المسألة الأمازيغية

من الأصل إلى القضية

محمد المهدي السقال

بلا د * تامــزغـة * , أرض تـمـتـد في جغـرافـيـتـها إلى أعــمـاق أفــريقـــيا جـنـوبا , بـيـنــما تـنـفـتـح عـلى الـبـحريــن الأطــلـسي والـمتــوســط شــرقــا وغــربـــا , بحـمـولـتـهـما الـتـاريـخـيــة.
ارتــبــط تــاريـخـها الحـضـاري بـنـشــاط سـاكــنـتـها , كـمجــتـمـــع إنـسـاني مـتـكامـــل الـبـنـيـان , لـغــويــا و اجـتـماعـــيـا ,عــلى أسـاس الإحـساس بالــوحـدة في الأصـل , ضمـــن الامـتـداد الــزمـكـاني , كـخـصوصـيـة ذاتـيــة تـطــبـع الـهــويــة و الـكيــنـونـة , وتـشكــــل الـوعــي الجـمعي بالـوجـود الـفـاعـــل , ضمــن الـنســيــج الإنساني .
فـي البـدء كانــت الأرض , وكـان الإنسان , ثـم كـانــت اللــــغـة , فـكانـت الــوحــدة الـجغــــرافـيــة قاعــدة الانـتـمـاء , والـولاء للجــماعــة , فــي نــواتـها الأولـــى , وخـلـفـيــة الـشـعــور بالـقــرابـــة في الـدم , باعـتـبـــارها مـحــرك تــاريـخ تـلـك الجــمــاعــة .
لـكـن في الـبــدء أيضا , كـان التـطـور حـتـمـيــا ,إذ احــتـاج الــناس إلى مـعــرفـة ذاتــهــم , وحـجــم قـدرتـهـم عــلى الـفـعـل في الـكــون , غـيـر أنـهــم ركــزوا عــلى كـشـف العــالـم في دواخـلـهــم , للانطــلاق في الـتـفـــتـح عــلى المـحـيــط الخـارجي من حــولهــم .
لــيـست اللغـــــة الأمـازيغـــيـــة لغـــــة مـقـدسـة بمعـنــى التــقديــــس السمــاوي , فـما نطــقـها قـوم ادعـوا تـنـزيـل أصـــواتـها أو كـلـماتــها أو بلاغـتــها , بـمـعــــزل عـن تــربة الأرض وأحــــوال المــنـاخ وتــفــاعـــل الحــاجـات إلى الــتــواصل , لكنــها اكـتـسبـــت قـــوة وجـودها من تـجـارب المـعـايـشـة مع مـخـتـلـف تــحــولات واقـعــها في الـــزمان والـمكـــان , فـــأصـبـحت بــذلــك الـــرابطة الأولى بـيــن الـنـاس ,تـجـســد أنـمــاط تـفــكــيــرهــم وتـعـبــر عــما يـعــتــمــل فــي أعــماقـــهـم , مـن خلال تـفـاعـلاتـهـــم مـع محيــطــهم , سـواء في اتـجاه ذواتــهــم أو في اتـجاه عــلائــقــهـم بالـعـالـم من حـولـهـم .
كانــت الـــكلمــة أرقــى أدوات التـواصــل الذهــنــي , بعـــد تـحـقــق الانـدمــاج عـبـر أدوات الاتـصـال الــماديـــة , مـن الـتــراب إلى الــماء والـنـار , فانـصــهــرت المعـرفــــة بـها , و غـدت تــنـمـو رمـزيــتــها فـي الــوجــدان , لـتـأخــــذ أشــكـالا تـعـبـيـريــة مـن صمــيــم الكـيــنـونـة الـذاتــيـة , في اتــجــاه بــلـورة ماهـيـة الهــويـــة الأمــازيـغــــيــــة .
