في كل يوم كانت تصلي المغرب, ثم تنزل لتراه. كانت تنزل المصعد, ثم تسير الممرات الطويلة, رغم الضعف الذي كان يكتنفها, حتى تصل الى غرفة الccu . آخر غرفة في الممر.
في أول مرة سألت الممرض : أين محمود ؟ محمود الانتفاضة ؟
أشار اليه بيده, ثم قدم لها كرسيا لتجلس عليه, فقد كانت الابرة المغروسة في كفها دليلا على أنها نزيلة, لا زائرة.
: محمود ! آه .. أنت محمود ؟!!
كانت دواخلها تصرخ, فكم هو صغير ! كم هو جميل ! كم يستحق الحياة !!
كان في نصف عمرها, وقبل أن تخترق رصاصة الدمدم رأسه كان في ضعف صحتها !
كان ينام على السرير والأجهزة الطبية حوله من كل جانب. أنابيب الطعام تخترق أنفه. أنبوب الأكسجين يخترق القصبة الهوائية .. وأشياء أخرى لا تعرفها.
أطالت النظر الى وجهه الملائكي. كان في السابعة عشر من عمره . طالب مدرسة لم يزل !
راعها تهتك في العين اليسرى, فسألت الممرض الذي كان يراقبها : رصاصة في العين ؟
أجابها بهدوء : لا, في الخلف . أسفل الرأس.
اهتزت برعب, وقالت باعتراض : ولكن ..
قال بموافقة كلية : نعم, تخيلي ما فعلت في الداخل قبل أن تغادر !
مات الكلام داخلها, وماتت قدرتها حتى على النظر اليه, فغادرت الغرفة بعد وقت غير طويل, كان بالنسبة اليها كمشي على السراط المهتز المريع .
حالما أدارت ظهرها له, تدفق الدمع بوابل جامح لا كابح له, وتواصلت الشهقات التي أحست بها ستخنقها ان لم تسمح لها بالانفلات.
في اليوم التالي, وفي ذات الموعد, طرقت الباب ودخلت.
أمسكت كفه بحب . : كيف حالك محمود ؟ هل تذكرني ؟ لقد زرتك البارحة.
: محمود , أنت قوي. أنت مقاتل صلب. هل تسمعني ؟
كان يرمش بعينه الصحيحة بحركة لا ارادية .
: أنت الآن في معركة. اختلف الميدان, لكنها معركة أيضا, وعليك أن تفوز بها.
: محمود, عدني أن تقاوم . عدني.
في احدى المرات سألته : هل تحب أن أقرأ لك بعض القرآن ؟ ماذا تحب ؟
لم يضرها أن جوابا لم يأت, فواصلت : سأقرأ لك "وقتل داود جالوت". هل تعرف بماذا قتله ؟ بالمقلاع. والله العظيم بالمقلاع. اسمع ..
في مرة أخرى جلست لتروي له قصة.
قال لها الممرض وقد أشفق عليها : انه في شبه غيبوبة. لا أظنه يسمعك.
قالت باصرار : من يدري ؟ ان كان يسمعني, فسأسري عنه, وان لم يكن فيكفي أنني حاولت .
كان لسانها ينفلت بالحديث معه بشكل لم تكن لتتوقعه. أن تتحدث لشخص لا تعرفه صعب, وأن تخلق حديثا من جانب واحد أصعب. لكنها فعلت, وبتلقائية.
قالت لصديقتها تسألها بخوف : هل تعتقدين بأنه سيتعافى ؟ لقد وعدني بأنه سيقاوم. سمعتها في أنفاسه.
شدت الصديقة على يدها وأجابت : أحد جرحى الانتفاضة الأولى كان في مثل حاله, وستتعجبين أنه دعاني الى حفل عرسه قبل عامين.
رسمت قبلة عميقة على جبين الصديقة, قبلة شكر تبعتها نظرات تضامن , وايمان بأنهم جميعا في خندق واحد .
اليوم مات محمود. استسلم.أخلف وعده. مل الانتظار.
ملّ التضامن العربي المهزلة. ملّ قصصها ودموعها, وانتظارها للمعجزة.
*****
عن الشهيد محمود مطير
المفضلات