هل ستختفي مهنة الترجمة النصية؟

جاء في الأخبار في الأيام الماضية أن شركة IBM أنتجت مترجماً آلياً للقوات الأمريكية في العراق يتولي مهمة الترجمة الفورية من الانجليزية الى العربية. والجهاز مزود بمايكروفون يستقبل الكلام باللغتين ويحوله الى نظام ترجمة متطور قبل أن يقرأه صوتياً من المايكروفون. ويقول الخبر إن إدارة الجيش الأمريكي تسعى الآن لدراسة النواحي القانونية لتكريس هذه التقنية. وبلغت تكلفة تطوير هذا الجهاز 45 مليون دولار وهو جزء من عقود ضخمة تنفذها شركة IBM مع وزارة الدفاع الأمريكية تزيد قيمتها عن 3 مليار دولار سنوياً.
إن الكلام عن الترجمة الآلية ليس جديداً والكل يعلم أن عدة جهات صناعية وأكاديمية من مختلف أرجاء العالم تسعى منذ عشرات السنين لتطوير نظام للترجمة الآلية. لكن الجديد في الأمر هو هذه التقنية الصوتية الفورية التي نزلت الى السوق ، وان كانت بشكل محدود ، لكنها سريعة الانتشار لكونها ترتبط بمفهوم الحاسوب وتطبيقاته التي لم تعد تحصر. فهل نحن معشر المترجمين مهددون بزوال سوق الترجمة أو بتقلص حجمها؟ هل نشهد صراعاً يوماً ما بين الإنسان والآله ؟ أم أن ذلك الصراع قد بدأ فعلاً؟
للبروفسير مايكل كرونين ، من مركز الترجمة والدراسات النصية بجامعة دبلن بايرلندا ، كتاب شيق بعنوان " الترجمة والعولمة" وأعتقد أنه كتاب مفيد لمن يهتم بالترجمة أو بمستقبل اللغات والثقافات في عالم اليوم. والكتاب يستعرض ما يحدثه التغيير في الاقتصاد العالمي من آثار على الترجمة المعاصرة. فالانترنت والترجمة الآلية والتقنيات الحديثة وسوق الترجمة كلها أدت الى تغيير العلاقة المعقدة بين المترجم واللغة. ويعرض المؤلف طرقاً جديدة لفهم دور المترجم في مجتمع العولمة واقتصادياتها ، ويخلص الى أن الترجمة سوف تبقي في قلب المناظرات والدراسات عن اللغة والهوية الثقافية كما يسوق العديد من الأدلة على أهمية دور الترجمة والمترجمين كنشاط رئيس لحماية التنوع اللغوي والثقافي وتشجيع ذلك التنوع.
في عام 1996 أجرت شركة دلفي Delphi مسحاً شمل 45 خبيراً فنياً كلهم تنبأوا بأن الترجمة الآلية الدقيقة والسريعة ستكون شيئاً مألوفاً بحلول عام 2012. واذا حدث ذلك فمعناه بالمفهوم الاقتصادي لهذا التطور التقني ، ان مهنة الترجمة بالشكل الذي نعرفه ونمارسه اليوم سوف تختفي. سوف تختفي الترجمة النصية أولا ومن ثم يختفي المترجم. أما تعامل ماكينات الترجمة مع التعابير الاصطلاحية والكلمات والعبارات التي لا يوجد لها مقابل في اللغة الأخرى والكلمات المستحدثة والمنحوتة ولغة الثقافة فهذه كلها مسائل يجري بحثها ليل نهار ويعكف علماء اللغة ومهندسو المختبرات على الإجابة على هذه الاسئلة وغيرها.
ولعل المترجم اليوم يعرف عدة أشكال من تقنيات الترجمة الآلية. فهناك مثلاً الترجمة بمساعدة من الحاسوب Computer Assisted Translation أو (CAT ) إختصاراً ، وهناك ذاكرة الترجمة Translation Memory ولعل أشهر من يستخدم هذين النموذجين شركات التصنيع الكبرى والعاملين في مجال التوطين (Localization) . فشركة كاتربيلار المشهورة تتخصص في تصنيع المعدات التقيلة ولها شبكة من الموزعين تتعامل بأكثر من 35 لغة ، وتطبع كل يوم أكثر من 800 