كلّما قررنا أن نقترب
أن نثري أرواحنا باللقاء
رجعنا لطقوس انتظار...؟؟!!
طقوس من أجل ذاكرة تنتظر...
منتظرا بلهفة من أضاع روحه...زرع الطريق بخطوات مرتبكة تحار أين تذهب وقد اختلط يمينها بيسارها...
أمسك"سيجارة"بيده وراح يعصرها بين أصابعه حتّى تهاوت فتاتا قبل أن يشعلها...دفنها أسفل ناظريه ...وتناول الأخرى بعصبية حائرة...وأشعلها بسرعة وبدأ بإفراغ روحها بين شفتيه بلهفة عاشق يغزل قبلة0
لم يترك لها فرصة الخروج من شفتيه إلا وهي رماد تناثر حتّى على معطفه الأسود
وكان للانتظار أن يأكل أخواتها بنفس الطريقة...!!
فجأة...توقف عن ممارسة طقوس انتظاره وبدأ يسعل بطريقة مخيفة لفتت أنظار من حوله ...وإذ بفتاة خجلى تقدّم له الماء ليهدّئ سعاله...
تناول الماء وشرب ما أسكت سعاله وأعاد الحافظة إلى الفتاة وهو يشكرها بإيماءة صغيرة ثم عاد إلى تناول "سيجارة"أخرى...
لم يلتفت إلى شعرها الذي استطال حتّى عانق خصرها...
لم يقف لحظة أمام عينيها اللتين ملئتا بدموع الخيبة من ردة فعله...
لم ينتبه حتّى إلى عطرها الّذي انتقته بعناية تدهش كل من مرّت بهم...
جاءت خجلى ...وذهبت خجلى.
أمّا هو فمازال منتظرا ...يسائل الأرض أن تطوي طرقاتها وتعصر مسافاتها حتّى تجمعه بتلك الغائبة.
يرجو السماء أن تمطر ...علّها تتعثر بمظلته الّتي ظلّ وفيّا لها منذ أول لقاء جمعهما...
وبين لحظة وأخرى يلقي نظرة فاحصة على مدخل المكان الّذي زرعا فيه جذور حبّهما...منتظرا أن يتمخض بولادتها حبّا يغسل الخوف من قلبه !
كان يخاف من عدم حضورها لرؤيته مجددا كما وعدت...
كان يخشى أن تركل ذكراه بذاكرة أخرى...
وكان يأمل في بقائها على قيد الوفاء لذاكرته الّتي تحتضنها دون سواها
وكان...وكان...
*** *** *** ***
في نفس المكان وعلى بعد خطوات ...ورائحة شجر اللوز تغمرها...
كانت هي ترقب حبيبها ينتظر وصولها للملمة جراحه
وعلى خديها يرتسم شحوب الموت كلّما تناول "سيجارة"تطفئ لهيبه
كانت تحسّها تحترق في قلبها وتتناثر ككحل ضاع من عينيها...!!
رمادها يذكرها بأولئك الّذين شهدت طقوس حرقهم عندما كانت في بعثة علمية إلى الهند...
كان النّاس هناك يوصون بأن تحرق أجسادهم بعد الموت ...أو ربّما كانت تلك تقاليدهم الّتي يعتنقون...
فمنهم من تنثر رفاته في المياه لتحملها إلى نعيم رطب...
ومنهم من تبقى حبيسة قارورة نفيسة يحتفظ بها المحبّون كتميمة تحجب النّسيان عن ذاكرتهم...
منذ أن رأت ذلك المشهد وهي ترى في رماد "السيجارة"موتا يتناثر في كلّ شيء حولها0
كانت قد طلبت منه مرارا أن يترك هذه العادة القاتلة...ولكنّه كان يضحك من تعليلها قائلا:( عمر الشّقي بقي...!!)
كانت تسرح مع تفاصيل الذّاكرة وهذا المشهد المؤلم ....عندما استحكم السّعال من أنفاسه وجعلها متقطّعة تتأهب للرّحيل ...لحظتها أحست وكأن روحها هي الّتي تحاول الخروج من صدره ...وشعرت باختناقه يخترق صدرها ويحكم القبضة على قلبها الّذي انكمش على نفسه رافضا أن يمنح أيّ قطرة دم لجسدها قبل أن يصافح الهدوء صدر حبيبها...
وفي غفلة من شعورها وجدت نفسها على بعد أنفاس منه...
وقد اقتربت يدها من الهبوط كحمامة على ظهره...
ولكنّها فوجئت بذات الشعر الأشقر تقدّم له الماء بحبّ يفوح من يديها فيجعل لقطرات الماء رائحة زكمت أنفها...
وعندما هدأ سعاله تراجعت بخطواتها إلى موقعها السّابق...وراحت تمعن الانتباه إلى ردود فعله تجاه كل هذا الجمال والحبّ الّذي قدم له بشربة ماء.
وعندما لم يلق بالاً لكلّ هذه القدسيّة الّتي مرّت بحزن أمامه...
أدركت أنّه مازال بانتظارها...
(لقد طوت الأرض المسافة مسبقاً...ويفصلني القليل من الخطوات حتّى أرتمي في عتمة معطفه الدّافئ ...وأغمر جسدي برائحة الموفورة بالحبّ
الجارف...
وهاهي السماء تلملم ما بعثر من غيومها وتعقد قرانها لتلد مطرا يغيث لقاءنا بمظلته التّي أحب...
لن آتي من المكان الّذي يأكله بأطراف عينيه ...وإنّما سأباغته من وراء ظهره حاملة له حبّي على طبق من ياسمين أنثره على معطفه الأسود لأمحو رماد الموت الّذي سكنه
سأذهب لأمنحه رؤيتي مجددا أنا الّتي عاهدت نفسي ألا أفعل...
وسأعقّب على هامش ذاكرتي الّتي لم تنتظر أحدا سواه:
((لم أكن يوما إلا لأجله...))
كانت تعيش في سبات اللحظة ...وترفل بأحلام لقاء قريب يبعد عنها خطوات...عندما سئم الانتظار...ورحل يجرجر دخانه
وأذيال الخيبة...!!
وقفت مكانه ...وتجمع رماده ...وتلثم رائحته
وتتابع طقوس انتظاره...!!!؟؟؟
غفران طحّان
المفضلات