- استيقظ كعادته في ساعة مبكرة... ارتدى ثيابه ذات الألوان الداكنة التي يعشقها .. أخذ يرتشف فنجان قهوته السادة على عجل ثم خرج متجها إلى عمله.
ركب الحافلة التي يستقلها يوميا طوال خمسة عشر عاماً.. جلس في نفس المقعد .. عبر من نفس الطرقات التي حفظها وحفظ تعرجات أرصفتها..
وصل إلى مقر عمله ..ألقى التحية على الحارس الذي يقف أمام البوابة كتمثال بارد ... واصل سيره بخطوات ثقيلة.
دخل إلى حجرة تضم زملائه في العمل أومأ برأسه ثم جلس خلف مكتبه منتظرا قدوم المراجعين ...
تمر الدقائق ببطء .. التفت نحو زملاء العمل.. غرق في ملامحهم.. في تفاصيل وجوهم الدقيقة التي حفظها عن ظهر قلب .. أخذ يستمع إلى نميمتهم الحمقاء وشكواهم التي لم تنقطع يوماً... أمسك الصحيفة وغرق في عناوينها التي لم تأتِ بشيء جديد .
دقائق و تحولت الحجرة إلى خلية نحل مليئة بضوضاء امتزجت بعضها ببعضها لتخرج في النهاية على شكل معزوفة شرقية مليئة بالنشاز.. الصوت الوحيد الذي كان يستطيع أن يميزه من بين كل تلك الأصوات هو صوت "الختم"..الذي يختم به أوراق المراجعين ذلك الصوت الذي يحدد مصير تلك المعاملة بين البقاء أو الفناء ..!
لا يهم ما نوع المعاملة أو من هو صاحبها.. فالختم كالعدالة أعمى !.وهو مجرد جلاد ينفذ عدالة ( الختم).. تمر الدقائق والساعات ولم يراجعه أحد!.
شعر بالتوتر والاختناق .. فهذه المرة الأولى منذ خمسة عشر عاماً لم يسمع فيها صوت طرقات ختمه ولم يمارس مهنته كجلاد.. حاول أن يصرخ على زملاءه لكن صوته لم يسعفه.. انتفض من خلف مكتبه.. أخذ يلوح بختمه في وجوه المراجعين لكن أحد لم يلتفت إليه... بعد قليل يدخل رئيسه في العمل... ينظر نحو مكتبه متسائلا عن سبب غيابه.. يصرخ في وجه زملائه ومديره .. يحاول أن يخبرهم بأنه هنا منذ الصباح وبأنه لم يفارق مكتبه.. لكن أحدا لا يصغي إليه .. يخرج من المكتب مذعورا وهو يتلمس وجهه .. يداه.. يحاول أن يتذوق طعم قطرات العرق المنصبة من جبهته.. يبحث عن مرآة تنقذه من هذا الكابوس..يقترب منها.. يقترب أكثر فلا يشاهد غير صورة ختم .. مجرد ختم!!.
خالد أبوستة
المفضلات