آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 9 من 9

الموضوع: مقابلة صحفية

  1. #1
    عـضــو الصورة الرمزية ماجدة ريا
    تاريخ التسجيل
    02/12/2007
    العمر
    56
    المشاركات
    159
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي مقابلة صحفية

    امتشقت قلمي، حملت بيض أوراقي، خطوت نحو تلك البوّابة الزرقاء الكبيرة حيث تلج منها إلى ممر عريض يفصل حديقة المنزل إلى قسمين...
    رأسي مثقل بكثير من الأسئلة الحيرى التي تبحث لها عن جواب، فقد حضرت إلى هنا لأجري مقابلة مع أم ياسر، الشهيد الذي سقط في العملية النوعية الأخيرة...
    لكم كنت أشعر بنهم لسماع أي كلمة ستقولها، ومع ذلك فقد كانت خطواتي بطيئة... وتساءلت في نفسي "هل هي الهيبة من أم الشهيد؟! أم هي رائحة التراب التي تفوح من الأرض فتخترق عظامي! لكم أحب هذه الرائحة أكثر من أي عطر آخر ـ هل لأن الإنسان من تراب وإلى التراب يعود؟ـ لست أدري...." أخذت نفساً عميقاً حتى امتلأت رئتاي، وأنا ما زلت أتابع خطواتي باتجاه الباب الرئيسي للمنزل.
    السماء ملبّدة بالغيوم الداكنة، لم تفرغ كل حمولتها من المطر، وقد لفتتني تلك القطرات التي لا زالت تزيّن الأغصان العارية كأنها دموع الندى... وسنديانة عتيقة وقفت بكل شموخ إلى جانب الجدار زاد المطر اخضرارها توهّجاً حتى بدت كجوهرة خضراء...
    تعانقت ألوان الشتاء في هذه الحديقة، وأكسبها كانون لون النار، إلاّ شجيرة منها أبت إلا أن تبقى في ألق.. تفتّحت ورودها نديّة بلونها الزهري يتحدّى برد كانون وقسوته.
    استغرق مني هذا الممر القصير كل هذه الدقائق، وصلت أخيراُ إلى الباب، نقرت نقرات خفيفة ، انفتح ... وظهرت منه صبيّة صغيرة قادتني إلى حيث تجلس والدتها..
    شعرت بالرهبة من جو تلك الغرفة، أتراها ليست كباقي غرف الجلوس؟ "مقاعد أنيقة تنم عن ذوق رفيع، وديكور رائع على الرغم من بساطته يجعل النفس في حالة سكون غريب، لا .. ليس هذا هو السبب بالتأكيد!... ربما تلك المرأة التي وقفت تستقبلني؟"... امرأة في العقد الخامس من العمر، بدأت بعض التجاعيد الخفيفة تتسرّب إلى خطوط وجهها، دون أن يمنعه ذلك من أنّه يشع بنور غريب تجعل الناظر إليها ينجذب لتأمّل تلك القسمات...
    بعد السلام والتحية، جلست قبالتها، وشرعت في تدوين كل كلمة تلفّظت بها، وحرصت إلى أن أشير إلى اللذة التي كانت تتحدّث بها عن صفات ومآثر الشخص الذي طالما أحبّته ولا زال يسكن الفؤاد...
    وفي الختام كان سؤال: "ما هي أعز أمنية لديك الآن؟"
    دمعت عيناها وبصوت أجش جعل القلم يرتعش في يدي قالت "أتمنى أن أستطيع الذهاب إلى المكان الذي استشهد فيه، وأزرع وردة هناك!"
    لم أستطع أن أمسك دمعتين سالتا على وجنتي وأنا أردد "أتمنى من الله أن يحقق لك امنيتك هذه!".
    لقد استشهد داخل المنطقة المحتلّة في الجنوب.. وبدا الأمر كأنه شبه مستحيل!.
    ***
    بزغ فجر الخامس والعشرين من أيار (مايو) لعام 2000، محمّلاً بعبق أريج الإنتصار والتحرير، ودحر العدو عن معظم أراضي الجنوب...
    الناس يتدافعون باتجاه الحلم، كل يريد أن يبارك أنفاسه بتنشق هذا الهواء الذي حرموا منه طويلاً..
