الجزء الأول
محطة التقدم
تولى رجلان أبيضان مسؤولية محطة تجارة. وكان رئيسها كايرتس رجلا قصيرا سمينا ، وكان مساعده كارلير طويلا ضخم الرأس ، عريض الجذع ، طويل السيقان نحيلها. و ثالث الموظفين زنجي من سييرا ليون ، كان دائما يصر أن اسمه هنري برايس . وبالرغم من اصراره سماه السكان الأصليون الماكثون أسفل النهر لسبب ما ماكولا ، فلصق الاسم به خلال تجواله في البلد. وكان ماكولا يشدو بالإنجليزية والفرنسية ، ويكتب بخط جميل ويجيد جرْد السلع ، كما كان أيضا يعز عبادة الأرواح الشريرة في سويداء قلبه. وامرأته زنجية ضخمة جدا و مزعجة جدا ، وهي أم لثلاثة أطفال اعتادوا اللعب تحت الشمس أمام باب سقيفتهم المنخفضة. ولكن ماكولا الصامت المتحصن كان يحتقر الأبيضين.
وقد حمل مسؤولية مخزن طيني صغير سقفه مصنوع من حشيش مجفف ، فكان يتظاهر بإتقان حساب سلعه من خرز وقطن ومناديل حمراء ، وأسلاك نحاسية ، وأشياء أخرى. ولم يكن في المحطة سوى كوخه والمخزن ، ومبنى كبير صنع بإحكام من القصب ذي شرفات على كل جهة من جهاته . كان فيه ثلاث حجرات الوسطى منهم للجلوس ، وبها طاولتان والقليل من المقاعد التي لا ظهر لها. فيما كانت الغرفتان الأخريان لنوم البيض ، وهما مؤثثتين من هيكلين للسرر ، وشبكتين للناموس فقط. وكانت أغراض الأبيضين مبعثرة على الأرض الخشبية. تجمعت حولهما كل الأشياء القذرة الخربة التي تتجمع بغرابة حول الفوضويين ، من صناديق مفتوحة وأكسية مقطعة وأحذية قديمة. وكان في المحطة مكان إقامة آخر يبعد مسافة قليلة عن المباني ، وفيه يرقد تحت صليب طويل مائل الرجل الذي شهد بداية كل هذا ، وخطط وراقب تعمير محطة التقدم هذه. وقد كان رساما فاشلا في وطنه ، فعندما سئم التهافت على الشهرة وبطنه فارغ قرر الذهاب إلى الخارج عبر حصانات رفيعة. فكان أول رئيس للمحطة. وشاهد ماكولا الفنان المفعم طاقة يموت من الحمى في البيت الجديد بلا مبالاة وكأنه يقول له كعادته: ( لقد حذرتك) . ثم أقام ماكولا وحده لفترة مع عائلته وكتب الحساب والروح الشريرة التي تحكم مناطق ما دون خط الاستواء.
وكانت علاقته جيدة بربه.. ولعل سبب ذلك أنه أرضاه عندما وعده بالكثير من البيض ، ليلعب بهم كلما سمحت الظروف. على أي حال جاء مدير شركة التجارة العظيمة على باخرة تشبه علبة سردين ضخمة ، عليها سقيفة مسطحة السقف. فوجد المحطة بترتيب جيد وماكولا هادئ النشاط كعادته. أمر المدير بوضع صليب على قبر الموظف الأول ، وعين كايرتس مكانه - أما كارلير فأقصاه إلى المنصب الثاني في القيادة. وكان هذا المديرفعّالا قاسيا ، ففي بعض الأحيان كان ينغمس في مزاح خفي شرس. فقد ألقى خطبة على كايرتس وكارلير موضحا لهما الوجه الواعد لمحطتهما. فإن أقرب محطة تجارية تبعد ثلثمائة ميل تقريبا ، مما يعطيهما فرصة استثنائية للتميز وكسب عمولات تجارية. فالمنصب يمنح كمعروف للمبتدئين . تأثر كايرتس بلطف المدير حتى كاد يدمع وقال أنه سيبذل كل جهده لمحاولة تبرير هذه الثقة المادحة ..وكذا وكذا. كان يجيد التعبير بسبب عمله في إدارة البرقيات. أما كارلير ، الذي كان ضابطا غير مفوض في سلاح فرسان تابع لجيش يضمن السلامة ، لأنه مدعوم من عدة قوات أوروبية - فكان أقل تأثرا من كايرتس. فإذا كان بالامكان أخذ عمولات فإلى هذا الحد خير. تتبع كارلير بلمحة عابسة النهر والغابة والشجيرات الحصينة التي كأنها تعزل المحطة عن بقية العالم ، ثم تمتم عبر أسنانه:
(( سنرى قريبا )).
