تأنيب الضمير :
في الأيام التالية تصدرت العناوين الرئيسية للصحف قصة الموت الغامض للراقصة ورفيقيها ، وبعد أيام قلائل أعلنت نتيجة التشريح ، وكانت مذهلة وغير متوقعة ، فقد صرح المسؤولون عن التحقيق أن الثلاثة ماتوا بلسعات قاتلة من العقارب .
وأدلي كثير من العلماء في الصحف والإذاعة والتلفزيون عن دهشته لهذه النتيجة ، تساءلوا كيف تمكنت العقارب من التواجد في مثل هذا المكان! وفي مثل هذه البيئة! وشكك الكثيرون أنه حادث مدبر ، وذلك بعد أن أحضر مجهول أو مجهولون العقارب من الصعيد أو الصحراء ، ووجدوا وسيلة ما للقضاء علي هؤلاء الثلاثة ، وأرجعوا الجريمة إلي دافع الانتقام أو الشرف .
تواردت أخبار أكثر إثارة ، فقد مات ضحايا كثيرون بلسعات العقارب ، وبدأت الصحف تهاجم المسؤولين عن الإهمال الجسيم في محاربتها ، وشنت حملة عنيفة للقضاء علي العقارب ، ورصدت جوائز مالية لمن يصطاد العقارب حية أو ميتة .
كان "عزيز" قد اشترى سيارة بجزء من الأموال التي ربحها ، وكان يضعها في مكان مهجور قريب من الفيلا ، وفي الليل يتسلل منها ، ويستقل السيارة ويبدأ في اصطياد فرائسه ، وأصبحت لذته التي لا غني عنها أو العيش بدونها لسع ضحيته بعد أن تأمن له ، ويستدرجها إلي أحد الشوارع الخالية ، أو الأماكن المهجورة ، ثم التخلص منها .
ثم بدأ يغير خططه ، وأصبح يجد متعة ولذة في اصطحاب ضحيته إلي الصحراء ، وبعد أن يلسعها يدسها في التراب .
أصيب الناس بفزع ورعب شديدين ، بعدما أعلن علي الملء أن هناك ثمة غموض رهيب يحيط بهؤلاء الضحايا ، ولا يستبعد أن يكون عدوا خارجيا يسلط هذه المخلوقات ؛ لبث الرعب بين الشعب ، وأصدر بيان عام بالابتعاد عن الأماكن المهجورة ، وعدم السير في الأماكن الخالية ، وبالرغم من ذلك كانت الحوادث تتزايد ، ويأتي كل صباح بالأخبار المثيرة المفزعة عن ضحايا جدد .
كان الدكتور "أسعد" يطالع الصحف ، ويتابع الأخبار في الإذاعة والتلفزيون باهتمام بالغ ، وبدأت الهواجس والريب تجتاح فكره ، فمنذ سبعة عشر عاما ساعد في استنساخ مخلوق مسخ ، وكان يحمل مورثات العقرب ، وبالرغم من أنه لم يره بعد مولده مطلقا ، ولم يعد يعرف عنه شيئا بعدما أسدل الدكتور "عزام" ستارا كثيفا ، وعتم علي أي معلومات عن مدي نجاح هذه التجربة المثيرة مع تقدم عمر هذا المخلوق .
ومن ثم بدأ يشعر بتأنيب الضمير ، وأنه شريك في هذه الجرائم التي راح ضحيتها أبرياء ، وانتابته الحيرة البالغة في مواجهة هذه المشكلة المخيفة ، أيضا الفزع من عقاب الدكتور "عزام" الذي يستطيع بإشارة من إصبعه القضاء علي مستقبله ، بل وتصفيته جسديا ، وعلي الجانب الآخر فلن تصدقه السلطات وستعتبره مجنونا إذا اعترف لهم بجرمه ، هذا بالإضافة إلي عقاب المجتمع له إذا قدر أن يصدقوا هذه الحقائق .
أصابته حيرة قاتلة وأعياه التفكير ، حتي اهتدي لحل لم يجد مفرا منه علي الرغم من خطورته ، وقرر بعد أن استجمع قوته وإرادته أن يتصل "بسكينة" التي لم يعد يراها منذ ولادتها نسخ الدكتور "عزام" .