يــصــد ق هــذا التـحـليـــل عــلى أكــثـــر من نمــوذج إنساني للـتـجـمعــات البــشــريــة , ذات العــراقـــة في الــوجـود الـفـاعـل على الأرض , ولعـــل هـذا ما يمـيــــز خـصوصــية الــقــومــيــات التي ظــلت حاضــرة عــلى امتــداد التــاريخ الإنـسـاني , ذلــك أنـها حـمـلت منـذ بدايــة تكــويـنــها بـذرة الاسـتمــراريــة في الـوجــود , ومهما أتـــت عليـها من ظــروف , لـتــنـال من شـخـصيـتـها بالاحـتـواء , ومـا يمــكــن أن يـؤول إليه من محـــو أو إقـصاء , فإنـها تـبـقــى محـــافـظــة عـلى الأصـل في ذلــك الـوجود , لتـــعـود بعـــد حين , قــد يطــــول أو يقــــصر , للانــبــعــاث مـن جــديــد .
غـيـر أن إلا يــمان بالبعـــث الأمــازيغــي , لا يجــب أن يحجــب عن العــيـن حـقـيـــقــة الـتـحــول واحـتـمالات آفـــاقـــه, أو يـــدفـع إلى انغـــلاقــيـــة انعـــزالـية , تـرفض الآخـر, وتجهـــز عـلى الـذات بـسيـاجــات شائـكــة , تـمنــع الرؤيــا للــمــتغــيــرات من حـولـها , يطــرح هـذا الكــلام ضــمـن سيــاق الجـــدل الـذي يــدور حـول أساليـب إعـادة الاعــتــبـار, بـيـن داع إلى العـــودة المـطــلقـــة , وداع إلى الانـفتـــاح اللامـشـروط عـلى العــصــر, و إذا كـان لكــلٍّ , ما يكــفــي من الحـجـج للاقـتـنـاع بتـفـسيــراتـه وتـبـريــراتــه , فان ثـمة خلا فــا تحــصَّـل مـن تعــقُّـد الاختــلاف , وأصبـح بالفعــل يهــدد الـتــوافـق حـــول صيـغـة الــمــشروع المجتمــعي الأمــازيــغــي , ضـمـن رؤيـة شمـولـيـة أكـثـر اسـتـعـدادا للانـفـتـاح .
لــقـد تدخـلــت عـوامــل تحـكـمــها العــصـبــيــة غـيـر المـمـنـهـجـة , إما مــن موقــع الإحساس الـذاتي بالغـبــن , ومـا راكـمـه من ممارســات سلبـيـة , وإما تحـت تأثـيـر الرغــبــة المــوضوعــية في التــحـلـل مـن هـيـمنـة التـوجـيـه , بعـد ظهــور بـوادر إمـكـانـيـة التـصريـح بالــرأي والتعـبــيــر عن الاختــيــار, وهـو ما يعــني احـتـمــال التـعــرض للإغـراءات أو الضغـوطات , بـطـرق مـتــوازية مع الـنـزوع الطبـيــعي نحـو تحقـيـــق الانبــعــاث الأمازيغــي .
وما يـخــشــاه الإنسان الأمــازيغـي الأصـل , هو أن تكــون الإيـديـولوجـيـة بـبـعـدها السيـاسي الضـيــق , رافـــدا للتـــفكـيــر في سبـــل التـمـنـيـع ضـد استــمـرار التـهمـيــش و مكـنــنـة نــزع الهــــويــــة , ليــس رفـضا لـتـدخــل السيـــاسي في التـحلـيـل , ولكــن خــوفـا من الوقـوع في الأسطــوري , كــذاكــرة مـرجـعـيـة في الـتعــاطــي مع الواقــعـــي , وهو أمــر يـسـعــى إليه خـصــوم الحــركـة الأمــازيغــيــة , للـنـزوع بـهــا نحــو الانـفــلات و المزايدات .
*
*أحـيانا يميل الإنسان إلى التفكير بطريقة تخالف حتى أبسط أدوات الترابط المنطقي , كما هو متعارف عليه إنسانيا , وذلك في اتجاه الوصول إلى حقيقة نسبية يقبل بها , ومن ثم يقنع نفسه بنتائجها على أساس ما يمكن أن يتوفر لديه من مسوغات عقلنتها .

محمد المهدي السقال