وفي اليوم التالي ، رميت لهما صناديق المؤن ورزم القطن التجاري على الشاطئ ، ومضت الباخرة السردينية في طريقها من غير عودة إلا بعد ستة أشهر. وعلى ظهر الباخرة حيّا المديرلامسا قبعته الموظفين الملوحين له على ضفة النهر ، ثم التفت وهو في طريقه إلى مركز القيادة لموظف قديم في الشركة وقال له : (( أنظر إلى هذين الأبلهين ، لا بد أن من أرسل هذه الأشكال من الوطن لمجنون. أمرتهم بزرع حديقة خضروات ، وبناء مخازن جديدة وأسياج ، وتجهيز مهبط طائرات ....أتحدى أن ينجزوا ما أمرتهم به.....لن يعرفوا كيف يشرعون في العمل. لطالما صنفت هذه المحطة على هذا النهر عديمة الفائدة.... وهما مناسبان لها)).
فقال العجوز المحنك وهو يبتسم ابتسامة هادئة : (( سيكوّنون أنفسهم هنا ))
فقال المدير : (( لقد تخلصت منهما لستة أشهر على أي حال)).
شاهد الرجلان الباخرة تبحر في منعطف النهر ، ثم صعدا الضفة المنحدرة يدا بيد راجعين إلى المحطة. كانا حديثي عهد بهذا البلد الواسع المظلم ، و كان مكوثهما فيه حتى الآن بين البيض وتحت رقابة وتوجيه رؤسائهم . وأما الآن ، فمع بلادتهما الحسية نحو التأثيرات الغامضة المنبثقة من محيطهما ، أحسا بالوحدة عندما تركا فجأة لمواجهة البرية من غير أي مساعدة. هذه البرية التي أصبحت أغرب وأبهم بسبب تلك اللمحات الغامضة للحياة النشطة التي تحتويها. كانا فردين عاجزين تافهين تماما ، و وجودهما لم يصبح ممكنا أصلا ، إلا من خلال التنظيم الرفيع للحشود الحضارية. فالقليلون فقط يعرفون أن حياتهم وجوهر شخصيتهم ، وإمكاناتهم وجرأتهم ، ما هي إلا تعبير عن إيمانهم بالأمان من حولهم. فالشجاعة ورباطة الجأش والثقة والعواطف والمبادئ .. وكل فكرة عظيمة كانت أو تافهة هي ليست ملكا للفرد ، بل للحشود التي تصدق عميانا بالقوة الجارفة لدى مؤسساتها وأخلاقها ، والتي تصدق أيضا بقوة شرطتها وبرأيها.
ولكن التعرض للوحشية الصريحة الحادة ، والاقتراب من الطبيعة البدائية والانسان البدائي ، يجلب اضطرابات مفاجئة وعميقة في القلب. فبالإضافة لعاطفة تفرد المرء بنوعه ، و إدراكه الواضح لأفكاره الموحشة ، وبالاضافة لعدم وجود العادة المؤتمنة ، تفاقم الوضع بالتأكد من وجود الغريب - الذي هو حتما خطر. وبالإيحاء بالأشياء الغامضة التي يعافها المرء ، ولا يمكنه السيطرة عليها ، والتي تثير باقتحامها المقلق المخيلة ، وتبتلي أعصاب المتحضرين الحمقى منهم والمغفلين.