    لم أنسَ أمنية تلك المرأة، وقرّرت أن أشهد تحقيقها، وقد اتخذ المعنيون الترتيبات اللازمة لأخذها إلى ذاك المكان الذي يصعب الوصول إليه..
    وجدتني أقف أمام تلك الدار مرّة أخرى وكان الخبر قد سبقني إليها، فها هي المرأة الخمسينية بكل وقارها تقف في الخارج، تنتظر كأننا على موعد، موعد تحقيق الحلم.. والأمنية التي حامت في قلبها لسنوات، أرض الحديقة تموج بالإخضرار، وقد انبعث عطر ورودها التي تلوّنت بلون العيد في كل مكان يعطّر الأجواء، واستدفأت بأشعة الشمس فانعكست إشعاعاتها أنوار فرح تبلسم الجراحات، وتُشعر الناظر إليها بنبض الحياة.
    لا زالت السنديانة العتيقة تقف بشموخ قرب الجدار ينبعث من داخلها زقزقات وتغاريد، تردّد حكايات النصر مع فرح الربيع!
    تلاقت عيوننا، ابتسمت، فبادلتني الإبتسام، وما لبثت أن احتضنتني بحرارة ثم نظرت في وجهي وهي تقول بصوت أجش " جئت تشهدين تحقيق الأمنية؟!"
    هززت رأسي علامة الإيجاب، وانطلقنا معاً في السيارة التي كانت تنتظرنا عند المدخل.
    السيارات تسير في قوافل باتجاه الجنوب...
    القرى الجنوبية تعيش عرس التحرير...
    الناس يعقدون حلقات الدبكة الشعبية في الطرقات والساحات...
    ولسان حال النساء أهازيج وزغاريد...
    من وقت لآخر كنت أسرق التفاتة إلى وجه المرأة التي تجلس بقربي، كانت هي الأخرى تحدّق من نافذة السيارة في كل ما يجري فيشعّ من عينيها نور غريب يضيء قلبها.
    بدأت السيارة تتنحى عن الطريق الرئيسي لتدخل في طرقات فرعية، إلى أن وصلنا المكان المقصود.
    توقّفت السيارة... ترجّلت " أم ياسر"، وبشكل تلقائي جثت على ركبتيها، مدّت كلتا يديها إلى التراب، حضنت من حبّاته ما استطاعت، رفعتها إلى وجهها، شمّتها بملء رئتيها.. صاحت: "لا زالت رائحتك ها هنا يا ولدي، إنّي أشمّها... أحسّها... أرى روحك وأرواح الشهداء يفتحن بوابات التحرير... يتقدّمن الناس... يهلّلن يكبّرن... أشعر أن عرسكم اليوم أكبر من عرسنا، وفرحتكم أكبر من فرحتنا... أنتم الأحياء... أنتم الأعلون..."
    كانت تتلمّس كل ذرّة من ذرّات التراب الموجودة في ذلك المكان، وتحتضن صورته في عينيها...
    قلبي ينبض بعنف، وحواسي لا تكفيني لاستيعاب ما يحدث... بقينا نراقب حركتها العفوية، وكلماتها التي انطلقت دونما تحضير، لتفيض بمشاعر جيّاشة.
    حملت شتلة الورد التي أحضرتها معها، وغرستها في تلك البقعة، سمعت الأرض تتجاوب مع هذه المرأة
    تنهّدت الأرض
    ارتعش التراب
    نادى الصدى
    أهلاً بالوافدين
    ولّى العذاب
    انبلج الفجر
    وابتسم الندى
    في حضن الياسمين
    أيا زائراً... انظر في المدى
    حدّق.. ماذا ترى؟
    دقّق في رجع الصدى
    أنا الأرض... أنا الأرض
    أرأيت أنهار العسل واللبن؟
    والظلال الوارفات والحور العين؟
    أوتشعر أن في سمائي جنة عدن
    يقطنها شبّان في النعيم خالدين؟
    فهنا جرح مقاوم، وهنا قضى شهيد، وآخرين... آخرين
    طهّروني بدمائهم من رجس الغاصبين.
    ماجدة ريا


  2. #2
    أستاذ بارز الصورة الرمزية الحاج بونيف
    تاريخ التسجيل
    07/09/2007
    المشاركات
    4,041
    معدل تقييم المستوى
    21

