بريم تشاند أديب هندوكي توفي عام 1936 ، وهذه ترجمة لقصة له بعنوان " العفو " أنقلها إليكم وفي انتظار تعليقاتكم القيمة وخاصة تعليق الأستاذ الكريم عامر العظم وأستاذي الكبير أ . د . سمير عبد الحميد إبراهيم
العفو
بريم جند
بعد قرون عدة من بداية حكم المسلمين للأندلس كانت المساجد تقام مكان الكنائس ، وحلّ صوت المؤذن الخشن محل أصوات الأجراس المبشرة ، وإن كانت لا روح فيها ، وشيدت في غرناطة والحمراء القصور التي تسخر من تصاريف الزمن ، والتي لا تزال آثارها تبدي للناظرين عظمتها الزائلة ، وبدأ السادة من رجال ونساء يفلتون ثوب المسيحية من أيديهم ويدخلون في ظلال الأخوة الإسلامية ، ولا يزال المؤرخون حتى اليوم يعجبون : كيف لم ينته الوجود المسيحي هناك . وكان من بين أولئك السادة المسيحيين الذين لم يدخلوا في الإسلام حتى ذلك الوقت ، ولم يعترفوا بالجبروت الإسلامي ، ولا يزالون يحلمون بإقامة دولتهم في بلادهم تاجر يدعى " داود " .
كان " داود " عالماً وشجاعاً وشديد الاعتزاز بنفسه ، ولم يسمح للإسلام أن يثبت أقدامه في منطقته ، وكان بيته المكان الوحيد الآمن للفدائيين المسيحيين المتضررين . كان داود يضحي بكل شيء من أجل هؤلاء ، وكان المسلمون هناك في خوف دائم من " داود " هذا ، وكانوا يعملون على ترويضه بقوة السيف بعد أن فشلوا في ترويضه بقوة الدين ، لكن " داود " كان يقدر الظروف جيداً ، فلم يكن يواجههم في ميدان مفتوح أبداً ، وكان يصل وفي شجاعة فائقة إلى إخوانه المسيحيين حيث كانوا ، يحثهم على الثبات على دينهم كلما رأى منهم ضعفاً وتراجعاً أمام الإسلام .
وفي النهاية أحاط المسلمون بداود من كل جانب ، وعزموا على الإمساك به ، فحاصر الجيش الإسلامي منطقته ، ومنع وصول العتاد والإمدادات إليه . وظل " داود " محاصراً في قلعته الحصينة لعدة أيام ، ولكن عندما نفذ مخزون الماء من القلعة كان عليه أن يهرب مع من معه حفاظاً على أرواحهم من الهلاك ، وانتهز الفرصة في يوم من الأيام وتسلل من القلعة ليلاً حتى وصل إلى دار الخلافة غرناطة واختفى بها ، واستطاع محاربوه أن يخلقوا له محبين بين المسيحيين الذين أسلموا حديثاً ، ولأن الحياة وإن لم تقم على الكرامة لكنها لا تخلو من الحمية ، فقد عاش " داود " بين هؤلاء المتعاطفين معه على أمل في غد أفضل ، بينما كانت مخابرات المسلمين تبذل قصارى جهدها في البحث عنه والوصول إليه ، كما رصدت الجوائز الضخمة لمن يلقي القبض عليه ، لكن أحداً لم يستطع الوصول إليه .
وذات يوم أصاب " داود " ملل شديد من الوحدة التي كان يعيش فيها ، فخرج للتنزه في إحدى حدائق غرناطة ، وحل عليه المساء في الحديقة ، كان الرجال يرتدون عباءات طويلة ، وعلى رؤوسهم عمامات كبيرة ، وسيوفهم معلقة في نطاقاتهم ، بينما كانت النساء يضعن براقع بيضاء على وجوههن ، ويلبسن أحذية مذهبة في أقدامهن ، ويجلسن على على المقاعد في الحديقة . أما " داود " فقد استلقى فوق الحشائش بمعزل عن الجميع مستغرقاً في التفكير :
· متى يجيئ ذلك اليوم المبارك الذي يكتب فيه لوطننا الخلاص من قبضة هؤلاء الظالمين . كان يتذكر تلك الأيام التي كان فيها المسيحيون من الرجال والنساء يسيرون في طرقات الحديقة بينما يضج المكان كله بالأناشيد المسيحية الجميلة .