فمشى كايرتس وكارلير يدا بيد مقتربين من بعضهما كما يفعل الأطفال في الظلام. وما كانا يمقتان هذا الاحساس بالخطر تماما. ذلك الخطر الذي يكاد المرء يشك بوجوده. فواظبا على الكلام بالنبرات التي عهدوها : فيقول الأول (( حالة محطتنا جيدة )) والآخر يوافقه بحماس ويبالغ في وصف محاسن المحطة. وعندما مرا بالقرب من القبر قال كايرتس : (( مسكين هذا)) وقال كارلير (( أولم يمت بالحمى؟)) ثم وقف. فأجابه كايرتس ساخطا : (( قيل أنه كان يعرض نفسه بتهور للشمس. الكل يقول أن المناخ هنا ليس أسوأ منه في بلدنا شرط أن تبتعد عن الشمس. هل تسمعني يا كارلير....أنا رئيسك هنا وآمرك ألا تتعرض للشمس)) قال هذا وهو يمازحه بشأن رفعة منصبه. أما مقصده فكان جادا فيه. لأنه عندما كان يفكر بأنه قد يدفن كارلير هنا ويبقى وحده ، كان يشعر برعشة في وجدانه. أحس أن كارلير هذا أثمن ، هنا في منتصف أفريقيا ، من أي أخ في أي مكان في العالم. فتقمص كارلير الدور وحيّا كايرتس تحية عسكرية وأجاب بنبرة جادة :
(( سأتولى إعمال أوامرك يا سيدي)) ثم انفجر ضاحكا وربت على ظهر كايرتس وصرخ: (( سنجعل الحياة سهلة هنا ..سنستريح ونحمل هؤلاء الهمج مهمة جلب العاج لنا . فلهذا البلد جوانبه الإيجابية أيضا )) وفي أثناء ضحكهما العالي أخذ كارلير يفكر : إن كايرتس لمسكين حقا فهو سمين ولا يهتم بصحته ، ما أسوأ أن أدفنه هنا ، فهو رجل محترم.
وقبيل وصولهما شرفة منزلهما كانا يتحدثان وينعت أحدهما الآخر: (( يا صاحبي العزيز)).
كان الرجلان في غاية النشاط في اليوم الأول ، يعملان بهدوء بالمطارق والمسامير والقماش الأحمر ، ليضعا الستائر ويجعلا بيتهما جميلا آهلا للسكنى. وقررا أن يستقرا مرتاحين في حياتهما الجديدة - وهو الأمر الذي قد بات مستحيلا لهما. فحتى مواجهة المشاكل المادية البحتة ، بطريقة فعالة ، تتطلب صفاء في العقل ونبلا في الشجاعة أكثر مما يتخيله الناس عادة. وهما أعجز اثنين اختيرا لهذه المواجهة. فلقد رعاهما المجتمع ، ولكن ليس بدافع العطف عليهما ، وإنما لحاجات المجتمع الغريبة. فمنعهما التفكير المستقل ، ومنعهما الابتعاد عما اعتاداه ، وصدهما عن روح المبادرة. وكل هذا المنع يتم بالتخويف من ألم الموت. فإن السبيل الوحيد لعيش هؤلاء هو أن يكونوا كالآلات.
فعندما خرجا من تحت رعاية الرجال الذين يضعون الأقلام وراء آذانهم ، أصبحا كمن حكم عليه بالسجن المؤبد لا يعرف التصرف بالحرية إن منحها بعد أمد. وهذان لم يعرفا استخدام استعدادتهما الطبيعية ، بسبب عدم قدرتهما على التفكير المستقل الذي لم يتمرنا عليه أصلا .
وكان كايرتس في نهاية أول شهرين غالبا ما يقول : (( لولا ميلي لما وجدتني هنا )) وميلي هذه ابنته. فمع أنه كان سعيدا كموظف في إدارة البرقيات لـ 17 سنة إلا أنه تخلى عن منصبه ليجمع مهرا لابنته. وقد ماتت زوجته فقامت إخوته برعاية ابنته. ولكنه اشتاق للشوارع والأرصفة والمقاهي وأصدقائه القدامى و الأفكار المستمدة من الأشياء المألوفة ، وأفكار الموظف الحكومي برتابتها وهينها وهدوئها . كما اشتاق للشائعات والعداوات الصغيرة والدعابات في المكاتب الحكومية. وكان كارليرغالبا ما يقول : (( لو أن لي صهرا رحيما لما وجدتني هنا )) فهو قد ترك الجيش وجعل أهله يبغضونه لكسله وصفاقته. حتى أن صهره الغاضب هذا قام بجهد كبير ليدبر له منصبا في الشركة ، كموظف من الدرجة الثانية. وبعد أن تيقن كارلير أنه لا يملك شيئا في العالم ، وأنه لن يستفيد من أنسبائه أكثرمما استفاد ، اضطر أن يقبل هذه الوظيفة لكسب القوت.
