آن الآوان...
كان صياح الحاج خليل على زوجته يخترق الباب الخشبي العتيق، ليشق سكون الزقاق الضيق، فيما ترك الصبية كرتهم تتدحرج لوحدها، قابعين خلف الباب بأوضاع مختلفة، يصغون بكل اهتمام للشجار الذي يفصلهم عنه هذا اللوح الخشبي المتعدد الألوان بعشرات التراقيع من خشب رقيق وبعض الصفيح، وبين كل عملية ترقيع وأخرى، كانت ثقوب صغيرة حاول الأولاد أن يستغلوها بنظراتهم الفضولية علهم يحصلون على مشهد حيّ من المعركة، لكن محاولاتهم باءت بالفشل...
ولما أحسوا بحركة خلف الباب من الجهة المعاكسة، قادمة من الداخل، فرّوا بعيدا متظاهرين بأنهم يطاردون كرتهم، لكن الصغار نشروا الخبر في الحارة، وما إن خرج الحاج خليل عائدا إلى محله الصغير، حتى بادره جاره بائع الخضرة الحاج بديع قائلا: اخزِ الشيطان يا رجل!
مرت دقائق قليلة على مغادرة هذا الجار حتى قدم الفرّان أبو خضر يخفف عنه قائلا: صحتك أهم من كل شيء يارجل!
ضرب الحاج خليل كفا بكفّ وقال: لا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم...
مع نهاية جملته دخل عليه جاره أبو وليد لائما: والله الحاجة بديعة لا تستحق منك كل هذا الصراخ بعد كل هذا العمر!
وفيما كان يحار بأمره، طالبا من الله أن يعينه على الصبر الذي يتغالب مع حنقه في سريرته، كاتما غيظه، كانت عيون الصبية أمام المحل تقدح كالشرر، تتربص به، تراقب كل حركاته بجرأة، لم ينهرهم، ولم يطلب منهم مغادرة المكان، بل نظر إليهم مليّا، ثم نقل طرفه إلى "القطرميز" الزجاجي على يمينه، والمنتصب بثبات بما علق عليه من غبار كثيف زادت من سماكته ومقاومته على قهر السنين، لا تستطيع العين المجردة أن تدرك ما يحويه، لم يغيّر مكانه، لا يفارق هذه المنضدة المثلمة سطحها كالأخاديد، مسترخيا بما حمل عليها...
ترك الحاج خليل يده تغوص من خلال الفوهة الواسعة في بطنه الواسع العريض، ليعود منها ممسكا ملء قبضته بقطع "السكاكر" الصغيرة، فيمشي ثلاث خطوات باتجاه الباب، ليصير قبالة الأولاد فيعطي كل منهم قطعة، وبسرعة البرق ينصرفون عن واجهة المحل، إلى الطرف الآخر من الزقاق، فيحمد الله ويشكره، أن أعانه عليهم، لكن الأصحاب ما يزالون يأتون يستفسرون ...يستعوذون بالله من الشيطان الرجيم، ومن شر الوسواس اللعين، فجلس على مضض شارد البال يرد على أسئلة الغيارى والمهتمين، كل رجال الحارة علموا بشجاره مع زوجته، وجميعهم قدموا لتهدئة الخواطر، وأدرك أن بيته الآن يعجّ بالنسوة للغرض نفسه، وللأحاديث هناك مع نسوة الحارة نكهة أخرى، وشروحا أخرى...
فأقسم بالطلاق ألا يتشاجر ثانية مع زوجته قبل أن يفتح الباب ليطل منه على الحارة وليتأكد أن الزقاق خال من الأولاد...
غابت الشمس، همد الزقاق، فأغلق محله، وانعطف بطريقه عائدا إلى البيت باتجاه محل "أبوحسن" فاشترى كيلو غرام من "حلاوة الشميسة" فقد أوصته زوجته منذ يومين بأن يحضر لها شيئا منها فهمس :
كل شيء بأوان، والآن آن الآوان ا...
د. أسعد الدندشلي
المفضلات