كانت الكتابة في الادب الى زمن ليس ببعيد ،نوعا من التناغم بين المعطى الخارجي المتمثل في الانساق الفكرية السائدة ،والذات المنتجة للكتابة الابداعية في شتى الحقول الادبية المعروفة .لقد كانت الكتابة التزاما وعقيدة وتعبيرا عن مسار فكري ينهل من القيم الفلسفية والسياسية في تجاوب تام بين ما يحصل في العالم الخارجي من احداث وقضايا وبين الكاتب باعتباره لسانا لهموم الطبقات التي يدافع عنها...هذا الدفاع الذي كان ينهل من معتقدات ايديولوجية مبشرة بغد افضل وبحياة يسودها التكافؤ والطمأنينة ورغد العيش.وكانت تلك الاحلام بمثابة ورقة تفاوض بين النسق الايديولوجي المتطلع الى السيادة وبين السلطة في محاولة لاجبارها على التنازل واقتسام بحبوحتها بالتساوي.
لقد كانت الاقلام تنهل من محبرة الفكر الاديولوجي الحزبي وتؤيد رؤيته وتطلعاته ،فكانت تخاطب الجماهير وتتسلق المنابر وتقتنص الفرص وتستغل المواقف للظفر باكبر حصة ممكنة من غنيمة سمينة...فالاحزاب السياسية المبشرة بالمهدي المنتظر وبالحياة المثالية ،تصنع الادباء وتطلقهم في رياضها الافلاطونية ليصبحوا بوقا لنشر ايديولوجيتها الحزبية وهي تؤمن لهم التصفيق تلو التصفيق والتهليل تلو التهليل اينما حلوا وارتحلوا ،في حين اقصيت الاقلام الاخرى الرافضة واتهمت بالقصور الابداعي والضعف المعرفي في استيعاب التغيير والحضارة...
وقد كان هذا الجيل من الادباء المتمسحين باذيال الاحزاب ،كالطاووس ،حيث ما وضعوا اقدامهم يوزعون الرضا ويقدمون زادهم الابداعي باستعلاء وغرور لا حد لهما.
لكن اليوم تغيرت الامور...
فالحداثة قد ازاحت عن الايديولوجيا ثوبها وجعلتها عارية للجميع ،تنهار مترنحة وبصحبتها الكاتب الذي كان يمجدها ويتغذى على افكارها واهدافها المعلنة وغير المعلنة...
وهكذا لم يعد الكاتب قادرا على الكتابة ،لانه لم يعد يجد مخاطبا ولا موضوعا ،فالامور قد تغيرت بشكل كبير والترويج لم يعد سهلا كما كان بالامس القريب ،فتساقط الكاتب والكتابة والايديولوجيا جميعا كاوراق الخريف بلا رحمة او شفقة.
تكوين الكاتب في ظل الحزب جعل شعاراته التي كانت مفخرة لانتاجه باهتة اليوم ،لا هدف لها ولا جمهور.لذلك فنحن اليوم بحاجة لمداد اخر ولمحبرة اخرى اكثر تحررا ،كتابة لا تعتمد الاحزاب محركا مشروعا لها ولا السلطة معنية بانتاجها...الكتابة الابداعية التي نحتاجها لا تدعي سلطة المعرفة ولا تلبس ثوب الموعضة المغلفة ،ولا تعطي الدروس ولا البشائر ،ولكنها كتابة تبحث عن توجع مجتمعي قادر على رسم افاق المستقبل ،موجه لكتابته نحو رفع الذل والعار ،كتابة لا تمجد احدا الا الله وقيم الحق والعدالة والجمال ،هذه هي المحبرة التي نبحث عنها .