آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: العلماء وقولهم : لا أدري ، من قال : "لا أدري" فقد أفتى "

  1. #1
    أستاذ بارز
    تاريخ التسجيل
    27/09/2006
    المشاركات
    524
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي العلماء وقولهم : لا أدري ، من قال : "لا أدري" فقد أفتى "

    العلماء وقولهم : لا أدري ، من قال : "لا أدري" فقد أفتى "


    كان ومازال بعض العلماء المتثبتين الراسخين في العلم إذا سئل عن قضية ولم يتوثق منها كل التوثق يقول: "لا أدري"، أو "لا أعلم"، أو "والله أعلم"، حتى لا يفتي فيقع في الخطأ ويأثم. وكانوا يُجِلّون العالِم إذا سئل ولم يعرف أن يقول لا أدري. أمّا من يجيب دون تثبت حُبًّا في التظاهر بالعلْم فكانت تنحطّ منـزلته في أعين الناس؛ إذ إنّ السائل يسأل العالِم فإذا أجابه بغير الحق سأل غيره وغيره، حتى تتضح حقيقة السؤال فيعلم أيهم كان مصيبًا، وبهذا ترتفع منازل العلماء الثقات الذين لا يجيبون إلاّ عن المسائل التي يعرفونها كل المعرفة من غير شك ولا لَبس، وتسقط منازل مَن يجيبون دون علم خجلاً من أن يقولوا: لا أعلم أو لا أدري.
    وكان العلماء المسلمون يقولون: « تعلّم "لا أدري" فإنك إن قلت: لا أدري، علّموك حتى تدري، وإن قلتَ: أدري، سألوك حتى لا تدري»(1)، وكانوا يقولون: «لا أدري: هذه نصف المعرفة»(2). وقديمًا كان فلاسفة اليونان على هذا المنهج؛ فقد نُقِل عن سقراط قوله: «إني أعرف أنني لا أعرف»، وكان أفلاطون يقول: «ما معي من فضيلة العلم إلاّ علمي بأني لست بعالِم»، وسُئل أفلاطون عند موته عن الدنيا، فقال: «خرجت إليها مضطرًّا، وعشت فيها متحيِّرًا، وها أنا أخرج منها كارهًا، ولم أعلم فيها إلا أنني لا أعلم»(3). وكان الشعبي يقول: «لا أدري هذه نصف المعرفة»(4).
    ويكون الاعتذار بـ"لا أدري" في القضايا الشرعية أوجب من غيرها، لما يترتب على ذلك من نتائج خطيرة؛ ولذلك كان الشعبي يتحرج من الإجابة عن المسائل التي لم يتحقق منها كل التحقق، فكان كثيرًا ما يقول: "لا أدري". نُقِل عن السيوطي عن القاضي التنوخي: "أنّ الشعبي سُئِل عن مسألة، فقال: لا أدري. فقيل له: بأيّ شيء تأخذون رزق السلطان؟ فقال: لأقول لا أدري فيما لا أدري"(5). وينقل السيوطي رواية أخرى عن كتاب "الأشراف" لابن أبي الدنيا، جاء فيها أنه قيل للشعبي: "إنّا لنستحي من كثرة ما تُسأل فتقول: لا أدري، فقال: لكن ملائكة الله المقرّبين لم يستحوا حين سُئلوا عمّا لا يعلمون أن قالوا: لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(6). وكان العلماء يرفعون مِن قَدْر العالِم المتواضع الذي يقرّ بجهله فيما يُسأل عنه. يقول ابن جماعة: «واعلم أنّ قول المسؤول "لا أدري" لا يضع من قدره كما يظن بعض الجهلة، بل يرفعه، لأنه دليل عظيم على عظم محله وقوة دينه وتقوى ربه، وطهارة قلبه، وكمال معرفته، لأنه يخاف من سقوطه من أعين الحاضرين، وهذه جهالة ورِقّة دين، وربما يُشهر خطؤه بين الناس، فيقع فيما فرّ منه، ويتصف عندهم بما احترز منه»(7).