وفجأة اقترب أحد الشباب المسلمون من " داود " وجلس بجواره ، ثم نظر إليه من قمة رأسه إلى أخمص قدميه نظرة احتقار قائلاً :
· ألم ينر قلبك بنور الإسلام بعد ؟ .
ردّ " داود " بجدية قائلاً :
· يستطيع نور الإسلام أن ينير قمم الجبال ، لكنه لا يستطيع أن يتسلل إلى الأودية المظلمة .
كان اسم هذا العربي المسلم " جمال "، ولما سمع " جمال " ردّ " داود " قال له بلهجة حادة :
· ماذا تقصد ؟.
· أقصد أن الطبقة العليا من المسيحيين هم الذين يلجأون إلى الإسلام طمعاً في المال والجاه ، وخوفاً من العقاب والتنكيل ، أما المسيحيون الفقراء الضعفاء فأين لهم في الإسلام بمملكة السماء تلك ، والتي ستكتب لهم في ظل المسيح . لقد انتشر الإسلام بحد السيف وليس بخدمة الخلق .
استشاط " جمال " غضباً عندما سمع هذه الإهانة لدينه فقال :
· هذا كذب محض ، إن قوة الإسلام تكمن في الأخوّة والمساواة بداخله وليس في قوة السيف .
· إن أنهار الدماء التي أسيلت باسم الإسلام تكفي لإغراق كل مساجده فيها .
· إن السيف يحمي الحق .
ردّ " داود " بنفس الجدية قائلاً :
· ليس حقاً ذلك الذي يلجأ إلى الاستغاثة بالسيف .
عندئذ طار صواب " جمال " اعتزازاً بقوميته الدينية فأردف قائلاً :
· طالما أن هناك من يؤمنون بالكذب فستبقى الحاجة إلى السيف قائمة .
· الحقيقة التي تظهر بحد السيف ما هي إلا كذب .
قبض العربي " جمال " بيده على سيفه وهو يقول :
· قسماً بالله لو لم تكن أعزلاً لأذقتك مرارة إهانتك للإسلام .
عندئذ أخرج " داود " خنجراً كان يخبئه في صدره قائلاً :
· كلا ، لست أعزلاً ، وفي اليوم الذي أثق فيه في المسلمين لن أبقى مسيحياً ، فلتخرج ما في قلبك .
وشهر كل منهما سلاحه وانقض على الآخر ، وتراجع سيف العربي الثقيل أمام خنجر المسيحي الخفيف . كان أحدهما ينقض كالثعبان فينتفض الآخر كالحية ، ويقبل أحدهما كأمواج البحر فيقفز الآخر كالأسماك في الماء . واستمر الكرّ والفرّ بين الشجاعين لبرهة ، حتى قفزت الحيّة "داود" في كبد العربي " جمال " ، وسقط " جمال " على الأرض .
وفور أن سقط " جمال " أقبل الناس من كل صوب مهرولين ، وحاولوا محاصرة " داود " والإمساك به ، فلما رآهم " داود " يقتربون منه شاهرين سيوفهم أطلق لساقيه العنان هرباً بروحه ، لكنه حيثما اتجه وقف سور الحديقة حائلاً أمامه . كان السور مرتفعاً ويصعب تخطيه ، وكانت معركة حياة أو موت ، وليس هناك أمل في ملجأ ، ولا مكان يمكن الاختباء فيه ، وفي نفس الوقت كان تعطش العرب للدماء يزداد لحظة بلحظة . لم يكن كل هذا مجرد محاولة لعقاب مجرم واحد فقط ، إنما كانت محاولة للانتقام لإهانة أمة كاملة . كيف تجرأ هذا المسيحي المهزوم ورفع يده على عربي ، إلى هذا الحد !!.
وكما يفرّ السنجاب أمام الكلاب التي تتعقبه ، فيحاول تسلق إحدى الأشجار مرات ومرات ، ولكنه يسقط كل مرة لتورم أقدامه ، كان " داود " في نفس الوضع . أخذ يلهث من كثرة الجري ، وثقلت قدماه حتى فكر أكثر من مرة بأن ينقض على هؤلاء ويكلفهم من أرواحهم قبل أن يكلفوه روحه ، لكنه كان يتراجع عن هذه الفكرة عندما يرى كثرة عدد أعدائه .
