مسرحية
كوكب الوهم
نص مسرحي ملحمي
تأليف:عاطف علي الفراية
جائزة الشارقة للإبداع العربي عام 2000
الشخصيات:-
1- قمحة (البهلوان)
2- منقذ
3- جنية الرصد
4- طاليس
5- حرة
6- النسناس الأكبر
7- خفوش
8- خفافيش وجوقه (مجاميع)
المشهـد الأول
)تبدأ الموسيقى بإصدار إيقاعات بطيئة تنبيهية. ثم يصعد الراوي أمام الستار. يفتح كتاباً قديماً ويقرأ بصوت عالٍ وإلقاء. يفضل أن يكون الراوي هو طاليس).
الراوي: هذه قصة قديمة.. وجديدة.
يعلوها الغبار.. المتراكم مثل تراكم أيام الزمان.
ويغلفها لمعان العصر المدني..
ودائماً يأتي من ينفض الغبار عنها ليعيشها مجدداً
قصة يكتبها الزمن...
ويخرجها في مسرح هذا الكون جميع الخلق
لأنها صوت المطلق... والمطلق دوماً يتشكل
يكبر ثم ينام طويلاً... لكن ينبعث كثيراً
ويحطم كل الأسلاك الشائكة....
يتشكل ويهدم جدار الزمن.
لا تبحثوا للمطلق عن زمان ولا مكان ولا أبطال.
لأن المطلق هو الكل في واحد.
والآن يا سكان كوكب قردستان والكواكب المجاورة
تعالوا... لنشكّل المطلق معاً...
كان ياما كان...
ويكون ياما يكون...
كوكب قردستان.
)يدخل الراوي إلى الكالوس وتفتح الستارة على المسرح. ثلثا المسرح من اليمين في الداخل سور من القضبان تبدو خلفه أرتال من الموز وجوز الهند المعلقة على ما يشبه الأشجار... وفي الثلث الأيسر يبدو الجزء الداخلي على شكل حجب سوداء كثيفة تغطي الزاوية اليسرى بشكل قطري. أمامها ترتسم على الأرض نصف دائرة حمراء قاعدتها ملاصقة للحجب السوداء. تأتي الإضاءة زرقاء خافتة توحي بأن الحجب السوداء تحجب الشمس عن المسرح.
(من يمين المسرح يدخل (بهلوان) يرقص ويغني.(
البهلوان: (يغني)
حقنت دمي حين خارت قوايْ.
وأيقنت أني أعيش طويلاً
أنا البهلوان الضعيف.. أن البهلوان
فليمت كل شيء سوايْ...
وأيقنت أني أعيش...
وقلت بنفسي الجبانة موتوا لأحيا
ولكن....
ولكن....
دمي صار ملكاً لغيري
وروحي الحبيسة تحيي سواي
)يدخل أحد الخفافيش من أحد جانبي المسرح بحركة سريعة ويختفي في الجانب الآخر....(
البهلوان: (يتلفت ويدور حول نفسه) شيء ما مر من هنا... لابد أنه خفاش يا إلهي؛ حتى وأنا أتغنى بضعفي ويأسي واستسلامي يعدون علي كلماتي..! الخفافيش لا تترك شيئاً يمر هكذا
)يسمع صوت جلبه من يمين المسرح فيلتفت يميناً ثم يهرب ويختفي في الجهة اليسرى.
يدخل من اليمين النسناس وجنية الرصد.(
النسناس: القربان... القربان... يجب أن نقدم القربان في موعده هذا العام.. أتدرين يا جنية الرصد. الحياة أصبحت مملة وقاتلة. منذ عامين لم نقدم القربان. لم نذبح أحداً من سكان الكوكب على عتبة مولانا الغوريلا الأكبر
)في الجملة الأخيرة يتجه بيديه ووجهه نحو الحجب السوداء بما يوحي أن الغوريلا الأكبر يختفي خلفها(
ولم يحاول أحد أن يدخل الدائرة الحمراء لنمزقه بأظافرنا... خفافيشك تذهب وتعود ولا تأتي بخبر يشبع شهوتي للدم. أتدرين يا جنية الرصد وكبيرة الخفافيش!. إني أخاف على خفافيشك من قلة العمل أن يصيبها الخمول. فإذا جاءت الريح لم تعد تقوى على مصارعتها.
