(2)
ما الذى جرى للنا س!! الوجوه الضا حكة أبد اً والتى أشتهر بها المصريون فى أربعة أركان المعمورة صار العبوس ملمحاً واضحاً من ملامحها ..عامل المطا ر ومفتش الجمرك وحتى سائق التا كسى جميعهم أرتسمت على وجوههم جدية سخيفة , أشتهرالمصرى بالأستغراق فى الضحك بمنا سبة وبد ون منا سبة ودائماً آخر نكتة هى أول حوار يجمع بين أثنين يتقابلان بعد غيا ب..
حا ولت أن أتجاهل سلوكيا ت لم تعجبنى بأ ن أنظر إلى الجا نب الفكاهى فى الأمر.. قهقهت فى أعما قى حين حملت حقائبى على عربة من عربا ت المطا رفظهر على الفور من يبلغنى أن العربة مكسورة وتطوع بإ حضا رأخرى لم تكن فى الواقع أفضل حالاً ثم حمل د ون إستئذان حقابى لينقلها إليها تذكرت ماتميز به المصريون من فهلوة وخفة دم حين وقف بعدها يفرك يديه إنتظاراً لإكرامية ظن أنه يستحقها , فتشت جيوبى بحثاً عن عملات صغيرة فلفت نظرى فى بجاحة متناهية بأنه يقبل أى عملات أجنبية !! ماالذى جرى للناس لقد تجاوزوا حد الفهلوة إلى الوقاحة ،تحولت حيل الإرتزاق إلى إلحاح سخيف وتطفل يبدد السعادة بلقاء الوطن, الحقيبة الواحدة يتكأكأ حولها عدة أنفاركأنها كعبة وكل من حظى بلمسها يقف مطالباً بالمعلوم ,لقد أضحى التسول حرفة ذات فنون , حتى سائق التاكسى هرول ليفتح البا ب فى إنحناءة خاشعة كما لوكنت سفيراً لدولة عظمى طمعاً فى أن أدفع دون منا قشة وحين أستويت جا لساً على المقعد الخلفى لم ينبس بل مضى فى طريقه حتى أصبح خارج دائرة المطا ر تماماً ثم فاجأ نى با لسؤال:
- على فين العزم ؟
- شبرا إن شاء الله
رد فى جليطة واضحة:
- خمسين جنيه.
هل كان يعد لى كميناً حتى يضيع علىّ فرصة التراجع أو المسا ومة إن هو أبلغنى با لمطلوب فى موقف السيا رات ؟! من أين أتى المصريون بهذا الفن الجديد من الإبتزازوالخداع ؟ أم تراه إحدى ثمرات الأنفتاح الذى سمعنا عنه دون أن نعا يشه ؟.. عندما تبادلت مع السائق حواراً قصيراً بهدف إنقا ص المبلغ أنحرف إلى جانب الطريق وتوقف عن المسير حتى أعلنه بموافقتى على دفع المطلوب , إن كل شئ مخطط بإتقا ن فماالذى جرى للناس؟!!