دق رنين الهاتف في فيلا الدكتور "عزام" ، وكان هذا حدثا غريبا ، فمن النادر أن يصلصل صوته ، فرقمه سري ولا يعرفه أحد ، وتطرق صوته إلي "سكينة" وهو يرن بإلحاح شديد ، وكانت في حجرتها فهبطت إلي الطابق السفلي ، وتقدمت إليه ببطء وتردد ، ورفعت سماعته ويدها ترتجف ، وتناهى إليها صوت مألوف عبر الخط الآخر ، ومع ذلك لم تستطع أن تميزه ، هتف الصوت :
ـ إنني الدكتور "أسعد" .
تمتمت "سكينة" بفتور:
ـ أهلا يا دكتور .
قال بانفعال :
ـ أريد أن ألقاك لأمر هام .
دق قلبها سريعا وهي تسمع نبرات صوته المنفعل ، تبادر إلي ذهنها من فورها أنه يريد أن يحدثها عن أمر يخص نسخ الدكتور "عزام" ، فحاولت أن تتكلم بصوت ثابت وهي تتساءل :
ـ ما هو يا دكتور ؟
صاح :
ـ لا أستطيع البوح في التليفون ، قابليني غدا في حديقة الأورمان الساعة العاشرة والنصف صباحا ، بعد أن تتأكدي من مغادرة الدكتور "عزام" الفيلا .
وضعت "سكينة" سماعة الهاتف بذهن غائب ، ولاح علي وجهها شرود ، جعلها لا تسمع خطوات الدكتور "عزام" المتلصصة حتي أصبح خلفها تماما ، وعندما التفتت لتصعد إلي حجرتها وجدته أمامها ، أجفلت بعنف وتراجعت إلي الوراء في رهبة .
بدا علي وجهه شبح ابتسامة متوعدة تنذر بالويل ، وهتف بصوت بارد كنصل السكين :
ـ مع من كنت تتكلمين ؟
كان وجهها شاحبا كالأموات ، ازدردت ريقها بصعوبة ، وقالت في محاولة يائسة لتكون رابطة الجأش :
ـ الدكتور "أسعد" .
رمقه بازدراء وهو يقول بحدة :
ـ ماذا كان يريد ؟
ـ كان يريدك لأمر هام لم يخبرني عنه .
لم ينبس الدكتور "عزام" بشفة ، فقط أدار ظهره لها متوجها إلي مكتبه ، ودخله بعد أن دس مفتاح من مفاتيح كثيرة معلقة في سلسلة أنيقة من الذهب ، ثم صفق الباب بعنف .
تنفست "سكينة" الصعداء ، وصعدت في السلالم ، وفي طريقها إلي حجرتها ألقت نظرة علي حجرة "عزيز" المغلقة بإحكام ، وكان يسودها سكون عجيب كسكون الأموات ، وهو قابع داخلها لا يتحرك في مكانه المعهود من الصوان .
جلست خلف نافذتها المطلة علي الحديقة ، وعادت بذاكرتها إلي الوراء ، منذ كان "عزيز" في الثامنة من عمره ، فقد كذبت عينيها عندما لمحت الذنب القاتل ، يلتف حول الكلب الوولف ليختفي فجأة ، وانتابها الشك ، وساورتها الظنون في أن "عزيزا" كان وراء تلك الحوادث ، التي قرأتها في الصحف ، وسمعتها في الإذاعة والتلفزيون ، ثم بدأ الشك يتحول إلي يقين بعد أن رأته يتسلل من حجرته خلسة ، ثم يخرج من الفيلا في جنح الظلام .
كان شعورها غريبا ، فقد أحست بالرثاء والخوف علي "عزيز" ، ولم يخالجها أي شفقة علي هؤلاء الضحايا الذين سقطوا موتي بعد أن سرى السم الزعاف إلي أجسادهم ، لأنهم أيضا جلادون مثل الدكتور "عزام" .