الجنية: سيدي النسناس الكبير. لا تخف عليّ وعلى خفافيشي من شيء.. ولا من الريح. الريح فضاؤنا الذي نستمتع بالسباحة فيه. ونحن دائماً مستعدون لاستقباله ولكن أرجو يا سيدي أن لا تستعجل الأمور.. فما أجمل أن ننعم ببعض سنين من الراحة والاستجمام بعد كل الوقت الذي قضيناه في النضال (بسخرية).. والكفاح.. من أجل سلام كوكبنا قردستان... (بسخرية أكبر) وراحة بال المعظم غوريلا الأكبر.
نسناس: أنا لا أحب راحة البال كثيراً.. كل هدوء في هذا الكوكب يذكرني بعاصفة.. الوقت عندما يسير بهدوء يصيبني بالكآبة.
الجنية: إنها عامان فقط يا سيدي.. ثم.. كيف يكون الوقت كئيباً وأنا دائماً بجانبك. سيدي لقد كنت دائماً أصنع لك العواصف كنت أقدم لك رؤوس الناس على طبق من ذهب. أرتب لك القرابين الواحد تلو الآخر. والعاصفة تلو العاصفة أوسوس.. أرصد.. أفتح بخفافيشي صدور الناس لآتيك بأخبار ما يفكرون فيه. وبعد كل هذا ألا يحق لي أن أنعم معك ببعض الهدوء قبل أن تهب العواصف من جديد؟!.
نسناس: العواصف… آه كم أشتاق إليها.. الريح.. الريح خارطة الخراب.. ولونها غبش خرافيٌّ يذوب به حليب الرعد.. والبرق جمّعَ بعضهُ زيتاً يقوي شهوتي للدم.. والرعد موسيقى لروحي..
)مؤثرات صوتية تطلق صوت الريح والرعد من المسرح(
أتسمعين يا جنية الرصد الريح قادمة.. لا بد أنها قريبة.
)تقترب الجنية من الكالوس وتشير بيدها فيدخل اثنان من الخفافيش. ينزلان كل من زاوية ويختفيان داخل الجمهور(
الجنية: ستأتيك أخبارها بسرعة.
نسناس: أسرعي أيتها الريح الحمقاء.
)تعود المؤثرات الصوتية من جديد(
الجنية: يبدو أن خاتم سليمان يستجيب لرغباتك أيها الكبير ولكن ما رأيك يا سيدي قبل وصول الريح أن نتدارس أمر القربان. ونخرج بضحية جديدة نتسلى بها قبل وصول الريح.
نسناس: هذا كلام جميل.. رغم أن إحساسي يقول أن لا وقت لذلك. ثم أن البقية الباقية من سكان الكوكب تعمل بجد واجتهاد في خدمتنا.. ولا تكلفنا شيئاً. أنهم ينتجون لنا الموز. ونحن ندفع لهم قشور الموز ليأكلوها. وهم يشربون الماء ملحاً أجاجاً.. بينما ينتجون لنا جوز الهند لنشرب ماءه. نحن معشر القردة نحتاج دائماً إلى من ينتج لنا. فنحن العنصر الذي يجب أن يبقى سيد هذا الكوكب.
الجنية: ولا يجرؤ أحد منهم أن يأكل موزة واحدة حتى وإن ضمن أنه لا يراه أحد. لأن الخفافيش أصبحت هاجساً لدى الجميع. إنهم يرونها أينما التفتوا.. حتى وهم نيام. يحلمون بها. إن كل شيء في عيونهم يبدو خفاشاً يعد عليهم أنفاسهم.
النسناس: الخفافيش هذه إبداع من صنع يديك أيتها الرائعة
)تسر الجنية بهذا الإطراء. تنطلق موسيقى إيقاعية ترقص الجنية عليها. تنتشر الخفافيش على المسرح لتشكل جوقة. وتستمر الرقصة. وتنطلق الأغنية(
خفافيش....
خفافيش....
خفافيش الظلام.
لا تظهر أبداً لا تظهر
تتسلق كل الجدران,
تتعلق فوق الحيطان,
تعرف ما يجري تحت الأرض
وما يجري في بيت النمل
وما خلف الأبواب.