صفحة من الكتيبات وكتالوجات التشغيل والصيانة والمواصفات وغيرها ثم تعممها على أولئك الموزعين. ويستخدم المحررون الفنيون لغة عرفت باسم لغة كاتربيلار الانجليزية الفنية وهي تتكون من 70000 كلمة وجملة لصياغة تلك المستندات. أما ذاكرة الترجمة فهي أداة لترجمة اللغات التي لايمكن ترجمتها تلقائياً بالتقنية الآلية. إذن فهذا النظام الآلي في الترجمة يعطي الشركة ميزة تنافسية كبيرة نسبياً لإكتساب أسواق عالمية جديدة. والى جانب توفير كم هائل من المعلومات والمستندات بعدد كبير من اللغات في وقت وجيز ، فإنه يتيح للشركة ميزة أخرى محورها "الزمن" وتتعلق بتطوير المنتجات حيث انخفضت دورة تطوير المعدات من 18 شهراً الى 6 أشهر فقط ومن هنا أصبح اصدار مستندات المنتجات الجديدة ، بفضل ذاكرة الترجمة ، من أهم عناصر الانتاج (الآن موديلات السيارات أصبحت تتبدل بمعدل مرتين في السنة).
ومن أنظمة الترجمة الآلية ما يعرف بالترجمة الآلية التزامنية Synchronous Automated Translation أو (SAT) وتساهم هذه الاجهزة في مجالين من مجالات تطوير تقنية المعلومات هما قابلية الحركة وقابلية التصغير. أي أنها أجهزة في غاية الصغر من حيث الحجم وتسع لكم هائل من المعلومات. ومع تطور تقنيات النظام اللاسلكي تستطيع هذه الأجهزة العمل في أى مكان. وكلنا يعلم أن تقنية النانو Nano Technology أدت الى تراجع فكرة الكمبيوتر أمام الشريحة (micro-computer) وعليه ومع التطور المذهل والسريع في هذا المجال ، فسوف نشهد عما قريب تزويد أجهزة الكمبيوتر والراديو والتلفزيون بأنظمة الترجمة الآلية التزامنية SAT في داخلها. ولك أن تتخيل عزيزي المترجم محادثة مباشرة بين شخصين يتحدثان لغتين مختلفتين بهاتف جوال صغير الحجم يثبت على الأذن فتلتقط أجهزة الترجمة التزامنية المحادثة الصوتية وتترجمها الى الأذن مباشرة مثلما يفعل الجيش الأمريكي الآن في العراق ( الفارق هنا هو حجم الجهاز). اذا تيسرت هذه الوسيلة لكل من هذين الشخصين فذلك هو كل المطلوب لإجراء محادثة مترجمة آلياً بشكل كامل. ولك أيضاً أن تتخيل عزيزي المترجم سائحاً أجنبياً يتجول في شوارع احدى العواصم العربية ولديه جهاز SAT مثبت على نظارته ، أو حتى على عدسته اللاصقة ، يترجم له اللافتات المكتوبة بالعربية.

نعود الى سؤالنا: هل يعني كل ذلك التطور الإستغناء عن مهنة الترجمة؟

هناك من يشكك في قدرة الآلة على الترجمة رغم التطور التقني الذي نشهده على مدار الساعة. ومما يزيد من هذه الشكوك الأداء غير المتوازن لبرامج الترجمة الآلية التي تمتليء بها فضاءات الإنترنت.
اما اذا نظرنا الى الأرقام فهي بالتأكيد تدحض الإدعاء بقدرة الآلة على الترجمة. فعدد المترجمين اليوم أكبر من أي وقت مضى في تاريخ البشرية. ويلخص مايكل كرونين مشكلة الترجمة الآلية والترجمة البشرية في أنها مشكلة محورها تفضيل التفكير الاستبدالي أو الاستعاضي substitutive على التفكير العلائقي relational أي أن فكرة إحلال الآلة مكان المترجم كبديل كامل هي فكرة أقل قبولاً من فكرة تطوير نظام للترجمة يكون فيه التفاعل بين البشر والماكينات أكثر عمقاً وأكثر توسعاً ويستخدم كل عنصر فيه امكانياته لمصلحة الآخر في نظام تكاملي مشترك.