كانت أصوات " امسكوا به ، هيا أمسكوا به " تتردد في كل مكان وترتفع ، وأحياناً كان هؤلاء الذين يطاردونه يقتربون منه لدرجة يظن معها أن المعركة انتهت ، وأن السيوف تكاد تطاله ، ولكن قفزة من ساقيه ، واستدارة من جسمه إلى الخلف كانت تنقذه بصعوبة من سيوف هؤلاء المتعطشين للدماء . وبدأ " داود " يستمتع كلاعب بهذه المطاردة ، كان على يقين من أنه لن ينجو منهم ، فالمسلمون لا يعرفون الرحمة ، ولهذا كان يستمتع بمراوغتهم ، وعندما كان يتفادى ضربة من ضرباتهم لم يكن يشعر بسعادة لأنه نجا من هذه الضربة ، وإنما لأنه أتعب أعصاب من يريد قتله .
وفجأة وقع بصر " داود " على مكان منخفض في سور الحديقة على يمينه ، فسارت في سيقانه قوة من حيث لا يدري ، وجرت دماء جديدة في عروقه ، وانطلق كغزال ، وبقفزة واحدة أصبح في الجانب الآخر من الحديقة . لقد كانت هناك مسافة خطوة واحدة بين الحياة والموت ، كان الموت من خلفه ، وأمامه فضاء الحياة الواسع ، والأشجار تغطي المكان بأكمله وإلى مدى بصره ، بينما كانت الأرض صخرية مرتفعة في مكان ومنخفضة في آخر ، والأحجار والصخور متناثرة هنا وهناك، واختبأ " داود " خلف صخرة من هذه الصخور .
وفي لحظات وصل أولئلك الذين يطاردونه إلى حيث هو ، وبدأوا يبحثون بين الأشجار وخلف الصخور والأحجار ، إلى أن جاء عربي منهم ووقف فوق الصخرة التي يختبئ خلفها " داود " . كان قلب " داود " يخفق بشدة ، فلقد شعر بأنه على وشك أن يضيع ، مجرد أن ينظر عربي إلى أسفل وتنتهي حياته ، حياته كلها متوقفة الآن على الصدفة ، الصدفة فقط . كتم " داود " أنفاسه ، تجمد تماماً . إن أمر حياته متوقف على مجرد نظرة . كم تتلاشى المسافات بين الموت والحياة .
لكن من أين لهؤلاء العرب بمتسع من الوقت حتى ينظروا على مهل إلى أسفل الصخور ، لقد كانوا في عجلة من أمرهم للإمساك بالقاتل ، وانزاح البلاء من فوق رأس " داود " ، فقد أخذ المطاردون يلتفتون هنا وهناك متفحصين المكان ، ثم تقدموا إلى الأمام .
وحل الظلام ، وظهرت النجوم في السماء ، وخرج معها " داود " هو الآخر من خلف الصخرة ، لكنه لاحظ أن الصخب والضجيج لا يزال يعم المكان ، ولا تزال جماعة من الأعداء حاملة المشاعل يفتشون بين الأشجار ، ويفحصون كل شبر من الأرض ، ولا يبدو أمامه أي طريق للهرب . وقف " داود " بجانب إحدى الأشجار يفكر كيف ينقذ روحه ، لم يهتم بنفسه ، فلقد ذاق مرّ الحياة وحلوها ، لكنه إنما يتمنى أن يعيش ليرى المصير الذي ستؤول إليه المعركة .
وعندما انقضى جزء كبير من الليل ، ولم تتراجع رغبة الأعداء في الانتقام قيد أنملة ، توكل " داود " على الله وخرج من بين العشاب بخطوات حذرة مستتراً خلف الأشجار متفادياً أنظار المطاردين حتى ابتعد عنهم قليلاً . كان " داود " يود أن يخرج من بين الأعشاب ويدخل إلى مناطق مأهولة ، فالمناطق الخربة لا تخفي أحداً ، وزحام الناس في حد ذاته ستار يواريه .
ولم يقابل " داود " في طريقه إلى مسافة بعيدة ما يوقف سيره ، فقد حفظته أشجار الغابات وحمته ، لكنه عندما عبر هذه المنطقة المتعرجة ، ووصل إلى الأرض المستوية لمحه عربي ، فصرخ :
· هرب " داود " ، هرب القاتل .
