خرجت من بيت أمها وهي متأكدة أن لا عودة بعدها .
حملت حقيبة يدها ، وحقيبة أخرى تضم بعض من أغراضها التي كانت تحملها منذ أيام ، عندما أتت وطرقت هذا الباب .
سارت في الطريق وهي تحاول أن تغالب دموعها ، تحاول أن تستبعد عن ذكرياتها كل منغصات حياتها ، تريد أن توهم نفسها ولو للحظات ، أنها أصبحت حرة ... ولم تعد تلك الأسيرة ؛ لمشاعرها المخدوعه .
أخذت تتلفت يمنى ويسرى لعلها تستلفت بنظرها ما يجدد الأمل بداخلها ، ويبعد عن رأسها تلك الأفكار. .
ظلت سائرة رافضة أن تستقل أية حافلة مارقة بجوارها ، حيث انها تريد أن تشتنشق ولو بعض من هواء حريتها ولو لبضع لحظات، رغم علمها أنها ليست حرية حقيقة بل إفتراضية مؤقتة .
ورغماً عنها وفي غفلة منها ، رأت شريط من الذكريات يمر أمام عينيها يعيد عليها أحداث عصفت بها ، بل ما زالت تعصف بكل كيانها
فلقد جاءت إلى بيت أمها منذ ما يقرب الأسبوعين ، لتجد أختها من أمها والتي تصغرها بسبع سنين ، تقيم هي وزوجها وأبناؤها بذات العين .
فشخصية تلك الأخت مختلفة عنها تماما من حيث العصبية والعنجهية ؛ ويزيدها تكبرها وتسلطها على الأمور الحياتية لوالدتهما
لكنها تواجدت بينهم ؛ فهذا هو البيت الوحيد الذي تستأمن فيه على نفسها .
فمن خلال جدرانه تأمل دائماً أن تجد الملاذ والحماية ، وتتمنى ولو للحظات أن تستعيد جميل ذكريات طفولتها وبراءة مشاعرها .
لقد كانت فيما مضى تظن أن حُسن السير والسلوك سيكونان شافعين لها عندما يأتي ميعاد زواجها ، لكن الرياح تأتي دائما بما لا تشتهي السفن .
فلقد عاشت منذ صغرها وحتى يوم خطبتها ثم زواجها الذي فرض عليها فرضاً بين جدران هذا البيت ، والذي كان شاهداً على مدى قهرها ، أكثر من الأفراد الذين يلتحفون بسقف جدرانه .
وها هي عند دخولها عتبته وجدت ترحيباً يشوبه بعض الضيق من أمها ، وذلك لادراكها أن أبنتها أتت إليها غاضبه ؛ تاركة لبيت زوجها ، حيث أنها هي التي آثرت وتفاعلت بشكل درامي كي تزوج أبنتها الكبري والتي لم تكن تتجاوز الثامنة عشر من عمرها ، ممن تراه خيرا وأفضل من جميع الشبان الذين تقدموا حين ذاك أوممن بدت عليهم ملامح الاعجاب والتي سوف يعقبها بدون شك التقدم للخطبة والزواج " لحُسن سير وجمال الخلقة والخلق لأبنتها "...ولأنها كانت ترى أن هذا الرجل الذي يكبر أبنتها بأربعين عاما مناسبا في ماديّاته ومركزه الوظيفي العالي ، تناست بل تغافلت عن عمد ؛ فارق السن ... وها هي أبنتها تأتيها رافضة العيش مع من أرتضته لها منذ سنين . ولكن مهما مضت تلك السنين إلا أنها مازالت نابضة بالألم . .
أخذتها بالترحاب والتظاهر بالمواساة . وهمست لها : ـ عندما تأتي أختك لا تصاريحها بمشاكلك .
ـ ماذا أقول ؟
ـ قولي أنك أتيتيِ لكي تستجمي معنا بعض يوم .
طفرت من عينيها دمعات آتتها قسراً عنها ، حتى كادت أن تصل بها إلى حد النحيب بصوت عالي .. مما جعل أمها تسرع إليها وتربت عليها وهي تحتضنها قائلة ـ لم أكن أعلم أن عمره سيطول إلى هذا الحد ؛ هوني عليكِ ويكفيكِ من الدنيا ولدك فهو زينة الشباب ، ولقد صار رجلا ؛ الجميع يحسدونك على طيبته وتربيته العالية . هوني عليك قبل أن تأتي أختك .
تمسح دموعها وهي تنظر لأعلى ؛ ليس إلى أمها، بل إلى الفراغ الذي باتت تستشعره حولها .
نعم لقد مر على زواجها اكثر من عشرين عاما ؛ وكم من مرة أتت وطرقت نفس الباب، لكنها عادت منه إلى حيث ما لا تريد لأنه مازال عليها الاستمرار لتربية ولدها، وحتى لا يشمت شمات العائلة .
آه كم باتت ودموعها تغرق وسائد مرقدها ... فتلك الوسائد أصبحت قريبة من نفسها ولم لا ؛ فهي التي تعلم مدى معاناتها وعظيم ما تقاسيه في وحدتها ومن حرقة مشاعرها ليل نهار ... ولكن لم أعد أطيق يا أمي ؛ هكذا خرجت عباراتها قسرا عما تريد أن تسمعه منها امها، ولكنها أكملت متغاضية عن نظرات التأسف من عينيها
ـ من حقي أن أعيش يا أمي ؛ العمر يمضي والسنين تجري وأنا أحيا بكنف رجل لم أكن له زوجه سوى ليلة واحده ، كان نتاجها هذا الطفل والأبن الوحيد قرة عيني ؛ ولكن ماذا أفعل ؟ لا أريد أن أبخس حق نفسي أكثر من هذا ، أبني صار رجلا ، ولا يخشى عليه ، ومن حقي أن أسعى ، لما أسعى إليه ... فهو يعلم ؛ ويوافق على قراري هذا .
ـ وأبوه ؛ زوجك يعلم ؟!!
. نعم ؛ لقد أفصحت له عما بداخلي ... لا ؛ ليس بكل شئ ، ولكن صرحت بما يجب وتركت البيت وأتيت ، وسوف يأتي مصطفى لكي يساعدني في الحصول على الطلاق وبعدها نتزوج .
ـ هذا الرجل وراءك ؟!! سوف يخرب عليكِ حياتك وبيتك ، أفيقي ؛ إنه يتلاعب بكِ .
ـ لا أنه صادق ؛ كما أنه ليس بالغريب ، انه إبن عمتي كما تعلمين .
ـ مهما يكن ؛ فهو متزوج وزوجته لن ترضى ؛ وسوف تقيم الدنيا ولن تقعدها
ـ إنه مُصر؛ ويقول أن حياته بدأت عندما بدأت أتجاوب مع مشاعره .
عند هذا الحد تقف مشدوهة وسط الطريق وكأن أحدهم طرق رأسها بمطرقة من حديد ، فترتج جميع أوصال جسدها النحيل . وهي تهمس لنفسها في إندهاش لماذا أسترجع كل تلك المواقف آلا لي منها خلاص ...
المفضلات