خفافيش...
خفافيش....
لا تحتاج الشمس ولا في الليل تنام
وتجوب الكوكب دائبة والخلق نيام
لا تأكل لا تشرب
لا تتعب لا تلعب
تخترق الأنفس وتسجل حتى الأحلام
خفافيش....
خفافيش....
)يدخل خفوش ويهمس للجنية بشيء. ينخفض إيقاع الموسيقى ويخرج الجميع بإيقاع راقص بطيء(
الجنية: يبدو أن الخفافيش عادت بأخبار الريح أيها النسناس الكبير.
)ينتهي خروج الجميع. ويعود البهلوان إلى المسرح(
بهلوان: (يقفز ساخراً) خراخيش... (يهز الخراخيش بيديه)
خراخيش... إنهم أغبياء هي هيء.. هاهأ.. هو هوء.
لقد سمعت وراقبت كل شيء... ولم يشعر بي أحد.
)قهقهة عالية من خلف بهلوان(
بهلوان: مـ مـ مـ ن… سـ سيدي خفوش
خفوش: أجل أجل.. (يتابع القهقهة)
بهلوان: مم تضحك يا سيدي.
خفوش: من نفسك الغبية
بهلوان: ماذا تقصد يا سيدي
خفوش: أقصد أن نفسك وسوست لك بالمستحيل.
بهلوان: وما هو المستحيل الذي وسوست به نفسي..؟
خفوش: إنك غبت عنا لحظة واحدة.
بهلوان: أنا يا سيدي..!
خفوش: أجل أنت. هل تحب أن أخبرك كم مرة تنفست في الساعة الماضية..؟
بهلوان: لا لا يا سيدي.. ثم إن لي نفساً طيّعة لا يمكن أن توسوس لي بشيء كهذا....
خفوش: أهّية.. نفساً طيّعة؟. فلماذا إذاً كنت تسخر من أغنية الجنية…؟.
بهلوان: لم أسخر يا سيدي.. أنا فقط أبيع الخراخيش.
هي تغني خفافيش خفافيش.. وأنا أغني خراخيش خراخيش... مجرد صدفة.
خفوش: بهلوان... ليس على خفوش.
بهلوان: ثم أنك دائماً تقول إنك صديقي...
خفوش: حقاً أنت صديقي لذا... سأسرب لك بعض الأخبار...
بهلوان: (يقفز بفرح) صديقي.. حبيبي.. سيدي أخبار عن عن عن.... عن ماذا يا سيدي..
خفوش: عن الريح القادمة...
بهلوان: الريح قادمة يا سيدي؟.
خفوش: أجل.
)مؤثرات صوتية تصدر صوت الريح(
بهلوان: من أين وكيف.. ومتى.. ولماذا.. أقصد.. ماذا تعني؟.
خفوش: لا يهم من أين ولا كيف ولا لماذا.. المهم أنك في العاصفة لا يمكن أن تكون محايداً… يجب أن تحافظ على حياتك.
بهلوان: وكيف أحافظ على حياتي؟.
خفوش: بأن تكون معي…
بهلوان: ولكني دائماً معك يا سيدي.
خفوش: ولا تنسَ أنني وقفت بجانبك حين أقنعت النسناس الأكبر بأن لا يقدمك قرباناً للغوريلا الأكبر ويكتفي بجعلك بهلواناً...
البهلوان: أنا لم أنسَ ذلك يا سيدي.
)يطفأ المسرح إلا من دائرة ضوء على البهلوان الذي ينهار ببطء ويدخل في حالة استرجاع. صوت النسناس يقهقه عالياً. وصوت خفوش يقول(:
خفوش: ما رأيك يا سيدي النسناس الأكبر بدلاً من قتله أن نبقي عليه.. ونصنع منه بهلواناً.
النسناس: بهلوان... أجل منذ اللحظة ستكون بهلواناً يسري عنا ويسلينا... ((يتابع القهقهة))
)تعاد إضاءة المسرح ويستمر البهلوان في الانهيار إلى أن يضرب الأرض بقبضتي يديه.(
بهلوان: لم أنس يا سيدي... ولكني لا أحب أن أتذكر.