هكذا صدمتنى اللحظات الأولى للقاء, كان واضحاً أن الصفا ت التى أتصف بها المصريون دائماً لم يعد لها وجود ,المروءة والشهامة ومد يد العون دون إنتظار المقابل.. هل أصبحت هذه الصفات من جملة التراث القديم ؟ علىّ أن أدفن الإحساس بها كما دفنت سائر الأحاسيس,لم أكد أهنأ بوصولى حتى صدمتنى هذه السلوكيات التى لم اعهدها من قبل والتى أرتبطت فى الغالب بمرحلة الإنفتاح والتى حددت ثمناً لكل شئ , تماسكت وهيأت نفسى لمزيد من الغرائب فسبع سنوات ليست بالفترة القليلة,لابد أننى أنا الذى تغير بفعل مداومة التعا طى للذ كريا ت الجميلة حتى الإدمان..تصورت أن كل من سيصادفنى سينطلق نحوى محتضناً إياى كأنما هو فى إنتظارى منذ سبع سنوات, حتى عندما يممت السيارة نحو الشارع الضيق لم ألحظ أى تغير سوى أن البيوت بدت أكثر قدماً ومطبات الشارع أثارت تأفف السائق فغمغم محتجاً بأنه لايحب السير فى الشوارع الضيقة وأنه كان علىّ أن أغادر السيارة فى الشارع العمومى حيلة جديدة يمهد بها لإبتزاز جديد بدت ملامحها حين ناولته الجنيهات الخمسين وأخذ يفرك يديه مطالباً ب "حلاوة السلامة"!! آه كم تغير الناس! لم يكن هذا هو حالهم قبل السفر ولا خلال سنوات الحرب العجاف فهل فعل الإنفتاح فيهم مالم يستطع اليهود أن يفعلوه؟! أصبح كل من تقابله يحسب كم سيكسب ومقدارإستفادته ممن حوله, فى أقل من ساعة واحدة كنت قد ألتقيت بنماذج شتى من التسول والفهلوة,أشتهر المصريون بالفهلوة حقاً,لكنهم كانوا يستغلونها فى إعمال العقل وخفة الدم والتصرف فى المواقف الصعبة..ماالذى جعل الفهلوة تنقلب إلى عمليات تشبه لعبة الثلاث ورقات وخفة اليد.
هكذا بدا جلياً عند وصولى أن أشياءاً كثيرة قد تغيرت وأن الوطن الذى حلمت بالعودة إلى أرضه وناسه لم يعد هو الوطن..! رباه !! هل سُرق منى هو الآخر كما سرقت كل المشاعرالحلوة والذكريات السعيدة..ومثلما سُرقت عبير؟!ولكن كل شئ يبدو كما هو حين غادرت الشارع منذ سبع سنوات كأننى لم أمض فى الخارج سوى ليلة واحدة هذا هو بيتنا ببابه الخشبى ومدخله المظلم والذى لم يكن يضيئه سوى الضوء المنبعث من دكان الأسطى محمود الحلاق الذى كنا نجتمع عنده كل مساء نتبادل النوادر والأخبار وطالما أمسكت بطنى حتى لاتنفجر ضحكاً من تعليقاته على أخبار الحرب والسياسة,مابال الدكان مغلقاً والليل لم ينتصف بعد؟!وأين الشباب؟ تراه قد دبت الشيخوخة فى مفاصله وهو الذى كان يوزع العقاقير التى يصنعها بيديه من أخلاط من الأعشاب ليحارب الشيخوخة ويقسم بأغلظ الأيمان أن عنده سر الدواء الذى يستبقى الفحولة حتى آخررمق فى العمر..أين ذهب الرجل؟ ولماذا أغلق دكانه مبكراً ؟ وقد كنا نلتف حوله ولانغادره إلا مطرودين ونحن نضحك من شطحاته ونوادره.
حين أنتقل بصرى إلى الجانب الآخر من الشارع أحسست بقلبى وقد تسارعت دقاته! ذلك هو بيت عبير..حانت لحظة المواجهة ففيم الفزع ؟ ألم أوطن النفس على معايشة هذه اللحظة رابط الجأش..كان فريد يدعى أننى حين اعود سأكون قد نسيت كل شئ وهاأنا قد عدت ولم أنس شيئاً وإلا فما معنى هذا الدوى الذى ينتقل من صدرى إلى أذنى؟! تماسكت وطردت الذكريات التى تجلب الألم ومع ذلك ظللت مسمراً فى مكانى ورأسى إلى أعلى يدور بين نافذة غرفتها التى يلفها الظلام وبين نافذة غرفتى وكأننى أقيس المسافة بينهما ..ياالله كم تباعد بنا الزمن والمكان ومع ذلك فالمسافة هى هى لم تتغير قيد شعرة!!
شرعت فى صعود الدرج حاملاً حقيبتى الوحيدة وتحسست الدرجات الغارقة فى الظلام والتى أحفظ أماكنها والمسافات بينها عن ظهر قلب وتأكدت تماماً أن كل بقعة فى هذا البيت تعرفنى وأعرفها فلايهم ظلام..
0-0-0-0-0-0-0-0-
المفضلات