وهو أيضا كان ككايرتس قد اشتاق لحياته القديمة ، التي فيها قرع سيوف ومهامز في يوم عصره جميل ، والتي فيها نكت في الثكنات ونساء في المدن العسكرية. وبالاضافة لذلك ، كان الرجل يشعر أنه ظلم ، فمن الواضح أنه قد أسيئ توظيفه ، وهذا ما جعله متقلب المزاج في بعض الأحيان. ولكن الرجلين كانا يعيشان بصفاء في صحبة الغباء والكسل هذه. فبقيا من غير عمل يستمتعان باحساس البطالة وهما يأخذان الأجر. ومع مرور الوقت بدءا يشعران بشيء يشبه الود بينهما.
عاش هذان الرجلان كالعمي في حجرة ضخمة ، يستوعبان ما يتعرضان له مباشرة فقط ( وحتى هذا لا يعيانه تماما ) ولكن لا يستطيعان ادراك النظرة الشاملة للأشياء. فكانت الأرض العظيمة التي تنبض بالحياة ، والنهر والغابة ، بالنسبة لهما فراغا ضخما فقط. وحتى لمعان الشمس لم يمنحهما شيئا يعقلانه. فكانت الأشياء تظهر وتختفي أمام عيناهما بطرق عشوائية مفككة. حتى بدا أن النهر يجيء من عدم ويؤول إلى عدم ويتدفق خلال فجوة. ومن هذه الفجوة كانت تأتي في بعض الأحيان قوارب فيها رجال يحملون الرماح. ثم يتزاحم هؤلاء في فناء المحطة وهم عراة سود يلمعون. كانوا يلبسون أصدافا بيضا ، وأسلاكا نحاسية براقة ، و يثرثرون بفظاظة بتحركات فخمة ، و نظرات وحشية سريعة ، ينظرونها من أعينهم المرتاعة التي تتحرك دائما. كان هؤلاء المحاربون يربضون في صفوف طويلة ، أربعة أو أكثر ، أمام الشرفة في أثناء تحاور رؤسائهم لساعات مع ماكولا بشأن ناب فيل.
راقب كايرتس بعيونه الزرقاء الأمور وهو جالس على كرسيه دون أن يفهم ، ثم نادى كارلير وقال : (( أنظر هنا إلى هذا الرجل ..أنظر!.. وهذا الآخر عن يساره. هل رأيت مثل هذا الوجه؟...يالهذه البهيمة المضحكة)). وكان كارلير يدخن تبغا محليا في غليونه الخشبي القصير ، فقام يمشي مختالا ، وقال وهو يبرم شاربه ويدقق بانغماس متعجرف في المقاتلين:
(( ما أجود هذه الحيوانات ..هل أحضرت عظما ..أأحضرت؟ ...أخيرا!!....أنظر إلى عضلات هذا الرجل ..ذاك الثالث من الصف الأخير. لا أود أن يضربني هذا على أنفي فهو يملك ذراعين قويين.. بعكس ساقيه....لا يمكن تحويل هؤلاء لمشاة في جيش)) ثم قال بعد أن نظر بإعجاب إلى ساقيه : (( أوليسوا منتنين! ...أنت.. يا ماكولا خذ هذا القطيع إلى المخزن
..ثم أعطهم بعضا من الخردة التي تبقيها عندك..فأنا أفضل أن أرى المخزن مليئا بالعظام)).
فوافقه كايرتس وقال : (( نعم!نعم! أنهوا هذا الشجار هناك يا سيد ماكولا ثم عندما تستعد سآتي لوزن الناب.. فيجب أن نكون حذرين)).... ثم وجه كلامه لصاحبه...(( هذه القبيلة التي تعيش أسفل النهر. إن لهم لرائحة....أتذكر أنهم أتوا من قبل .... أوتسمع هذا الشجار؟ .. ما أكثر ما يتحمله المرء في هذا البلد الكلب! لقد انفلق رأسي من هذه الجلبة )).
كانت هذه الزيارات المربحة نادرة ، فلأيام قبلها نظر رائدا التجارة والتقدم إلى فنائهما فارغا تحت ذبذبة أشعة الشمس العامودية.
