إهداء إلي فارس منتدى واتا / مصطفي أبو وافيه
رسالة بين أوتارحزينة
ـــــــــــــــــــ
ناولتني بمنقارها الغصن الأخضر المتوهج ، ضربت بجناحيها ترابه الرطب .. تناثرت ذراته ، زحف الضوء اللؤلؤي يلعق بألسنته حلكة جدرانه المتهالكة . أغمضت عيني خشية سبحات النور المتدفق . اعتنقت الذرات والتأمت العظام النخرة المتناثرة ، ودبت إليها الروح . انسللت من جدثي أركض مع الراكضين أصرخ .. أصرخ ، عادت إلي الروح ، ومع أوتار عودي الحزين سأعزف أسعد الألحان .
لم أصدقه ، لعلني لم ألق إليه بالا عندما قال وهو يضمني إلي صدره ويودعني " الحرب بعد يومين "
قلت له :
" منذ التحقت بالجيش لم أر أمك وإخوتك .. اشتقت إليهم ..أبلغهم سلامي "
تحسست زغب ذقني الأخضر النابت ، صحت مع الأطفال : " سنحارب .. سنحارب "تعانق صراخنا مع قرقعة المدرعات والسيارات العسكرية ، لوحنا للجنود مهللين ، غير مبالين بامتعاض الأخرين من الكبار المشروخة وجوههم بالألم .
مزقت العربات العسكرية سكون الجبال الصامتة ، اللابد بين رحمها خطر الموت ، زحفنا علي الطريق اللانهائي غير الممهد ، عما قليل سنطوي الكرة الأرضية ، وأتشبث بسورها العظيم .
مسحت بعيني لافتة المكان ، بدد صوت القائد حجب الصمت : "سنحط الرحال ها هنا .. ستهيئون للتدريب الخاص "
تحلقنا حولها ، والتصقت العيون محدقة فيها ، وقد توسطنا الرائد صبري أمين باسطا خريطة افترشت الأرض كسجادة أزلية ، تغطي أديمها ، تركز عالمنا تلك اللحظات في المساحة المحدودة ، سرحت أفكارنا فيما وراء الخط المنيع ، القابع هناك خلف القناة المغزولة بدماء الأيدي المعروقة ، والأجساد الكابية في أعماق رمالها . تسلل صوته الأجش الصارم كأنه "سيمفونية" تعزف لحن الخلود :
ـ اليوم سنحارب العدو ، ومهمة سريتنا حماية ظهور جنودنا ، والضرب بكثافة مواقع العدو بمدافع الهاون .
زحفت عصاه المدببة علي الخريطة بأناة ، هزتني كلماته :
ـ إنها الحرب . الله يعلم من يصير في حويصلة طائر أخضر ..أو...
دارت مقلتي تمسح الوجوه .. استكنه الغيب ، وإشارات الموت تتدافع .. هذا أم ذاك ؟ .. ثم .. ثم عرجت إلي كينونتي .. أنت !
تردد صوت من أعماقي منتصرا علي الخوف الكامن :
ـ لم لا .
تلاشى شعوري لافظا الأنا ، وامتزجت بالآخرين . ذهبت المعاني ، وأدغمت الكلمات ، فقدت الشخوص والأشياء مسمياتها ، توحدت الأرواح والجمادات . انطلق الركب طافيا على الماء المكدر بأرواح القدماء . ثم غمرنى شعور ما ، أهو التوجس ؟ فالطائرات تمرق فوق أجسادنا بإقدام .. علها الطائرات التي حلقت منذ بضع سنين لتقطف الرؤوس ، ويعدو الجسد قبل أن تنسل الروح ، ويهوي محتضنا حبات الرمال . انداحت أوهامي عندما رعدت الحناجر ، ولوحت الأيدي السمراء :
ـ الله أكبر .. النصر لنا .
عبرنا الضفة الشرقية ، حلقت الراية سامقة بكل الإجلال ، توغلنا لاستعادة الحق المسلوب .. أخذني الكرى ، تكومت حول عيون موسى كجنين يحتمي بالأرض المقدسة ، لذت بالنوم في ظلمات ثلاث .. ضربت بعصاى الحجر فانبجست عيونا ، تقافزت وحبيبتي نغترف براحتينا الماء ، نثرناه في الهواء معطرا بأهازيج ضحكاتنا ، تعانقنا ، جرينا نطوي صحارينا ، نتسلق جبالنا . مرحنا في وادينا الأخضر نقطف بلحه الرطب .
كنت كنسر له آلاف الأجنحة يأبى ترك فريسته ، أصبحت لعبتي المفضلة اقتناص الطائرات زيتية اللون بصواريخنا ، واصلنا تقدمنا والأمن يعمر قلوبنا . مع العصر تناوبت ومختار جهاز اللاسلكي , أعطيته ساعتي . من أحشاء الصمت دوي انفجار هائل ناثرا حمم الشظايا ، انفجر بركان الرمل الغاضب ، تلمست طريقي خلال الغبش القاتم .. رويدا اتضحت الرؤية .