خفوش: لا أكتمك يا صديقي إنني بذلت جهدي في ذلك الموقف للإبقاء على حياتك لإحساسي أنني سأحتاجك يوماً.
بهلوان: ليتك لم تفعل يا سيدي. لكنت الآن في عداد الأموات وارتاحت نفسي من هذا الطلسم الذي يجثم على صدري.
خفوش: آه.. أنت إذاً غير راضٍ عما أنت فيه. وبهذا تكون مخالفاً لقوانين كوكب الرضى... هل تفكر في الدخول مجدداً إلى دائرة الخطر...؟
بهلوان: قوانين كوكب الرضى؟
خفوش: أجل. أليس كوكبنا قردستان هو كوكب الرضى؟.
بهلوان: أعرف جميع هذه الأسماء يا سيدي. ولكني فقط أعجب من قوانين تحاسب المخلوق على ما يدور في عقله. ألا ترى معي أن كل تلك التهم الموجه لي هي مجرد استنتاجات؟
خفوش: لا فائدة… قلت لك أن نفسك تتململ. ربما هذا بفعل اقتراب الريح...
بهلوان: [يدور في المسرح]
أقبلي إذاً أيتها الريح. لعل فيكِ ما يرفع هذا الطلسم عن صدري.
خفوش: اطمئن... لا شيء يمكن أن يرفع الطلسم عن صدرك سوى أن تكون معي.
بهلوان: ولكني دائماً معك يا صاحبي...
(تدخل الجنية)
الجنية: بماذا تتهامسان؟
خفوش: بكل ما يخدم السلام على هذا الكوكب سيدتي.
الجنية: طموحك يخيفني يا خفوش.
خفوش: على ماذا تخاف سيدتي.
الجنية: على رأسك.
خفوش: ومم تخاف سيدتي على رأسي.
الجنية: قلت لك.. من طموحك.. فالطموح أحياناً يصبح سيفاً يطيع برأس صاحبه.
خفوش: أنا لا أطمح لأكثر من رضى سيدتي كبيرة الخفافيش.
الجنية: أنت تعلم ما يرضيني.
خفوش: ليتني أعلم يا سيدتي.. إذاً لآتين به ولو كان في آخر الكون.
الجنية: رضاي لا يكون إلا بالإخلاص للغوريلا الأعظم.
خفوش: تقصد سيديّ للنسناس الكبير.
الجنية: خفوش.. تأدب يا خفوش.
خفوش: لم أخرج عن حدودي يا سيدتي. ولكن طموحك أنت الذي أصبح أكثر وضوحاً. أنت لا ترين إلا النسناس الكبير. وقد نسيت أنه من سلالة القرود التي لا يمكن أن ترضى لغيرها أن يشاركهم. وأننا مهما علت مكانتنا لديهم. لا يمكن أن يرونا إلا خدماً. ولذلك أعتقد يا سيدتي أننا أولى ببعض.
بهلوان: أرجوكم يا سادتي.. لا تناقشوا هذه الأمور أمامي لأنكم (قد) تحاكموني بعد ذلك بتهمة أنني (قد) أكون أعرف معلومات (ربما) كانت.. خطيرة.
الجنية: ها.. أنت ما زلت هنا!!! معك حق. (بهمس) خفوش… لماذا تتكلم في هذه الأمور قبل أن تتأكد من ذهاب صاحبك هذا...
خفوش:- اطمئني سيدتي.. إنه بلا ذاكرة. إلا ذاكرته تجاه مأساته. وهذه يجب أن يبقى يتذكرها لكي يبقى بهلواناً.
الجنية: فلنجعله ينسى ما سمع
(ملتفتة إلى بهلوان)
ما رأيك أن تسمعنا غناءك؟
بهلوان: (يغني بصوت حزين وإيقاع بطيء)
باحث في سريرة نفسي التي زرتها في رؤاي.
عن صبي هنا كان ثم اختفى في سوايْ.
أي هذا الصبي الذي كنتهُ...
ذات يوم أضاع الطريق إليّ وما عاد يشبه صوتي
صداه الذي خنتهُ....
حائر.. في الذي كنته...
حائر في الذي صرته...