وفي أسفل الضفة العالية ، يتدفق النهر الصامت ثابتا متألقا. وتتشمس فراس النهر والقواطير على الرمال في منتصف النهر بعضها إلى جانب بعض . والغابات الضخمة تمتد في كل جهة ، وتحيط بمساحة المحطة التافهة .. هذه الغابات التي تخبئ حتما مشكلات الحياة الخيالية ، التي ترقد في فصاحة عظمتها الخرساء. وهذان الرجلان لم يفهما شيئا ، ولم يهتما لشيء ، إلا لمرور الأيام التي تسبق مجيء الباخرة.
ووجدا بعض الكتب الممزقة التي تركها سلفهما في المحطة ، فقرآ هذه القصص الرديئة ، وبما أنهما لم يقرآ مثلها من قبل دهشا منها وتسليا بها . وفي خلال الأيام الطويلة تناقشا مناقشات سخيفة مطولة عن حبكات وشخصيات القصة . فتعرفا في منتصف أفريقيا على ريشيليو ، وعلى دارتاجنا وعلى عين النسر وعلى الأب جوريوت ، وعلى كثر آخرين. وأصبحت كل هذه الشخصيات الخيالية مواضيع للثرثرة وكأنهم أصدقاء حقيقيون . وكانا ينتقصان من فضائل الشخصيات ، ويشكان في دوافعهم وينكران نجاحهم ، كما أنهما صدما من ازدواجية بعض الشخصيات ، وشكا في شجاعتهم. وملأهما وصف الجرائم بالسخط بينما كانت الفقرات الرقيقة المشفقة ، تثير أحاسيسهما. فيتنحنح كارلير ويقول ببسالة :
(( سخافة )) أما كايرتس فيفرك صلعته وأعينه مغمورة بالدموع وخدوده السمينة ترتعش ، ثم يعلن (( هذا كتاب جيد . لم أعلم أن مثل هؤلاء الاذكياء موجودين في العالم ))
ووجدا أيضا نسخا قديمة لجريدة محلية. وقد ناقشت تلك الطبعة بلغة رفيعة ، ما راق لها أن تسميه ( توسعنا الإستعماري ) وتحدثت عن حقوق وواجبات الحضارة وعن قداسة العمل الحضاري. كما مجدت أيضا حسنات أولائك الذين هبوا لجلب النور والإيمان والتجارة للمناطق المظلمة من الأرض.
فلما قرآ هذا الكلام اندهشا وأحسنا الظن بأنفسهما . وفي ليلة قال كارلير مشيرا بيده :
(( قد نجد بلدة هنا بعد مائة سنة بكل ما فيها من أرصفة للميناء ومخازن وثكنات وغرف بلياردو. هذه هي الحضارة يا ولدي والفضيلة وكل شيء. سيقرأ الناس عن رجلين طيبين كانا أول متحضرين عاشا في هذه البقعة بالذات)) فأومأ كايرتس برأسه موافقا وقال : (( نعم .. هذا تفكير يواسينا )) وكأنهما نسيا سلفهما الميت .
وفي صباح أحد الأيام ذهب كارلير مبكرا وعدل الصليب وغرسه . (( كان يجعلني أحدق به كلما مشيت بذلك الطريق )) قال وهو يشرح لكيارتس وهما يشربان القهوة في الصباح.
(( كان يجعلني أحدق به وهو مائل كل هذا الميل. فغرسته منتصبا . وهو راسخ الآن .. ثق بذلك! فقد تعلقت بطرفي الصليب بيدي فلم أحس بأي حركة .. لقد غرسته جيدا ))
وكان جوبليا رئيس القبائل المجاورة يأتي ليراهما في بعض الأحيان. رجل همجي ، رمادي الشعر ، نحيل الجسم أسوده ، يلبس خرقة بيضاء لتغطية عورته ، وجلد نمر بال معلق على ظهره . جاء جوبليا في احدى الايام بخطوات طويلة بأرجله النحيلة ، وهو يستعمل عصى بطوله ، و دخل حجرة الجلوس في المحطة ، وربض على أعقابه عن يسار الباب. وجلس هناك يراقب كايرتس ، ويخطب خطبة من حين لآخر ولا يفهمه الثاني. أما كايرتس فكان يقول له بأسلوب حميم في بعض الأحيان وهو يعمل : (( كيف حال الصورة القديمة )) فيبتسمان لبعضهما. فلهذا المخلوق القديم الغامض محبة عند الأبيضين. فأطلقا عليه اسم الأب جوبليا. وكان له هو أيضا أسلوبه الأبوي معهما وأبدى أنه يحب جميع البيض. فكان يرى أنهم يافعيين جدا وأن جميعهم يشبه بعضهم بعضا ، إلا في المنزلة ، وأنهم إخوان خالدون. وحتى موت الفنان الذي كان أول رجل أبيض عرفه جوبليا جيدا ، لم يزعزع إيمانه بخلود الجنس الأبيض. فقد اقتنع كل الاقتناع أن الغريب الأبيض مثّل أنه مات ثم دفن نفسه لسبب غامض خاص به ، ولا فائدة من السؤال عنه. فلعلها طريقته للعودة إلى الوطن. هذان كانا إخوانه على كل حال فنقل عاطفته السخيفة إليهما. وهما بادلاه الشعوربشكل من الأشكال. فكارلير كان يربت على ظهرجوبليا ويقدح الكبريت بتبذير ليسليه. وكان كايرتس مستعدا دائما ليجعله يشم شمة من زجاجة الأمونيا. وكان تصرفهما باختصار كتصرف المخلوق الأبيض الآخر الذي خبأ نفسه في حفرة في الأرض.