    وقد حفظتْ كتب الأدب واللغة والحديث روايات عن الصدر الأول في قضية (لا أدري). وقد أفرد ابن عبد البر في كتاب "جامع بيان العلم وفضله" بابًا في موضوع (ما يلزم العالِم إذا سُئل عمّا لا يدريه من وجوه العلم)، وقد بدأه بقول لرسول الله  حين سئل عن خير البقاع وعن شرّ البقاع فقال: لا أدري. فعن ابن عمر  قال: «جاء رجل إلى النبي  فقال: يا رسول الله، أيّ البقاع خير؟ قال: لا أدري، فقال: أيّ البقاع شرّ؟ فقال: لا أدري. فقال: سَلْ ربَّك. فأتاه جبريل  فقال: يا جبريل، أيّ البقاع خير؟ قال: لا أدري، فقال: أيّ البقاع شر؟ فقال: لا أدري. فقال: سَلْ ربَّك، فانتفض جبريل انتفاضة كاد يصعق منها محمد ، فقال: ما أسأله عن شيء، فقال الله  لجبريل: سألك محمد أيّ البقاع خير؟ فقلت: لا أدري، وسألك أيّ البقاع شر؟ فقال: لا أدري؛ فأخبِرْه أنّ خير البقاع المساجد، وأنّ شر البقاع الأسواق»(8). وقد أدّب رسول الله  المؤمنين أن يقولوا بما يعملون، وإذا لم يعلموا أن يقولوا: الله أعلم. فعن ابن مسعود أنه سمع النبي يقول: "يا أيها الناس! من عَلِم منكم شيئًا فيلقل، ومن لم يعلم فليقل لما لا يعلم: الله أعلم، فإنّ من عِلْم المرء أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم. وقد قال الله لنبيه : قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ(9). إنّ قريشًا لما أبطأوا على رسول الله  بالإسلام، وذكر الحديث(10).
    وكان أصحاب رسول الله  يتحرّجون أن يقولوا فيما لا يعلمون، فعن أبي معمر عن أبي بكر الصدّيق  أنه قال: «أيّ سماء تظلّني، وأيّ أرض تقلّني، إذا قلت في كتاب الله بغير علم»(11). وكذلك كان عمر بن الخطاب  يوصي مَن لا يعلم أن يقول: لا أدري. فقد سأل عمر رجلاً عن شيء، فقال: الله أعلم. فقال عمر: لقد شقينا إن كنّا لا نعلم أنّ الله أعلم. إذا سُئل أحدكم عن شيء لا يعمله، فليقل: لا أدري(12). وذكر الشعبي عن علي  أنه خرج عليهم، وهو يقول: "ما أبردها على الكبد، ما أبردها على الكبد، فقيل له: وما ذاك؟ قال: أن تقول للشيء لا تعلمه: الله أعلم(13).
    وكانوا يجلّون مَن سُئل ولم يعلم أن يقول لا أعلم أو لا أدري. فعن نافع عن ابن عمر أنه سُئل عن شيء، فقال: لا أدري، فلمّا ولّى الرجل قال: نِعمّا، قال عبد الله بن عمر: سُئل عمّا لا يعلم، فقال: لا علم لي به(14). وسُئل سعيد بن جبير  عن شيء فقال: لا أعلم، ثم قال: ويل للذي يقول لما لا يعلم: إني أعلم. وكان القاسم بن محمد كثيرًا ما يُسأل فيقول: لا أعلم. فعن يحيى بن سعيد أنّ القاسم قال: «يا أهل العراق! إنّا والله لا نعلم كثيرًا مما تسألونا عنه، ولأن يعيش المرء جاهلاً إلا أنه يعلم ما افترض الله عليه، خير له من أن يقول على الله ورسوله ما لا يعلم»(15). وجاءه رجل فسأله عن شيء، فقال القاسم: «لا أحسنه، فجعل الرجل يقول: إني دُفعت إليك، لا أعرف غيرك. فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه، فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي! إلزمها، فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم. فقال القاسم: والله لأن يُقطع لساني أحبّ إليّ من أن أتكلّم بما لا علم لي به»(16).
    وكان علماء الصدر الأول يفصحون عمّا لا يعلمون باعتداد ودون حرج، ويخشون أن يقولوا على الله ورسوله ما لا يعلمون. فعن عبدالرحمن بن مهدي قال: «كنا عند مالك بن أنس، فجاء رجل فقال: يا أبا عبدالله، جئتك من مسيرة ستة أشهر، حمّلني أهل بلدي مسألة أسألك عنها، قال: فسل. فسأله الرجل عن مسألة، قال: لا أحسنها. قال: فبُهت الرجل، كأنه قد جاء إلى مَن يعلم كل شيء، قال، فقال: فأيّ شيء أقول لأهل بلدتي إذا رجعت لهم؟ قال: تقول لهم: قال مالك: لا أحسن»(17). وكان مالك يقول: «ينبغي للعالم أن يألف فيما أشكل عليه قول: لا أدري، فإنه عسى أن يُهيّأ له خير». وقال ابن وهب: «لو كتبنا عن مالك: لا أدري، لملأنا الألواح». وكان مالك يقتدي برسول الله  في هذا، فكان يقول: «كان رسول الله  إمام المسلمين وسيّد العالمين، يُسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي» (18).