وما أن ارتفع هذا الصوت في الفضاء حتى اندفع العرب خلفه في لحظة ، وبدأت المطاردة . لم يكن هناك ولمسافة بعيدة أي أثر لأية مناطق مأهولة ، فقط كان هناك ضوء مصباح خافت يبدو من مسافة بعيدة . أراد " داود " أن يصل إلى هذا الضوء بأية طريقة ، فأخذ يجري بكل قوته صوب المصباح المشتعل وكأنه سيجد الأمان بمجرد وصوله إليه . كان الأمل هو الذي يحمله ويطير به ، وتخلفت فرقة المطاردين العرب وتوارت أضواء مشاعلهم . كانت النجوم فقط هي التي تصاحبه في جريه ، وفي النهاية وجد نفسه أمام مصباح الأمل هذا ، كان عبارة عن كوخ من القش صغير ، يجلس أمامه شيخ عربي وقد وضع المصحف أمامه واستغرق في التلاوة على ضوء هذا المصباح الخافت . لم يستطع " داود " أن يتقدم صوبه ، خذلته همته فخرّ فاقداً وعيه حيث هو . إن الشعور بتعب السفر لا يكون إلا بعد الوصول إلى البيت فعلاً . نهض العربي وسأله :
· من أنت ؟.
· مسيحي فقير حلت به مصيبة ، ولن ينقذني إلا أن تجيرني .
· يجيرك الله الكريم ، مالمصيبة التي حلت بك ؟.
· أخشى إن أخبرتك أن تصبح أنت أيضاً متعطشاً لدمائي .
· طالما استجرت بي فلا تخف ، نحن المسلمين إن أجرنا أحداً حميناه طيلة العمر .
· قتلت شاباً مسلماً .
احمرّ وجه العربي من الغضب وقال :
· وما اسمه ؟.
· اسمه جمال .
أمسك العربي برأسه بين يديه وجلس حيث هو ، واحمرت عيناه ، وانتفخت أوداجه ، وبدت على وجهه علامات الانتقام ، واتسعت فتحات أنفه ، وبدا وكأنه يجاهد نفسه ليتحكم فيها ، ويحاول بكل ما أوتي من إرادة ليكتم مشاعره ، وظل على هذا الحال جالساً مصوباً نظره إلى الأرض لعدة دقائق ، وفي النهاية انطلقت هذه الكلمات من حلقه شبه المسدود :
· كلا ، كلا ، لا بد من حماية من يستجير ، آه أيها الظالم ، أتعرف من أكون ؟! أنا والد ذلك الشاب التعس الذي قتلته اليوم بسيفك ! . أتعرف مدى الظلم الذي أوقعته بي ؟. لقد محوت كل أثر لعائلتي ، أطفأت مصباح حياتي . آه ، كان جمال ولدي الوحيد ، كل أملي ونور عيني ، وسند حياتي ، والروح في جسدي الهزيل ، وعصاي التي أتوكأ عليها . لقد عدت لتوي بعد أن ثويته في أحضان القبر ... آه ، إن أسدي اليوم يرقد تحت التراب ، الشجاع المخلص ، الشاب الرائع الذي لا مثيل له بين قومي . أيها الظالم ، كيف هان عليك ضربه بالسيف . ألم يهتز قلبك المتحجر ولو للحظة ، أتعرف كم أشعر بغضب منك ؟. يود قلبي لو أطبقت بيدي هاتين على عنقك فلا أتركه حتى يتدلى لسانك من حلقك ، وتسقط عيناك من محاجرها كحصاتين ، ولكن لا ، فلقد استجرت بي ، والفرض يقيد يدي ، لأن رسولنا علمنا أن لا نرفع أيدينا على من أجرناه ، ولا أريد أن أخالف أمر النبي فأخسر آخرتي مع دنياي ، فلقد أفسدت أنت دنياي ، فهل أفسد أنا ديني بيدي . كلا ، صحيح أن ضبط النفس صعب ، لكني سأفعل حتى لا يعتريني الخجل أمام النبي . هيا ، هيا إلى بيتي ، فها هم الذين يطاردونك قد وصلوا ، ولئن رأوك فلن تنقذ كل توسلاتي روحك من يدهم ، إنك لا تعرف أن العرب لا يغفرون الدم أبداً .
ثم أمسك العربي بيد " داود " واصطحبه إلى بيته حيث خبأه في إحدى الحجرات ، وما أن خرج من البيت حتى كانت جماعة من العرب قد وصلت أمام الباب ، فسأله أحدهم :
· يا شيخ حسن ، ألم تر شخصاً يمرّ هارباً من هنا ؟.
· نعم رأيته .
· ولماذا لم تمسك به ؟. إنه قاتل " جمال " .
· أعرف ذلك ، ولكني تركته .
