترقت يداه ، و اختل توازنه ، ثم انقلب الماء الساخن فأحرق ساقيه ، فأخذ يصيح مستغيثا !
هبت أمه لتغيثه و لكنها وقعت فوق النار التي أمسكت بثوبها ثم بكل جسدها !
تبعثر الجمر و تطاير الشرر فأمسك بشجرة الليمون ..
و اشتعلت – من ثم – شجرة الليمون ، و مالبثت أن أمسكت النار بالجدار المجاور ..
ثم اشتعل البيت كله ...
أما أبو صياح فصفق بجناحيه و طار فوق السور ، راجعا إلى أحضان مربيته الصغيرة شيهانة .
*****
بعد حوالي الشهر ، شوهد عدنان الكسلان جالسا قرب بوابة المسجد الكبير و قد فقد ساقيه ، مادا يده متسولا و نادبا حظه العاثر:
- يا ويلاه الديك خرب بيتنا ...
وا حزناه الديك قتل أمنا ..
و حسرتاه الديك أحرق مالنا...
لله يا محسنين ! لله يا محسنين !
أما في قصر أم سعاد ، فقد عادت البهجة إليها و إلى بناتها ، و عدن يهزجن كل صباح: " الديك باض جوهرة .... الديك باض جوهرة ....!"
[/align[a]lign=right][size=6
[align=right][size=3][font=Times New Roman][color=#00008B]
=====================
* نزار بهاء الدين الزين
سوري مغترب
عضو إتحاد كتاب الأنترنيت العرب
عضو جمعية المترجمين العرب ( ArabWata)
الموقع : www.FreeArabi.com
البريد: nizar_zain@yahoo.com