    وعن مالك بن أنس: "كان ابن عباس يقول: إذا أخطأ العالِم لا أدري أُصيبتْ مقاتِلُه". وكانوا يخشون الله تعالى أن يفتوا في أمر فيه شبهة فيوقعهم في المهالك؛ فعن عقبة بن مسلم قال: «صحبت ابن عمر أربعة وثلاثين شهرًا، فكثيرًا ما كان يُسْأل فيقول: لا أدري، ثم يلتفت إليّ فيقول: تدري ما يقول هؤلاء، يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسرًا لهم إلى جهنم»(19). وكانوا يرون أنّ قول الرجل فيما لا يعلم: لا أعلم، نصف العلم. وعلى العالِم أن يقول بما يعلم بعد التوثّق والتحرّي. أمّا إذا جهل فعليه أن يعتذر عن الإجابة بلا أدري أو لا أعلم، قال الشاعر:
    إذا ما قتلت الأمر علمًا فقل به وإيّاك والأمر الذي أنت جاهلُهْ
    وكذلك يقول الراجز(20):
    فإنْ جهلتَ ما سُئلتَ عنهُ
    فلا تقلْ فيه بغير فَهْمِ
    وقلْ إذا أعياكَ ذاك الأمرُ
    فذاك شطر العلم عند العلمَا ولم يكن عندك علمٌ منهُ
    إنّ الخطا مُزْرٍ بأهلِ العلمِ
    ما لي بما تسألُ عنه خُبْرُ
    كذاك مازالت تقول الحُكمَا
    وكانوا يعدّون الذين يتجرّأون على الفتوى أقلَّ الناس علمًا. قال نعيم بن حماد: سمعت ابن عُيينة يقول: «أجسر الناس على الفُتيا أقلُّهم علمًا»(21). وكان الصحابة إذا سُئل أحدهم عن حديث أو فتوى، ودّ أن يكفيه غيره كراهة أن يقول فيخطئ، فعن عطاء بن السائب عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: «أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب محمد ، ما منهم رجل يُسأل عن شيء إلاّ ودّ أنّ أخاه كفاه، ولا يحدّث حديثًا إلاّ ودّ أنّ أخاه كفاه»(22). وكان ابن عباس يقول: «إنّ من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه لمجنون»(23). وكانوا يرون الجريء على الفُتيا في كل ما يُسأل أقلّ الناس عِلمًا.
    روي عن سحنون بن سعيد أنه قال: «أجرأ الناس على الفُتيا أقلّهم علمًا، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم، يظن أنّ الحق كله فيه». وقال أيضًا: «إني لأحفظ مسائل منها ما فيه ثمانية أقوال من ثمانية أئمة من العلماء، فكيف ينبغي أن أعجّلَ بالجواب، حتى أتخيّر، فلِمَ أُلامُ على حبس الجواب؟»(24).
    هكذا كان علماء الصدر الأول، حريصين أن لا يقولوا بغير علم، ولا يفتوا بفتوى فيها شبهة، ويرون في لا أدري ولا أعلم، والله أعلم، منجاة من الوقوع في الإثم، وكانوا يرون أن يقال لأحدهم لا يعلم أو لا يفهم، خيرًا لهم من أن يقولوا ما لا يعلمون.
    ثم جاءت بعد هذا الجيل الصالح أجيال من العلماء في العصور العباسية وما تلاها فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلوةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا(25)، فصار للسلطان مُفْتٍ وقاضٍ مهمته أن يلوي بالنصوص ليخرج بفتوى تبرّر سقطات الحاكمين، وقد يتسابق وعاظ السلاطين في تلفيق الأحاديث التي ترضي الحاكم الجاهل، والسلطان الجائر.
    وصار الأدباء والرواة يتسابقون في ادعاء العلم وأنهم يعلمون ما لا يعلم غيرهم، تقرّبًا للخليفة أو حُبًّا في أن يقال إنهم يعلمون كل شيء ويجيبون عن كل ما يُسألون. فقد جمعوا العلم من أطرافه. من ذلك ما يروى عن المبرّد أنه كان يجيب عن كل ما يُسأل عنه، حتى إنه اتهم بالوضع، قال المفجع البصري: «كان المبرّد لكثرة حفظه للغة وغريبها يُتّهم بالوضع فيها، فتواضعنا على مسألة نسأله عنها لا أصل لها، لننظر ماذا يجيب، وكنّا قبل ذلك تمارينا في عروض بيت الشاعر:
    أبا منـذرٍ أفنيتَ فاستبقِ بعضنـا حنانيكَ بعضُ الشرِّ أهونُ مِن بعضِ
    فقال البعض: هو من البحر الفلاني، وقال آخرون: هو من البحر الفلاني، وتردد على أفواهنا من تقطيعه (قِ بعضنا) ثم ذهبنا إلى المبرّد فقلت له: أيّدك الله تعالى، ما القبعض عند العرب؟ فقال: هو القطن، وفي ذلك يقول الشاعر:
    كأنّ سنامَها حُشِيَ القِبَعْضا
    فقلت لأصحابي: ترون الجواب والشاهد، فإن كان صحيحًا فهو عجب، وإن كان مُختلَقًا على البديهة فهو أعجب»(26).
    وتلفيق آخر للمبرّد، حفظه كتاب "الفصوص" لصاعد بن الحسن الربعي، ففي رواية عن ابن الأنباري قال: «سُئل المبرّد عن معنى حديث نهي عن المجثمة، ما المجثمة؟ قال: المهزولة، فسُئل عن الشاهد على ذلك، فقال قول الشاعر:
    لم يبقَ من آل الوجيه نسمهْ إلاّ عُنَيـز بالفلا مجثمـهْ
    قال: فبلغ هذا الكلام أبا حنيفة الدينوري، فقال: كذب، فعل الله به وصنع، أخطأ التفسير، وكذب في الشاهد، وإنما اختلقه في وقته، والدليل على ذلك أنه لحن في قوله: إلاّ عنيز بالفلا، وتصغير عَنْزة عُنَيزة، لأنها أنثى. وإنما المجثمة: الشاة تجعل غرضًا وتُرمى، وهي المصبورة»(27).
    وفي رواية أخرى ذكرها ياقوت الحموي يظهر فيها كذب المبرّد وتلفيقه، فقد "زعموا أنّ أبا العباس المبرّد ورد الدينَور زائرًا لعيسى بن ماهان، فأول ما دخل عليه وقضى سلامه، قال له عيسى: أيها الشيخ، ما الشاة المجثَّمة التي نهى النبي  عن أكل لحمها؟ فقال: هي الشاة القليلة اللبن، مثل اللَّجِبَة، فقال: هل مِن شاهد؟ قال: نعم قول الراجز:
    لم يبقَ من آل الحُمَيدِ نَسَمهْ إلا عُنَيزٌ لَجْبَةٌ مُجَثَّمَـهْ
    فإذا بالحاجب يستأذن لأبي حنيفة الدينوري، فلمّا دخل قال له: أيها الشيخ، ما الشاة المجثّمة التي نُهينا عن أكل لحمها؟ فقال: هي التي جثمت على ركبتيها وذُبحت من خلف قفاها، فقال: كيف تقول وهذا شيخ أهل العراق -يعني أبا العباس المبرّد- يقول هي مثل اللجبة، وهي القليلة اللبن، وأنشده البيتين. فقال أبو حنيفة: أيمان البيعة تلزم أبا حنيفة، إن كان هذا التفسير سمعه هذا الشيخ أو قرأه، وإن كان البيتان إلاّ لساعتهما هذه. فقال أبو العباس: صدق الشيخ أبو حنيفة، فإنني أنِفْتُ أن أرِدَ عليكَ من العراق، وذكري ما قد شاع، فأول ما تسألني عنه لا أعرفه. فاستحسن منه هذا الإقرار وتَرْكَ البَهْتِ"(28).
    وأذكر حين كنت في زمن الطلب أول حياتي العلمية، كان أستاذنا الدكتور جميل سعيد -رحمه الله- الذي نهلت منه العلم والخلُق والرعاية، كان كثيرًا ما يُسأل فيقول: لا أدري أو لا أعرف، وكنّا نعجب منه وهو العالم الحافظ الذي قلّما تذكر قصيدة إلا وكان ينشدها كاملة، وكان يوصينا ونحن على وشك التخرج إننا سنكون مدرّسين في المدارس الثانوية، فيجب أن نُحضِّر ونقرأ كثيرًا، لأنّ الطالب قد يسأل أسئلة من خارج المنهج، وكثيرًا ما يسأل عن معلومة سمع بها وعرفها، فإذا أجبته بغير ما في ذهنه استهان بك وفضحك، وإذا قلت لا أدري رماك بالجهل. أمّا في الدراسات الجامعية فليس من العيب حين تُسأل ولا تعرف أن تقول: لا أعلم، حتى تراجع المسألة في مظانها ثم تجيب عنها، وهذه أصول البحث العلمي. وكذلك كنّا قد أخذنا بهذه النصيحة الغالية.
    وحين وقفنا على سِيَر العلماء المسلمين وغيرهم وجدنا العلماء الثقات لا يفتون ولا يجيبون إلاّ بما يعلمون هو الصواب، وهو الحق، وهو الصدق. وإنّ مَن يجيب بغير عِلْمٍ طلبًا للشهرة والمباهاة سرعان ما يُبْهت ويُفْضح. وأذكر من حياة الطلب الأولى أنّ مدرّسًا كان يدّعي العلم ويرى من العيب ألاّ يجيب عن كل شيء، وفي أيّ تخصص، وكنّا نسأله فيجيب، وحين نرجع إلى الكتب نكتشف وهمه وخطأه، وصار بعضنا يوقعه في مزالق بأن يسأله عن أبيات شعر للشريف الرضي مثلاً فيقول له: هل هي لأبي العلاء أم للمتنبي؟ فيختار أحدهما ويقول باعتداد هي لفلان. ويُسأل عن قول للجاحظ، فيقال له: هل هو لطه حسين أم للعقّاد؟ فيختار أحدهما ويجيب باعتداد وتعالم، وهكذا حتى فُضِح وسقط، وصار حديثًا للمتندّرين، أساتذة وطلابًا. إنّ في قول: لا أدري، ولا أعلم، والله أعلم، منجاة من الزلل والكذب والفضيحة.
    ونعيد ذِكر ما تقدّم من قولهم الذي فيه حكمة وبصيرة: "تعلّم (لا أدري)، فإنك إن قلت: لا أدري، علّموك حتى تدري، وإن قلت: أدري، سألوك حتى لا تدري"(29). ومَن ادعى وتعالم وكذب، فلا بد أن يُعرف الحق من الباطل ولو بعد حين، وصدق زهير بن أبي سلمى حين قال(30):
    ومهما تكن عند امرئ من خليقةٍ وإنْ خالها تخفى على الناس تُعْلَمِ
    اللهم ألهمنا السداد والرشاد في القول والعمل، وأن نقول ما نعلم ونتجنب الخوض فيما لا نعلم قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(31) صدق الله العظيم.
    ============================
    الهوامش :
    (1) العلموي: المعيد في أدب المفيد والمستفيد، ص57، ط. دمشق، 1349هـ.
    (2) الغزالي: إحياء علوم الدين، 1/61 وما بعدها، ط. القاهرة، 1346هـ.
    (3) ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، 1/53، تح. موللر، ط. القاهرة، كونكسبرج، 1882-1884م؛ الغزولي: مطالع البدور فيم نازل السرور، 1/23، 2/10، ط. القاهرة، 1300هـ؛ وانظر: فرانز روزنتال: مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي، 170، ترجمة أنيس فريحة، ط. دار الثقافة، بيروت، د.ت.
    (4) الغزالي: الإحياء، 1/61. (5) السيوطي: المزهر، 2/315، ط. القاهرة، 1282هـ.
    (6) سورة البقرة، الآية 32؛ المزهر، 2/315؛ وانظر: المخلاة للعاملي، 2، عالم الكتب، بيروت، 1985م؛ والمستطرف للأبشيهي، 1/25، ط. بولاق، 1268هـ.
    (7) ابن جماعة: تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، 42-43، ط. حيدر آباد، 1953هـ؛ والعلموي: المعيد، 57. (8) أخرجه ابن حبّان في صحيحه، 1599؛ والبيهقي في سننه 3/65؛ ابن عبدالبر: جامع بيان العلم وفضله، 2/826، تح. أبي الأشبال الزهيري، ط4، دار ابن الجوزي، الرياض، 1419هـ/1998م.
    (9) سورة ص، الآية 86. (10) جامع بيان العلم وفضله، 2/831.
    (11) نفس المرجع، 2/834؛ وروي مثله عن علي بن أبي طالب .
    (12) البيان والتبيين، تح. عبدالسلام هارون، ط. لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1948م، 1/261. (13) جامع بيان العلم وفضله، 2/836.
    (14) نفس المرجع، 2/835. (15) نفسه، 2/837. (16) نفسه، 2/837. (17) نفسه، 2/838.
    (18) نفسه، 2/839. (19) نفسه، 2/841. (20) نفسه، 2/842. (21) نفسه، 2/843.
    (22) نفسه، 2/1121. (23) نفسه، 2/1123. (24) نفسه، 2/1125. (25) سورة مريم، الآية 59.
    (26) معجم الأدباء، 6/2679-2680، تح. إحسان عباس، ط. دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1993م؛ لسان الميزان، لابن حجر 430-431. (27) لسان الميزان، 5/431.
    (28) معجم الأدباء، 1/260؛ وانظر: لسان الميزان، 5/431-432، ط. حيدر آباد، 1329هـ، مع خلاف يسير في الرواية.
    (29) العلموي: المعيد في أدب المفيد والمستفيد، 57.
    (30) ديوان زهير، 32، ط. دار الكتب المصرية، القاهرة، 1944م. (31) سورة البقرة، الآية 32.
    (بقلم : د/ يحيى الجبوري)