)أثناء غناء البهلوان ترقص الجنية رقصة بطيئة وتدخل من الجهة التي جاءت منها ويتبعها خفوش. بينما يستمر البهلوان في غناءه مستعداً للمشهد الثاني. يسير إلى الجهة الأخرى فيسمع صوت الريح ويتسمر في مكانه.(
المشهد الثاني
ويتسمر في مكانه. تسلط الإضاءة )بعد أن يسمع البهلوان صوت الريح على شكل دائرتين متباعدتين داخل الجمهور حيث يقف طاليس في دائرة وحرة في الدائرة الأخرى. تبدأ الموسيقى بعزف إيقاع صوفي بطيء بعض الشيء. ويمارس طاليس وحرة رقصة صوفية بينما في نفس الأثناء يدور بهلوان في المسرح وهو يقول بلغة إلقائية عالية(
بهلوان:- أسمع صوت الريح. أقبلي أيتها الريح....
حرة وطاليس:- (وهما مستمران في الرقصة)
الريح... الريح... الريح... الريح...
بهلوان:- أشم رائحة الشمس
)يردد طاليس وحرة على نفس اللحن(
الشمس... الشمس... الشمس... الشمس...
بهلوان:- الشمس التي لم يرها هذا الكوكب منذ أن ارتفعت هذه الحجب.... منذ لم نعد نرى سوى الظلام....
أقبلي أيتها الريح
)ينبعث صوت الريح.. مجدداً.. ويهز الستر السوداء.. ثم تعود الموسيقى والرقصة الصوفية. ويردد طاليس وحرة(
الريح... الريح.. الريح.. الريح
)بينما يستمر بهلوان في إلقاءه(
أقبلي لتنثري رماد هذا العالم المحترق....
وتنثري رماد نفسي التي احترقت في نار الجبن والخوف... والحرص على الحياة.
آه... كم تعبت من ثقل هذا الطلسم... وكم
تعب جوفي من أكل قشور الموز... وكم تعب
صدري لكثرة ما تنفس من غبار مالح
ولكثرة ما شربت من ماء مالح.. إن
صدري يبدو كصخرة ملح لا يشققها
إلا زمزم... أين أنت يا زمزم....
)يقلب طاليس وحره الغناء(
زمزم.... زمزم... زمزم... زمزم...
يتابع بهلوان: وكفّي..
)يعرض كفه أمام وجهه وينظر إليها بجحوظ(
كفي كعرجون تيبس دون شمس.
)يقلب طاليس وحرة الغناء...(
قمحة.... قمحة.... قمحة.... قمحة....
)يتوقف بهلوان عن الإلقاء والدوران كأنه سمع صوتهما للمرة الأولى(
البهلوان: ماذا أسمع؟… قمحة؟؟
)يستمر طاليس وحرة(
قمحة... قمحة...
البهلوان: منذ سنوات لم أسمع بهذا الاسم... أتذكر أنني أعرف أحداً اسمه قمحة.. آه.. تذكرت أنه اسمي...
)يصمت البهلوان وينظر إلى طاليس وحرة بدهشة وهما يتركان مقاعد الجمهور وينزلان ببطء وهما مستمران في الرقصة الصوفية حتى يصلا إلى الزاوية اليمنى ويصعدا المسرح وهنا تتوقف الموسيقى والرقصة(
بهلوان: من أنتم.. أنتما..
حرة: نحن أنت... نحن أنتم.. نحن نحن...
طاليس: نحن الذين جاءت بنا الريح.... الريح رقص الكون... إما أن تدمر كل شيء وإما أن تقلب الأمور رأساً على عقب.
بهلوان: أية ريح.. أقصد كيف تقلب... ماذا تقلب ليس ماذا أعني لماذا أو ربما أعني...
طاليس: (مقاطعاً) ماذا بك؟. هل تعاني من شرخ سيكولوجي؟
بهلوان: سيكو ماذا؟.. أقصد من انتم؟.
حرة: قلت لك نحن أنت
طاليس: نحن أنتم...
بهلوان: كيف؟
حرة: اسمع يا قمحة… سأقرب الأمر إليك. نحن الذين تحملنا الريح لكي تعيد بنا الأمور نحو الأفضل. وإذا جاءت الريح بدوننا كانت عواصف مدمرة.