· سبحان الله ، ما هذا الذي فعلت ؟!. سوف يمسك " جمال " بتلابيبنا يوم الحشر ، فبماذا نجبه ؟.
· قولوا له إن أباك قد عفا عن قاتلك .
· وهل يعفو عربي عن قاتل أبداً !.
· هذا شأنكم ، فلماذا أحمل أنا وزره .
لم يطل العرب في مجادلة الشيخ حسن ، وواصلوا بحثهم عن القاتل ، أما الشيخ حسن فقد جلس على حصير وأخذ يقرأ القرآن ، لكنه لم يرغب في مواصلة القراءة ، فإن الرغبة في الثأر من العدو من مكونات الفطرة العربية ، والقتل جزاؤه القتل حتى ولو سالت أنهار من الدماء في سبيله ، ولقد فنيت قبائل عن آخرها ، وخربت مدائن بكاملها من جراء هذا . كان يبدو أن التغلب على رغبة الانتقام هذه ليس في مقدور الشيخ حسن ، وكانت صورة ولده الحبيب تتمثّل له أمام عينيه مرات ومرات ، وفي كل مرة تثور في قلبه رغبة جامحة في أن يطفئ نار غضبه بدماء " داود " ، فالعرب شجعان ، والقتل أو الموت ليس أمراً غير مألوف لهم ، يذرفون على الميت عدة قطرات من الدموع ثم ينفضون إلى مشاغل حياتهم ، ولا تتجدد ذكرى الموت إلا عندما يكون عليهم الثأر له . وفي النهاية نهض الشيخ حسن منتفضاً ، كان يخشى ألا يستطيع التحكم في نفسه ، فسحب سيفه من غمده ، وأقبل بخطى حذرة حتى وقف على باب الحجرة التي أخفى فيها " داود " ، ثم أخفى السيف في ثيابه ، وفتح الباب بهدوء . كان " داود " إذ ذاك يزرع الحجرة جيئة وذهاباً ، فلما رأى وجه الشيخ العربي الغاضب فهم ما يريد ، فأشفق عليه ، وقال لنفسه :
· إن الذنب ليس ذنب الدين ، ولا ذنب هؤلاء ، فلو قتل أحد ولدي ربما تعطشت أنا أيضاً لدمائه ، إنها فطرة بشرية .
قال الشيخ العربي :
· أتعرف يا " داود " كم يكون الحزن على موت الابن ؟.
· رغم أنني لم أجربه ، لكني أستطيع أن أتخيله ، ولو كانت روحي ستخفف جزءا من أحزانك فإن هذه رأسي أمامك أقدمها إليك عن طيب خاطر . هل سمعت باسم " داود " من قبل ؟.
· ماذا ؟!. ابن " بيتر " ؟!!.
· نعم ، أنا ذلك التعس " داود " ، أنا لست قاتل ولدك فقط ، بل أنا عدو الإسلام ، ولئن قتلتني فلن تثأر لولدك فقط ، وإنما ستقدم خدمة جليلة لشعبك ودينك .
ظل الشيخ حسن واقفاً في صمت للحظات ثم قال :
· يا " داود " ، لقد عفوت عنك . أعرف أن المسيحيين أصابهم أذى كثيراً على يد المسلمين ، وأوقع بهم المسلمون مظالم كبيرة ، وسلبوهم حريتهم ، ولكن هذا ليس ذنب الإسلام ، وإنما هو ذنب المسلمين ، لقد طارت نشوة الانتصار بصوابهم ، ولم يأمرنا نبينا الكريم بما نفعله في أيامنا هذه . لقد كان هو نفسه ( صلى الله عليه وسلم ) تجسيداً رائعاً للعفو والمغفرة ، ولن أسيئ إلى الإسلام أبداً . خذ ناقتي ، وتسلل تحت جنح الظلام واهرب إلى حيث تستطيع ، ولا تنتظر هنا لحظة واحدة ، فلئن اشتم العرب رائحتك هنا فلن يتركوك . اذهب وعد إلى بيتك بسلامة الله ورعايته ، وادع الله للشيخ حسن العجوز وابنه جمال .
ووصل " داود " إلى بيته بخير وعافية ، لكنه لم يعد هو " داود " الأول الذي كان يتمنى من كل قلبه القضاء على الإسلام ، وتغيرت أفكاره ، وأصبح يقدر المسلمين ويذكر الإسلام بكل احترام وتبجيل .
د . إبراهيم محمد إبراهيم
المفضلات