فكر جوبليا بعمق بهما.....ربما كان يشبهان الآخر .. أو أحدهما فقط يشبهه. لم يستطع أن يقرر ولا أن يوضح هذا الغموض ولكنه بقي ودوداً. وتسبب هذا الود في جعل نساء قبيلة جوبليا يمشين صفا خلال عشب كثير القصب ، ليحضرن للمحطة في كل صباح طيورا وبطاطا حلوة وسَكََرا ( وهو نبيذ التمر) وفي بعض الأحيان معزة. فلم تكن الشركة تزودهما بالمؤن بشكل كاف. والموظفان يتطلبان هذه المؤن المحلية للعيش.
فأخذا هذه المؤن التي تفضل بها جوبليا بحسن نية عليهما وعاشا جيدا. وعندما كان يمرض أحدهما بالحمى كان الآخريمرضه بتفان لطيف.
لم يفكرا بالمرض كثيرا مع أنه خلفهما أضعف من ذي قبل وسوّء منظرهما . فصار كارلير عصبيا وغارت عيونه. وبدا وجه كايرتس هزيلا من المرض متراخيا ، فأصبح مظهره غريبا بوجهه المرتخي فوق بطنه الدائري. وبحكم وجودهما معا طوال الوقت لم يلحظا هذه التغيرات التي طرأت تدريجيا على مظهرهما وعلى تصرفاتهما. ومرت خمس شهور على هذا المنوال.
وبينما كان كايرتس وكارلير يتكاسلان في صباح أحد الأيام على كراسيهما تحت الشرفة ، ويتكلمان عن زيارة الباخرة المرتقبة ، إذ بحزمة رجال مسلحين يخرجون من الغابة ويتقدمون نحو المحطة... غرباء عن هذه المنطقة من البلد.
كانوا طوالا هزيلين مكسوين تقليديا من العنق حتى العقب بأقمشة زرقاء مهدبة. يحملون بنادق على أكتافهم اليمنى العارية. فأبدى ماكولا حماسه وخرج من المخزن ، الذي كان يقضي كل أيامه فيه ، ليقابل هؤلاء الزوار الذين دخلوا الفناء ونظروا بثبات حولهم نظرات ازدراء. وقف قائدهم ، وهو زنجي قوي ذو مظهرعازم وعينان محتقنتان بالدم ، أمام الشرفة وخطب طويلا ولوح بيديه كثيرا. ثم كف عن الكلام فجأة. فخاف الأبيضان من شيء في نبر صوته وفي جمله الطويلة التي استعملها . وكأنه ذكرهم بشيء ليس مألوفا بالضبط ، ولكنه يشبه في نفس الوقت حديث المتحضرين. فبدا كلامه كاللغات التي لا تسمع إلا في الأحلام أحيانا. (( أي لغة هذه )) قال كارلير مندهشا.
(( حسبت أن الأخ سيتكلم الفرنسية للوهلة الأولى . على أية حال هي نوع آخرمن الطلاسم التي سمعناها من قبل )).
(( نعم )) قال كايرتس. (( يا ماكولا ...مالذي يقوله؟ ومن أين أتوا ؟ ومن هم؟)) ولكن ماكولا رد بسرعة كالواقف على جمر : (( لا أعلم . جاءوا من مكان بعيد. قد تفهم الآنسة برايس. لعلهم رجال سوء)).