لقد كانت أول ضحايا هذا الرجل الرهيب الذي سلبها آدميتها وإرادتها ؛ ثم "عزيز" المسكين الذي فقد هويته كإنسان أو حتي حيوان ، لقد أصبحت علي يقين أن الدكتور "أسعد" يشاركها هذا السر الخطير ، وعليها أن تناضل من أجل ابنها .
في هدأة الليل سمعت صوت صرير نافذة "عزيز" تفتح ، ثم حفيف أوراق الشجرة المقابلة للنافذة واصطكاك فروعها وتكسرها ، وأبصرت شبحه يتسلل في الظلام المخيف ، ويتلاشى في الغبش الداكن ، وانتابها خوف غامض ، ليس منه ، بل عليه .
في الموعد المحدد جلس الدكتور"أسعد" ينتظر في حديقة الأورمان علي إحدى الأرائك الخشبية المتناثرة في الحديقة ، كان القلق يرتسم علي وجهه ، ثم أصبح أكثر توترا وهو ينظر إلي ساعته من وقت لآخر ، ثم بدأ يصوب نظراته المترقبة إلي البوابة الضخمة للحديقة .
بعد فترة من الترقب القلق أبصر "سكينة" مقبلة تتعثر في خطواتها ، فلبث في مكانه لا يتحرك حتي أصبحت قبالته ، فقام وهو يهتف هامسا:
ـ أهلا يا "سكينة" .
ثم أضاف وهو ينظر حوله بحذر ، تعالي إلى مكان منعزل بعيدا عن الأنظار .
سارا خلال الحديقة عدة دقائق وكانت خالية من الزوار تقريبا ، ووقع اختيار الدكتور "اسعد" علي مكان يشبه الدغل بأشجاره المتكاثفة ، ووقفا في ظلال الفروع المتشابكة يحتمون بها من حرارة الشمس التي كانت ترسل أشعتها الحارقة .
قال وهو يجفف العرق المتصبب علي جبينه ، ثم ينزلق علي رقبته :
ـ إنك بالتأكيد قد خمنت لماذا استدعيتك إلي هذا المكان ؟
أومأت برأسها دون أن تنبس بشفة ، قال بصوت خافت مضطرب:
ـ إن الموقف يزداد سوءا ، ويجب أن نحسم هذا الأمر .
صرخت وقد برقت عيناها ببريق لامع ، وارتسم علي وجهها غضب فائق ، وهي تكشر عن أنيابها كلبؤة تدافع عن شبلها :
ـ ماذا ستفعل إذن ؟
انتابه ذعر عارم لرد فعلها غير المتوقع ، وهمس محذرا وهو يلتفت حوله :
ـ أرجوك اخفضي صوتك ، فالأمر خطير .
ثم استطرد بانفعال ..
ـ لا يوجد إنسان غيرك أستطيع أن أتعاون معه لوقف هذه الجرائم البشعة .
سألته بتهكم وسخرية :
ـ وماذا سنفعل ؟ وما دورنا نحن ؟!
قال دون تردد وهو ينظر إليها مليا :
ـ نقضي علي نسخة الدكتور "عزام" .
تضرج وجهها بالدماء ، وقد انتابها غضب مروع وصرخت فيه بعنف :
ـ إنه ضحية الدكتور "عزام" وكنت أنت شريكه في هذه المؤامرة ، وقبل أن تحاكمه وتصدر عليه الحكم ، كان يجب أن تحاكم الدكتور "عزام" ونفسك .
هتف بتوسل :
ـ أرجوك يا "سكينة" ..
قاطعته وهي تقول بصوت حازم متوعد :
ـ لن أعطي الفرصة لأي شخص في هذا الوجود لسلب حياة ابني ، وإذا سولت نفسك شيء ، فسوف أقضي عليك دون رحمة.
ثم التفتت بحدة وخطت خطوات ثابتة واثقة ، تاركة الدكتور "أسعد" وهو يشيعها بنظراته تائها حائرا ، وقد تجمد في مكانه متخاذلا ، لا يستطيع النهوض ، فقد أضناه تأنيب الضمير من جهة ، ومن جهة أخري سيطر عليه الرعب لمصيره الرهيب علي يد الدكتور "عزام" ، إذا انكشف أمر النسخ .
المفضلات