طاليس: لا يكون التغيير إلا بنا (أنا طاليس) أنا الضوء الذي يفتح الأعين على الحقيقة.
بهلوان: طاليس..؟
حرة: وأنا حرة.
بهلوان: أنا أيضاً حر... إلا من بعض القيود.. عفواً تقصدين أن اسمك حرة؟.
حرة: أجل. أنا التي بها تكون القلوب قوية. والأجساد تفنى من أجل الأهداف الكبيرة
لقد جئنا لنعيد الشمس إلى هذا الكوكب.
بهلوان: شمس؟! هنا في قردستان؟!
حرة: نعم.. ثم إنه يجب ألا يبقى قردستان.
بهلوان: ربما يتحول إلى نسناسستان... أو ربما خفوشستان.
طاليس: وما يدريك.. لعله يصبح بهلوانستان.
بهلوان: أتسخر مني قبل أن أعرف من أنت.
طاليس: أنا لا أسخر... ربما أنت الذي لا تعرف ما أعرف.
بهلوان: سيكو ماذا...؟ أقصد… ما الذي تعرف.
طاليس: أعرف أن هذا ليس مستحيلاً.
بهلوان: مستحيل إلا إذا جلس البهلوان مكان الغوريلا الأعظم وهذا مستحيل. إذاً مستحيل يفضي إلى مستحيل.
حرة: ألم يكن هذا سيحدث قبل زمن ليس بعيداً...
بهلوان: كيف ومتى...
طاليس: عندما عرف منقذ سر الحجب وما وراءها.. وكدت أنت تحرقها لولا خوفك وجبنك وطمعك.
بهلوان: (بذهول) هل قلت منقذ...!
حرة: منقذ الذي غادر الكوكب ليعود بنا إليكم. ويغير كل شيء.
ويعيد إشعال النار. النار التي أضعتها أنت.
بهلوان: وأين هو الآن. ولماذا لم يعد معكم.. وكيف عرفتم منقذ وأين وجدكم. أقصد....
طاليس: (مازحاً) ألم أقل لك.. أنك تعاني من شرخ سيكولوجي؟
بهلوان: سيكو ماذا؟.
طاليس: ربما فرغ إيديولوجي…
بهلوان: (بغضب) اسمع يا هذا.
طاليس: بل اسمع أنت وافهم جيداً. إن ما ينتظرك من أحداث يحتاج إلىكل ذرة من عقلك وقوة جسدك. فالأمر لم يعد يحتمل ما أنت فيه مع غيبوبة.
بهلوان: لا أفهم ما تعني ياسيدي.
طاليس: أنت بطل شجاع صنديد وقوي وعاقل ومثقف. فلماذا ترضى أن تعيش بهلواناً.
بهلوان:- وما شأنك أنت؟
طاليس:- عدتَ إلى المناكفة
بهلوان: صدقوني يا جماعة.. إن عقلي أصغر من أن يستوعب ما يجري.
حرة: أنا سأقرب الأمر إلى عقلك. أتذكر قبل سنين قليلة قبل أن تصبح بهلواناً ماذا كنت؟
بهلوان: كان اسمي قمحة.
حرة: وما زلتَ قمحة. المهم. أتذكر ماذا فعلت أنت ومنقذ وكيف أصبحت بهلواناً؟.
بهلوان: أرجوك سيدتي لا تذكري هذا الأمر. لقد كدت أفقد رأسي يومها لولا شفاعة صديقي خفوش.
حرة: خفوش ليس صديقاً إلا لأطماعه.
بهلوان: أرجوك سيدتي...
حرة: ولماذا ترجوني.. لماذا تحب أن يبقى رأسك فوق كتفيك وبين أذنيك ما دمت لا تستخدم عقلك؟
بهلوان: كفى كفى سيدتي قلت لك أرجوكِ.
