عدت في المساء من ندوة ناقشت جوانب مما يتعرض له الإنسان في هذا العصر من جشع و توحش أرباب الأموال ممن يديرون هذا العالم، إن لم يكن بالحروب المباشرة فبالحروب المستترة من الهرمونات و الإضافات الكيميائية الخطرة... وما تُوصِل إليه من تفشي الأمراض المستعصية و الأوبئة و تهديد الحياة على الأرض.
فتحت التلفاز و جهاز استقبال المحطّات العربية، متنقلةً بينها واحدةً تلو الأخرى، أخبار تقشعرّ لها الأبدان إلى خلاعة تقشعرّ منها النفوس.. أغلقت التلفاز و آويت إلى سريري...
وجدت نفسي بلا مقدمات أتناول ورقة و أكتب رسالةً إلى الخليفة هارون الرشيد!! وضعت الرسالة بجانبي على المنضدة و خلدت للنوم...
كان حلماً غريباً، وجدتني أحمل رسالتي و أطير بها بعيداً في السماء و أضعها في طيّات غيمة بألوان قوس قزح لها جناحان تحلّق في الأفق ثمّ أعود أدراجي و أدخل في جسدي النائم.
حين استيقظت في الصباح لم أجد رسالتي، وجدت الردّ عليها بجانبي على المنضدة كالتالي:
بسـم الله الرحمن الرحيم
من العبد الفقير لله هارون الرشيد
إلى ابنتنا المواطنة العربية هدى بنت الشاعر العربي نور الدين الخطيب
سرّني امتلاكك قدراً من الفراسة العربية و الحسّ السليم حين كذّبت التاريخ المدسوس الذي زرعه أحفاد نقفورس في مناهجكم و صدّقت حواشٍ خجولة تحدثت عن تاريخي الحقيقي و جهادي وورعي.
لكنّي حزنت حين قرأت عن قدر اليأس و الإحباط الذي تعانون منه..
استرسلتِ كثيراً في وصف السلبيات و انقطاع الرجاء!!
عن فلسطين التي ضاعت و بغداد التي تسبح بدماء أبنائها، عن الفضيلة والقيم اللذين انهارا تماماً بعد سقوط بغداد، عن ابن العلقمي الذي أصبح مثلاً يحتذى و نفايات حضارة الغزاة المادّية التي يغسلون بها الأدمغة و العقول و الضمائر،عن العروبة و لغتها التي أصبحت وصمةٌ يتنصل منها أبناؤها، عن تبدّل المفردات حين يدعى الحرامي عصاميا و قاطع الطريق و بائع السموم رجل أعمال و الخائن شاطرا والجاسوس عاقلا متحضّرا و البغي فنّانة.. و الزوجات الأمهات يسهرن مع أزواجهنّ في الملاهي الليلية و الخمّارات شبه عاريات يحتسين الخمر جهاراً يرقصن ويتمايلن و الأزواج يصفقون لهن ويشاركونهن الرقص و الخمر و المجون..
و وحدهم المتمسكون بإنسانيتهم و قيمهم محاصرٌون بالفقر و قلّة الحيلة موصومٌون بالغباء والتمسك بقيم بلهاء لا تناسب العصر.
نحن يا ابنتي نعرف كلّ هذا ...
الأقمار الطبيعية تعكس لنا كلّ ما يحصل على الأرض، أرواحنا خارج نطاق الجاذبية و دورة الزمان، نرى في برزخنا كلّ العوالم و الأجيال والأزمان..
رويداً يا ابنتي ...
ضاعت فلسطيننا إلى حين و سقطت بغداديَ إلى أجلٍ مسمّى ..
الفوضى و الفتن و انهيار القيّم والأخلاق و التنصّل من الهزيمة باللانتماء و تقليد المستعمر لرفع الإحساس بالدونية نتيجةٌ حتميةٌ تتبع الاحتلال.
المهم أنتم العرب الشرفاء ..
أنتم لستم أغبياء فإياكم و الهزيمة النفسية و الشعور بالدونية، نحن أهل العزّة والكرامة، أعرف أنّ أحفاد نقفورس ينتقمون منّي فيكم ، ربّوا أبناءكم على الكرامة و القيم، على التعلّم و الارتقاء، على الاستعداد للفجر الذي سيأتي يوماً..
أنتم تعرفون أنهم ليسوا أحسن منكم و أنّ حضارتكم إنسانية و حضارتهم ماديّة، و كلّ الأدمغة التي صادروها أو ترصدوها من بينكم تثبت هذا ...
تمسكوا بدينكم، دين الوسطية و الفطرة السليمة،احموه من الذين يشوهونه والهجمة عليه بين الإفراط و التفريط، بمكارم الأخلاق و الدين الجميل الذي يستمدّ جماله من جمال صاحبه، و بالعربية التي خرجت من كونها لغة عرقٍ فقط إلى لغة دين لا تصحّ الصلاة مفتاح الإسلام إلاّ بها و اعلموا أنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب، انشروا الوعي اللغوي لتقاوموا الهزيمة النفسية و الشعور بالنقص.
أعلموا أنّ لغتكم هي عزّكم و كرامتكم و بأنكم لن تخرجوا من الهزيمة النفسية إلاّ بالتمسك بها و بزرع الغيرة مجدداً على هذه اللغة المرنة الجميلة، أعيدوا إحياء فنونها كما كنّا نفعل أنا و زوجتي زبيدة، من الخطّ إلى الشعر إلى إحياء المنتديات الأدبية و اعلموا أنكم إن تشبثتم بدينكم و لغتكم فلن تضيعوا أبداً حتّى لو حاربكم أهل الأرض كافةً.
ابنتي المواطنة العربية هـدى
كبوة الحصان العربي الأصيل لن تطول، و الحقّ بأهله ينتصر و الباطل محكومٌ عليه بالزوال ولا يبقى في الأرض إلاّ ما ينفع الناس.
روح زوجتي و ابنة عمّي زبيدة، المرأة الوحيدة التي أحببت معي تشدّ أزركم و لكم منّي و منها السلام
هارون الرشيد
------
مونتريال 2006-06-23
المفضلات