الثقافة في زمن الغبن الثقافي
رحماك يا زمنا كانت الثقافة كحسناء ليس في الحي من ينافسها في حسنها وجمالها ، وقد تبارز من اجلها الفرسان بالرماح والسنان ، وتسابق إليها العرسان بالمزايدات في المهر والهدايا الحسان ، زمان كانت الثقافة تأتينا من الشرق على صفحات الكتب والمجلات ، التي كنا نتلقفها قبل ان تنزل الى الأسواق ، كما تتلقف الحيتان الطعم قبل ان يرسوا في الأعماق . ولم يكن ما يصل إلينا يغنينا من جوع الى القراءة ،او يروينا من ضما الى العلم والمعرفة ، ولم تكن أزمة الثقافة يومئذ أزمة قراء او قراءة ، ولكنها كانت أزمة كتاب وكتب
وتعود اليوم يا زمان الغبن الثقافي ، فبأي عيد عدت وقد حملت لأهلك النادر من الأصداف والنفائس، وجئتهم با غلى الدرر الكامنة وبأجمل العرائس . فلما لم تجد لأصدافك ودررك خبراء في القيم ألقيت بها في أعماق البحار، او لعرائسك رجالا واكفاءا آدتهن أحياءا في الفيافي والقفار. وقد انقضت ظهرك بثقل الكتب والاسفار ولما لم تجد من يساعدك على الحمل او يضع عنك الوزر القيت بالكل الى سواء الجحيم يا زمن السخرية والغبن والرداءة
رحماك يا زمنا كانت مكتبتنا الواحدة او الثانية او الثالثة على الأكثر في حينا او في مدينتنا تشهد يومذاك نظير إقبال المدخنين اليوم على المدخنات ، ونظير المدمنين على الخمور في الحانات . كانت ربعنا بالامس فباتت ربع ذكريات وقد أصبحت مأوى ذئاب كدرت صفو الحياة . فلم يبق فيها للكتاب الثقافي والمعرفي اثرا ولا للعارف المثقف محلا ، وقد هم القاريء والكاتب بالرحيل عنها حين ملا ، كما يرحل عن ربعنا كل طير لم يجذ له فيه وكرا ولا ضلا . ثم تحولت مكتباتنا ومناهل علمنا الى مقاه ومطاعم ، تختص في حشو البطون وإفراغ الجماجم . رحماك يا زمنا كنا نكتب ونقرا لبعضنا فنعجب مما كتبنا ، وقد جئنا بالربيع لحقولنا وجلبنا الأريج لزهورنا ، ثم أوحينا باللحن والشدو للطير فغنى .
ياما تحاشى اكثر معلمينا مجاراتنا ، وياما تجنبون أحيانا كثيرة الغوص معنا في أغوار معارفنا خوفا من العثور، واذا عثر معلم في عرف تلامذته ، من إحدى مصائبه التي تحسسه بضعفه ولايغفرها الا الغفور ، فيؤخذ عليه كعديم أهلية غير جدير با عداد النشء ومد الجسور . حتى كان المعلم منزها عن الدنايا وكاد ان يكون رسولا ، اما وقد صار المعلم اليوم يطرق الى الأرض خجولا، يتوارى من تلامذته من سوء حاله وهو كضيم ، مكسر الجناح عليل الجسم سقيم .
رحماك يا زمنا كان معلمنا يعتمد في عمله على ما حصل في صدره ، يعطينا كل ما عنده بسخاء وبلا ندم وكنا نأخذ كل ما عنده بلا تردد . رحماك يا زمنا كانت الية التحصيل لدينا لوحا وطبشورا ودفترا وقلما ، وبدون تقيد بمقررات تجارية ، او ارتباط بشروط ومنهجيات ارتجالية ، يازمنا كان المعلم راع وكنا قطيعا وكانت المدرسة مرتعنا الخصب ، ومناهل العلم والمعرفة موردنا العذب ، كالنحل كنا نغدو ونتغذي من كل رحيق فنروح وقد أثقل الشهد جوانحنا ، رحماك يازمنا تولى وقد انهمك في اللهو رعاتنا ، حتى خفق بعيرنا والى ان نفقت شاتنا
رحماك يا زمنا أعددت رجالا لولاهم ما كان لك ذكر، ولا كان لذكرك ذاكرون ، يشهدون لك وان نكر الناكرون وجحد الجاحدون . ياما كنت ظالما يا زمنا وكنا مظلومين ، وقد أدنيتنا من الجنة وأخذتنا الى الجحيم لا لذنب سوى اننا كنا ومازلنا مثقفين . وقد دفعتنا يازمن الغبن الى زوايا النسيان وأركان الإهمال كنوع من المجرمين ، لا لجرم سوى اننا كنا ومازلنا عارفين . فتطاول علينا المتطفلون وتعالى فوقنا السافلون ، وتكالبت حولنا الضباع وطمع في مجدنا الطامعون . أف منك يا زمن الغبن الثقافي و طز عليك يا عصر التخاذل المعرفي قد كنا ومازلنا وسنبقى رغما عنك الى ان نفنى وتبقى أثارنا وان كره الكارهون . فان امتنا احياء فيك يا زمن الغبن وقتلنا بالغبن اهلك ، سنحيى أمواتا رغما عن انفك وانف اهلك ، كالعواصف ندمر ماتصنعون ونقلع ماتغرسون ، وكالكوابيس نطارد النوم من على اجفانكم وننغص طعم الحياة التي تحتكرون ، حتى تعلموا ان ما تاحذوه منا بمثابة قطرة غيث صافية تنزل بكل تربة طيبة فتثمر الرحمة والشفقة والبر والمعروف ، وبكل تربة خبيثة فتثمر الشر والسخط والحقد والانتقام
المفضلات