حرة: ترجوني ماذا... أن لا أذكرك من أنت مع أنك تذكر جيداً. ولكنك تخفي أنينك خلف الشفاه جبناً وخوفاً. وتركب بالصمت في غصة الحلق طوق النجاة. وتلهث خلف الملوحة. حين تلمس العذوبة في النبع ولا تجرؤ. ولا تقتفي أثرمن حجبوا الشمس عنك وعن قومك ومن قلبوا حياتكم ظلاماً وملحاً. ترجوني ماذا؟. أن لا أذكرك بصاحبك الذي فقدته بسبب جبنك وطمعك.. ترجوني ماذا؟. أن لا أذكرك بأنك كنت السيد المنتظر لهذا الكوكب ثم أصبحت بهلواناً كي لا تموت؟. أن لا أذكرك أن الجنية أوهمتك.
بهلوان: (مقاطعاً) كفى كفى.. (مستدركاً) أوهمتني؟
حرة: أجل
بهلوان: بماذا؟
حرة: بأن في صدرك طلسم. وأنك لا تستطيع استعادة قوتك.
بهلوان: ولكنها الحقيقة.
حرة: بل وهم. وهم تلبسك لكي تقضي عمرك في بيع الخراخيش للصغار مقابل قشور من الموز واللعب لإضحاك السادة الكبار. تاركاً الكوكب كله يغرق في الملوحة والظلام. ينتظر منقذ ليأتي بعصا سحرية ويغير كل شيء. ويفجر الينابيع العذبة من صدرك المالح.
)ينهار بهلوان على الأرض باكياً ويضرب الأرض بيديه ويصرخ(
بهلوان: منقذ... أين أنت ولماذا لا تعود وتحضر تلك العصا... لقد مللت هذا الطلسم.
طاليس: العصا وهم أنت اخترعته وأنت صدقته.
بهلوان: ما قصتكم.. العصا وهم.. والطلسم وهم كل شيء لديكم وهم؟. هل ركبكم عفريت اسمه الوهم؟
طاليس: أجل. إن ريح التغيير لا تأتي بمعجزة.
بهلوان: وبماذا تأتي إذاً؟
طاليس: تأتي بأن تضيء رأسك بي. وتملأ صدرك بحرة. لتعرف من أنت. وماذا تريد. ولماذا. وكيف. ومن أين تبدأ.
بهلوان: عدت إلى الفلسفة... سيكو ماذا؟
حرة: على أية حالة مادامت لديك الرغبة في الخلاص فالمسألة سهلة. عليك أن تساعدنا في تخليصك من الطلسم قبل أن يعود منقذ.
بهلوان: مستحيل.. لا شيء يخلصني سوى أن يعود منقذ بالعصا. وأتأكد أنه سامحني.
طاليس: العصا العصا العصا. أنت العصا. أنت الحل أنت أكبر من كل العصي. ليس مطلوباً. منك سوى أن تثق بنا. وأن تتجاوز الحالة الوهمية التي تعيشها.
بهلوان: وهل... سيعود منقذ قريباً؟
حرة: سيعود حالماً تعود أنت.
بهولوان: من أين أعود؟
حرة: من بهلوان.
بهلوان: إلى أين؟
طاليس: إلى قمحة
بهلوان: قمحة مات
حرة: لا لم يمت
بهلوان: قلت لك مات. يا سادتي ما تزعمون أنه وهم هو الحقيقة الواقعة. أما أحلامكم هذه فهي الوهم بعينه. أنا الآن بهلوان ولست قمحة.
حرة: لقد أخبرنا منقذ بكل ما حدث.
بهلوان: كل شيء؟.
حرة: أجل ولكن يجب أن نسمع منك كل شيء وجهاً لوجه.
بهلوان: ولماذا أعيد لكم ما تعرفون طالما أن منقذ أخبركم بكل شيء.
طاليس: لا بأس أن تعيد علينا ما حدث. إنك إذا أعدت ترتيب الأحداث دون أن تنهار تكون قد تجاوزت حالتك هذه. عندها فقط ستخرج مما أنت فيه. وتدرك أن طلسمك وهم. أنت الذي تصنعه بداخلك.
بهلوان: بدأت أفهمكم.. ولكن لماذا وجهاً لوجه. ألا يمكن قفا لقفا.. أو وجهاً لقفا..؟
(يضحكان)
حرة: لا. لا يمكن بالطبع.
بهلوان: ولكن يا سيدي. (وجهاً لوجه) هذه تجلب لنا المصائب.