وبعد أن انتظر القائد فترة كلم ماكولا بحدة ، فرد الآخر بهز رأسه. ثم نظر الرجل حوله وعندما لاحظ كوخ ماكولا سار ناحيته. ثم سُمع صوت زوجة ماكولا تكثر الكلام بحماس. وجال الغرباء الست الآخرون في المكان مرتاحين. وألقوا نظرة على المخزن و احتشدوا حول القبر ، ثم أشاروا بتفهم إلى الصليب. وتصرفوا كمن في منزله بشكل عام.
(( أنا غير مطمئن لهؤلاء الرجال.. واسمع يا كايرتس لا بد أنهم من الساحل فهم معهم أسلحة )) هذا الذي لاحظه كارلير الحصيف.
ولم يعجب كايرتس بالرجال أيضا. فكانا هما الاثنان وللمرة الأولى واعيين بأنهما يعيشان في ظروفٍ الغريب فيها قد يكون خطرا ، وأنه لا توجد قوة في العالم تحول بينهما وبين هذا الغريب. فأصبحا مضطربين وملآ مسدساتهما. قال كايرتس : (( لا بد أن نأمر ماكولا أن يقول لهم أن يرحلوا قبل الظلام ))
رحل الغرباء بعد الظهر بعد أن أكلوا وجبة حضرتها لهم زوج ماكولا. فكانت المرأة الضخمة متحمسة ، وتكلمت كثيرا مع الزائرين. فثرثرت بصوتها الحاد وأشارت هنا وهناك نحو الغابات ونحو النهر. أما ماكولا فكان يجلس بعيدا عنهم ويراقبهم ، وفي بعض الأحيان يقوم ويهمس لزوجته. ثم رافق الغرباء عبر واد خلف آراض المحطة ورجع ببطء ، وبدا عليه التفكر. وعندما سأله الأبيضان كان غريبا جدا. فلم يكن يظهر أنه يفهمهما ، وكأنه نسي الفرنسية أو أنه فقد القدرة على الكلام. فاتفق كايرتس وكارلير على أن الزنجي قد أسرف في شرب السّكَر. ثم دار الحديث بينهما عن تناوب الحراسة ، ولكن عند مجيء الليل أمسى كل شيء هادئا ساكنا فعدلا عن فكرة الحراسة ، وناما كعادتهما.
أزعجهما طوال اليل كثرة قرع الطبول في القرى...قرع قريب سريع عميق يكمله قرع آخر من مكان بعيد ، ثم يصمت الجميع. ثم بعد فترة وجيزة تقعقع استغاثات قصيرة من هنا وهناك ، فتختلط ببعضها البعض وتزيد فتصبح نشيطة طويلة ، وتنتشر في أنحاء الغابة.. تقعقع خلال اليل بلا انقطاع قريبة بعيدة ، وكأن الأرض كلها طبل ضخم واحد يدوي باستمرار استغاثة بالجنة. ويتخلل هذا الصخب العميق المروع صرخات مفاجئة ، تشبه أغاني المجانين. فتنطلق الصيحات حادة عالية متنافرة النغمات ، كأنها تندفع فوق الأرض لتبق كل السلام بعيدا عن أعين النجوم.
ولم يرتح كارلير وكايرتس في نومهما. فقد ظنا أنهما سمعا طلقات نار خلال الليل ، ولكنهما لم يتفقا على الجهة التي أطلقت منها. وفي الصباح كان ماكولا قد ذهب إلى مكان ما ورجع ظهرا منه ومعه أحد غرباء الأمس. وعندما سأله كايرتس أين كان تهرب من الأسئلة كأنه أصم .
فتفكر كايرتس في شأنه ....أما كارلير الذي كان يصيد السمك عند الضفة فرجع وعلق وهو يعرض صيده على الآخر: (( يبدو أن الزنوج قد اقتربوا من الهيجان.....ما الذي جد؟... لقد رأيت خمسة عشر زورقا تعبر النهر خلال الساعتين التي اصطدت فيهما )) فقال كايرتس وهو قلق: (( أوليس ماكولا غريب اليوم؟ )) فنصحه كارلير: ((فلتبق الرجال بعضهم مع بعض تحرزا من حصول المشكلات )).
المفضلات