تدفقت الدماء راسمة خطوطا متعرجة ، تروي الأرض العطشى ، تسللت الأرواح حرة تحت عرش الرحمن ، احتضنت جسد مختار المسجى ولثمت الوجه الأسمر . من وراء المدفع تمدد الطوبجي صالح مطاولا رأسه السماء ، محلقا كنسر لا يزال يسعى خلف فريسته .
سعيت بين تلال الرمال الصغيرة مقتفيا صوت الأنين ، جثوت بجوار الرائد صبري أمين .. كان يمسك رأسه المخدوش ، وقد شخب الدم علي وجهه وملابسه ، هتف بكل رمق الحياة :
ـ سنواصل
باركتنا الشجرة المقدسة ، وتلقف أيدينا الجبل المدكوك ، ورنت في أذني أهازيج جودة السحار ووعد الله المذكور ، بأننا سننتصر بعد بضع سنين . واصلنا المسير . تدافعت صيحات الرائد صبري أمين :
ـ سنطهر الطور من رجس العجل أبيس .
قلت لها .. حبيبتي .. سأترسم خطوات الأنبياء ، وأترقب عند تخوم العهد القديم ، أردد صدى يوسف الصديق "أدخلوا مصر آمنين " ، وألثم مواطئ مريم وطفلها الرضيع .لمعت بسمتها ، وهي تلوح بيديها راسمة خطوطا جبلية :
ـ هناك .. فوق الجبل غبر جبينك بصلاة كما فعل موسى كليم الله ، واطعم المن السلوى ولا تحنث ، واصبر صبر هارون .تلبدت السماء بأجسام هائلة ، محلقة عبر الجسر الجوي ، تغير اللون الزيتي ، باللون الأبيض ، والبيج المكدر ، وتلونت السماء بلون الجحيم ، وانسالت حمم النيران من عل ، وصرعت النخلات الخضر ، فتفحم رطبها ممزوجا بالرمل السائل ، قفزت احتمي في حفرة برميلية ، سمعت صراخي آت من بعيد :
ـ "وطور سنين" .. سنواصل .. سنواصل .
انسحبت ذرات الهواء مهزومة ، رأيتني بين الظلمة والنور ، أعزف علي أوتار عودي لحنا حزينا . من أحشاء الصمت عادت نسمات الهواء محزونة ، وسرى معها صوت الرائد صبري أمين ، المكتسي وجهه المعروق بألم اللوعة والفراق :
ـ تحت العرش تحلق حرا طليقا .. أنت .
تلقف صديق عمري عودي المعلق في ركن الحائط ، وتسللت أنامله المرتعشة تتناول الورقة المطوية بعناية ، شم عبقها المعتق ، ضمها إلي صدره ، فردها ، ولامست عيناه الكلمات المسطورة ، امتزجت بها عبراته ، توجت أمي رأسها بصورتي ، انطلقت زغرودتها المشروخة بالثكل .
تطرق إلي صوتها يناديني بين ظلمات اللاوعي :
ـ أخذت عليك موثقا .. ستواصل .
طوحنا ورفيقي أحمد عوضين ذراعينا في الهواء ملوحين ، امتطينا العربة العسكرية ، طوت الأميال محاذية ترعة الإسماعلية إلي السويس . صارعنا السماء الملبدة بالجحيم ، هتفنا من الأعماق :
ـ "سنواصل .. لن نعبأ بالحصار المفروض ، وسنصوم صوم الكليم "
تربصنا بأصحاب السبت ، قبضت علي القنبلة الكمثرية في يدي ، امتطيت السلحفاة المدرعة ، أخمدت حركتها وأنفاس قائدها ، وقف أحمد عوضين كالأسد الهصور أمام أخرى مصوبا مدفعه "الأربي جي" فتلفعت بالنيران ترقص رقصة الموت .
وجدنا زادنا في لذة تحقيق النصر ، وتسليم الجسد والروح وإيداعها قي حويصلات الطيور الخضر ، رددنا أهازيج النصر رنانة :
ـ طهرنا السويس من عبدة الطاغوت .
التفت خلفي ، وقد تطرق لأذني صوت آلفه ، وجدت نفسي أدب بقدمي الأرض ، وأرفع يدي مؤديا التحية العسكرية ، ليحتويني الرائد صبري أمين بفرح غامر :
ـ لم تتلقفك الطيور الخضر بعد !
ناولني صديقي العود ومن بين أوتاره انتزعت رسالتي ، عادت إلي الروح ومن أوتار عودي الحزين ترددت أجمل النغمات ، معانقة الكلمات ، رددها الجميع ، فالحلم أصبح حقيقة ، والضوء اللؤلؤي محا ألسنة حلكة اليأس القاتم .
المفضلات