طاليس: لا تخف.
بهلوان: سيكو ماذا؟.. أقصد لماذا لا تخف
حرة: لأنني بدأت أستيقظ بداخلك. لقد أرسلني منقذ خصيصاً من أجلك. ومن أستيقظ بداخله لا يغلبه أحد.
بهلوان: وكيف لا يغلبه ا أحد
طاليس: لأنها...
بهلوان: أسكت أنت.. سيكو ماذا؟ أقصد دعني أسمع منها وجهاً لوجه.
حرة: حسناً يا قمحة. لأنني النائمة في الصدور. إذا صحوت بداخلك فأنا المعجزة التي لا تحتاج إلى انتظار قدومها مع منقذ.
بهلوان: فهمت... أنت إذاً.. ربما.. أعني أظن أنني بدأت أفهم.
حرة: مادمت بدأت تفهم سأقص عليك الحكاية... لقد كنا في وادي المفاهيم عندما جاء منقذ وأخبرنا بما جرى.
المشهد الثالث
)حرة ما تزال تتحدث. يتحول حديثها إلى مشهد استرجاع (فلاش باك) يطفأ المسرح ثم يضاء النصف الأيمن منه حيث يبدو الجو نهارياً والديكور يوحي بوجود جدول مائي طاليس وحرة واقفان ومنقذ يتقدم ببطء.(
طاليس: من هذا
حرة: إنه منقذ قادم من كوكب قردستان يبحث عن منظومة مفاهيم يعيد بها الشمس والعذوبة إلى كوكبه المالح المظلم.
طاليس: أين وجدته؟
حرة: عند الماء. كان يروي عطش سنين ويذيب جبالاً من الملح المتراكم في صدره. ويبحث عني.
طاليس: أقبل أيها المنقذ.. أخبرنا كل شيء عن كوكبك.
منقذ: ((يدور في المسرح وهو يلقي))
كوكبي.... كوكبي هو الليل
هو الليل الذي يغشى (مشيراً إلى حرة)
قلوب البعيدين عنك... ويأسر أرواحهم
في النهار الذي ما تجلى على كوكبي
منذ أن حجبوا شمسه....
القرود هنالك تبلع كل الفوانيس
تبلغ أقمارنا في المساء....
وتبلع آفاقنا في الصباح
وتبلع أحلامنا العاريات.
والشمس تأفل في مائهم
وأنا كنت أصرخ دوماً.
أيتها الشمس يا أجمل العاشقات.
تغيبين في حلمي الأزلي....
فأهذي
لماذا إذاً اقترب الحلم من أفق الصحو
عانده القبر....
والتفّ حول الوسائد شيطان نومي
وداست سدول الظلام مرابع حلمي
لماذا إذا زارني ملك الصحو
تطردهُ الهمهماتْ.
لأي هزيع من البرزخ السرمديّ
لأي الهواجس يمتد بعد المسافة
ما بين دهري... ودهري
طويل ألا أيها الليل فاصدع بسري.
)متوجهاً إلى حرة(
أنت التي صحوت بداخلي يوماً... وبداخل صاحبي
قمحة... ولكن صاحبي ضعف واستجاب
لإغراءات القرود... فباع نفسه لهم.
طاليس: ولماذا فررت أنت؟.
منقذ: كانوا يأتمرون بي ليقدموني قرباناً. وحين أمسكوا بي لكزت أحدهم فمات. فخرجت أبحث عنكما.
طاليس: هل كنتم ترونهم حين يقدمون القربان؟
منقذ:أجل.
طاليس: هل كانت الخناجر تكبر غضبتها حين تدنو من العنق فتجد فيه رعشة من الخوف؟
منقذ: أجل. فالخوف من الذبح جريمة.
طاليس: هل كان الذبيح يرى صمته ذهباً وصراخه فضة.
منقذ: أجل أجل. ودوماً يرددون. إذا كان الكلام من فضة... فالسكوت من ذهب.
طاليس: لقد عرفت قصتكم.. إنها تحدث في كل الأزمان والأماكن. ولكن دائماً هناك من يتصدى للظلام ويتوق إلى الشمس.
منقذ: ولذا خرجت في طلبكم.
المفضلات