    افتراضي

    أختي الماجدة/ ماجدة ريا
    تحية طيبة
    قصة بأسلوب قوي، تبعث الغصة في الحلق، وتنزل الدمع من العين..
    تصوير دقيق لمشهد من المشاهد الكثيرة التي تتكرر في الأماكن الساخنة التي يسقط فيها الشهداء كل يوم.
    بأمثال هؤلاء الشهداء تتحرر الأوطان..
    أهنئك على هذا النجاح.. وأتمنى لك المزيد من التألق ..
    خالص التقدير.نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


  3. #3
    عـضــو الصورة الرمزية مجدي السماك
    تاريخ التسجيل
    06/09/2007
    المشاركات
    602
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رائعة

    رائعة ..اعجبتني جدا..لغو شيقة جميلة ..فكرة رائعة .
    دمت بخير


  4. #4
    عـضــو الصورة الرمزية ماجدة ريا
    تاريخ التسجيل
    02/12/2007
    العمر
    56
    المشاركات
    159
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    الأخ الكريم الحاج يونيف
    شكراً لك على هذا المرور الجميل
    وعلى الكلمات الطيبة والمشجعة
    ولك مني أطيب التحيات مع كل التقدير والإحترام


  5. #5
    عـضــو الصورة الرمزية ماجدة ريا
    تاريخ التسجيل
    02/12/2007
    العمر
    56
    المشاركات
    159
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    الأخ الكريم مجدي السماك
    شكرأ لك على توقفك هنا
    أطيب تحياتي مع كل التقدير والإحترام


  6. #6
    كاتبة / عضو المجلس الاستشاري سابقاً الصورة الرمزية فايزة شرف الدين
    تاريخ التسجيل
    16/10/2007
    المشاركات
    1,325
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيالأخت العزيزة / ماجدة
    شعرت بنبض قلبي المنفعل ، وقد أخذتينا في رحلة إلي أم الشهيد .. تلمست الزرع الأخضر ، وعشنا مع وصفك الرائع عندما التحمت الطبيعة مع المشاعر الجياشة .. لقد عشت أيضا بعد حرب التحرير ، لحظات الاستشهاد في الجنوب اللبناني المناضل .. عندما قاوم حزب الله بقوة الإيمان .. العدو الإسرائيلي ومن وراءه عديد من الدول تكالبت عليه .. لكنه بعون من الله سحق مخطاطاته للنيل من الجنوب .. كنت أشعر كما ، شعرت وأنا أقرأ نصك .. بهذا الألم وتلك الغصة .. الممتزجة بالفرحة .. عندما كانت تتوالى انتصارات المقاومة .. قصتك الرائعة الحية .. الموصوله بروح الشهيد وقد سكنت حويصلة عصفور أخضر ، لتستقر تحت عرش الرحمن .
    أحببت قصتك جدا جدا .. فلك أجمل التحية


  7. #7
    عـضــو الصورة الرمزية خالد ابراهيم
    تاريخ التسجيل
    12/03/2007
    المشاركات
    247
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الأخت العزيزة ماجدة ريا
    مسلمة عربية بامتياز
    مراسلة صحفية بامتياز
    قاصة وروائية بامتياز
    أشعر أن عرسكم اليوم أكبر من عرسنا، وفرحتكم أكبر من فرحتنا... أنتم الأحياء... أنتم الأعلون..."
    ماجدة
    تعظيم سلام
    مع شكرى وتقديرى
    خالد ابراهيم


  8. #8
    عـضــو الصورة الرمزية ماجدة ريا
    تاريخ التسجيل
    02/12/2007
    العمر
    56
    المشاركات
    159
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    أختي العزيزة فايزة شرف الدين
    أسعدني جداً تفاعلك الجميل مع هذه الأجواء
    أشكرك على هذا المرور اللطيف
    ولك مني كل التقدير والإحترام
    أطيب تحياتي


  9. #9
    عـضــو الصورة الرمزية ماجدة ريا
    تاريخ التسجيل
    02/12/2007
    العمر
    56
    المشاركات
    159
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    الأخ الكريم الأستاذ خالد ابراهيم
    أشكرك جداً على كلماتك المشجّعة
    كما أشكرك على هذا المرور الجميل
    أطيب التحيات مع كل التقدير والإحترام


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •