جفـــــــــاء
وهبته لي الأرض هنالك.. وقعت عليه عيناي ممددا على جنبه الأيمن فاغرا فاه عن ابتسامة خجولة.. مر الكثير من قبلي لكنهم لم يحنوا رؤوسهم لالتقاطه، لعلني الوحيد الذي انتبهت إليه لصغر حجمه، ولاختياره مكانا على حافة الرصيف بعيدا عن مواقع الأرجل..
أحسست برقته وأناقته وأنا أقلبه بين أناملي، وشعرت بمسؤولية كبيرة تلقى على كاهلي، فلعل الذي تخلص منه أدرك مدى عجزه عن تحمل ثقل أمانته..
سولت لي نفسي إعادته لمكانه، وتركه يلاقي مصيره المحتوم، ودفعني شجعي للاحتفاظ به، لعلني أجد فيه عونا على تذليل الكثير من الصعاب..
سلخت جلده فتراءت لي معدته الصغيرة ملأى، فحمدت الله أنني لن أتحمل إشباعه، وأسديت الشكر الجزيل لصاحبه الذي يكون قد تخلى عنه متعمدا، أو سقط منه في ساعة غفلة..
أظهر لي وداعة ولطافة، ولم يبد امتعاضا أو نفورا، فرحت أقلبه بين أناملي حتى تأكدت من انصياعه التام لإرادتي، فأودعته الصدارة من قميصي الصيفي ورصعته به كنيشان..
للتو شعرت أنني لم أعد غريبا، وبدأت أجد متعة خاصة في امتداد أناملي تمسح على قبعته اللزجة بين الفينة والأخرى..
استأنست بصحبته، ورأيت فيه الخليل الذي أرسله الله إلي ليسري عني في ساعات الفراغ .. غير أنني أدركت عدم استئناسه هو؛ إذ لاحظت تغيرا في مزاجه، وتثاقلا في استجابته حين مداعبته ..
انعطفت لأحد مقاعد حديقة عمومية، وانصرفت إليه بكلي أفضفض بكل ما يختلج في صدري من مشاغل، فابتسم لي، ووجدته يعيرني سمعه، ويصغي إلي بكل جوارحه.. دغدغت رأسه فأبان لي لسانه الأزرق، معلنا لي استعداده وتأهبه، فسارعت للجمه، ولم أتركه يفضي بمكنوناته، تغيرت سحنته، واضطرب في يدي محتجا عن قسوة المعاملة:
- أتريد منعي من التعبير؟!
استغربت لانتفاضته غير المبررة، ورمقته بنظرات فيها عتب، وزججت به في غيهب جيبي أستغل احترام النظرات التي تقع على محياه، فتنتقل تلقائيا لاحترام حامله..
مددت يدي أتحسسه فتهرّب، وأصخت سمعي لمناجاته؛ فإذا هي زفرات مختنقة:
- هذا قمع!!..ما لمثل هذه الجفاء وجدت؟
تجاهلت فوضاه التي كان يستفزني بها، ووجدت يدي تمتد من حين إلى آخر تلجم لسانه من الاسترسال..
ومرت أيام حبسته فيها في الغرفة التي حجزتها في نزل لقضاء إجازتي، فهزل جسمه، وزال لمعان وجهه، وعلاه غبار ..
عدت متعبا هذا المساء، ومددت يدي أخلصه من قفصه، فتثاءب، ورأيت لسانه الأزرق قد فقد لعابه، فمسحت على رأسه أستنهضه من سباته العميق، فابتسم ابتسامه هادئة، وحملق في عيني فتراءت لي صفرة معاناته، وعرفت أنه يعاني الوحدة والاغتراب.. ووصلني من أعماقه صوت يكاد لا يسمع:
- لو عرفت قيمتي ما كنت لتهينني في عقر داري..!!..
اكتفيت بملامسة جسمه الأملس الناعم، والسماح له بالفضفضة ، والتسلية بالكلمات المتقاطعة على صفحات جريدة مستهلكة.. وما كاد ينهيها حتى دب في جفني نعاس فتثاءب فكري.. ونمت.
استيقظت قبيل شروق الشمس فوجدته قد لفظ أنفاسه منتحرا بعد أن سال كل لعابه فملأ صفحات الجريدة بلعابه الأزرق..ولكن صدى صوته بقي يتردد في أرجاء الغرفة: ضيعتني يا من تدعي أنك من أمة "ن والقلم.."
المفضلات