  2. #2
    شاعر الصورة الرمزية د.عمرخلوف
    تاريخ التسجيل
    06/10/2006
    المشاركات
    679
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    أستاذنا الفاضل د.مروان
    سعيد أن أكون أول من يصافح هذا الموضوع الشائق الذي شمل فأوعى
    جزاك الله عنا كل خير

    يا سادةَ الشعر هذا الوزنُ في يدكمْ * عجينةٌ كيفَ شاء الشعرُ شكّلها
    ما بالهُ أثْرتِ الألحانُ صفحتَهُ * حتى إذا عرَضتْ بالشعر أهملها
    جددْ لحونكَ واخترْ ما يروقكَ منْ * إيقاعها ربما أوتيتَ اجملَها

  3. #3
    بنت الشهباء
    زائر

    افتراضي

    أين نحن من هؤلاء العلماء المخلصين يا أستاذنا الفاضل
    الدكتور
    مروان الظفيري

    العلماء اليوم يفتون , ويجولون , ويصولون حسب أهواءهم , وأهواء حكامهم من السلطة ....
    باتت شاشات التلفاز مسرحا مضحكًا لفتاوى العلماء ....
    وللأسف لم نر في يومنا هذا إلا ما ندر من العلماء المخلصين لله ورسوله ..
    أجل والله !!....
    حتى إن من لديه عالمًا قد تتلمذ على يده , نجده يسب عالمًا آخر وينادي بأعلى صوته شيخي هو أعلم منه ... وهو مصدر الفتوى والحكم عنده , ولا يمكن أن أسمع من غيره ....
    أتدري لمَ يا أستاذنا الكريم !!!؟؟؟....
    لأن هؤلاء قلوبهم مغلقة , وآذانهم قد أصابها البكم ..
    وهنا نسأل أنفسنا من السبب في هذا كله !!!؟؟....
    السبب بالتأكيد يعود للشيخ الذي تتلمذوا على يديه ... فكأنه والله يسحرهم بكلامه , ويخلب أذهانهم بصوته .. ولا يرون شخصًا أمامهم وعالمًا غيره ..
    وإذا ما حاولت أن تأتي لهم بحديث أو آية تواجههم بها ... يقولون لكَ بأن شيخهم قال لهم ولا يمكن أن يسمعوا لغيره ....
    الجهل والله نراه بأعيننا في أيامنا وزماننا هذا ...

    موضوع رائع , وبالغ الأهمية أستاذنا الفاضل
    جزاك الله خيرًا , وبارك الله بكَ


  4. #4
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. محمد طاهر حامد
    تاريخ التسجيل
    14/11/2006
    المشاركات
    76
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    بارك الله فيك د. مروان، اختيار جيد لموضوع مهم جدا.
    اللهم علمنا وسهل لنا أن نقول في كل ما لا نعلم "الله أعلم" غير مبالين بانطباع الجاهلين عنا. وألهمنا التثبت في كل مانعلم وأبعد عنا المباهاة والتظاهر بالعلم. آمين.
    مع خالص تقديري واحترامي.


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •