الفكرة الجهنمية :
وقعت كلمات الدكتور "عزام" كالصاعقة علي الدكتور "أسعد" و "سكينة التي أصابتها رعدة هزت كيانها .
ـ سوف أقوم بعمل نسخة مني .
قال هذه العبارة ، ثم عاد يقول في نبرة باردة :
ـ سوف أضع في نسختي مورثات الأسد ، بذلك سوف يجمع هذا النسخ بين ذكائي والقوة البدنية .
ثم ضحك بصوت مخيف ، جعل "سكينة" تنكمش وتتكور في مقعدها ، أما الدكتور "أسعد" فقد تقلصت أساريره ، وزم شفتيه ملتزما الصمت ، صاح الدكتور "عزام" بانفعال واضح وقد تملكته الفكرة المثيرة :
ـ سيكون لي بذلك السبق في إدخال المورثات الحيوانية في نسخ الخلية الإنسانية وستصبح ثورة علمية وطفرة في علم الهندسة الوراثية .
ثم صاح في تساؤل :
ـ ما رأيك يا دكتور "أسعد" ؟
مرر الأخير يده علي كل وجهه ، ليواري اضطرابه ، وراح يمسح جبينه الذي ينضح بالعرق ، ازدرد ريقه بصعوبة ، وقال بصوت منفعل :
ـ إنها فكرة جهنمية !!
ثم أضاف بتردد :
- ولكن ، هل ستنجح في إنجازها ؟ وما مدي احتمالات الخطأ ؟ فقد يأتي الإنسان المنسوخ مسخا .. مثل .. مثل ..
أطبق الدكتور "أسعد" شفتيه ولم يكمل كلماته ، فصرخ الدكتور "عزام" بجفاء وغضب ونبرة انفعال:
ـ أكمل ، مثل المسوخ الأخرى . نهض من مقعده ، ومرر يده علي وجهه بعصبية ، وصاح وقد ارتسمت علي أساريره الإصرار والعزم الأكيد
- سوف أثبت لكما أنني سأنجز أهم مشروع في هذا القرن ، بل في القرون الذي تليه .
كانت"سكينة" تنظر إليه وقد اشتد شحوب وجهها ، وحاولت أن تقول شيئا ولكن صوتها لم يخرج من حلقها .
هتف الدكتور "أسعد" بصوت أبح :
ـ إننا علي يقين من علمك وقدراتك العظيمة يا دكتور .
تبدلت مشاعر الدكتور "عزام" فجأة ، فانفرجت أساريره بابتسامة ولمعت عيناه ببريق متوهج ، وصاح بمرح وتفاؤل :
ـ هيا إلي العمل .
قامت "سكينة" بتثاقل من مقعدها ، وبادلها الدكتور "أسعد" نظرة خاطفة مشحونة بالقلق والتوتر وهما يتجهان إلي المعمل .
بدأ ثلاثتهم العمل يشكل دءوب ، وأخذت خلايا جسدية من أنحاء متفرقة من جسم الدكتور "عزام" ، وقاموا بتجاربهم لعمل نسخة بشرية منه ، مع إضافة مورثات القوة الحيوانية للأسد ، وظلوا شهورا طويلة في محاولات كثيرة باءت بالفشل ، وتسرب للدكتور "أسعد" و"سكينة" اليأس والكلل والملل ، وهما يريان في نفس الوقت عدم جدوى تلك التجارب ، والتخوف من نتائجها التي لا يعلم عقباها إلا الله .
أما الدكتور "عزام" فقد كان علي يقين من النجاح ، بالرغم من أن البويضات التي اغتصبها من مركز"لندن" أخذت في التناقص المستمر ، ولم يبق منها إلا بويضات قليلة ، فحاول ترشيد استخدامها ، ومع ذلك فقد قاربت علي الانتهاء .
انتابه ذعر فائق وهو ينتشل الثلاثة الأخيرة منها ، وغمغم وهو ينظر إليهم بحرص كبير:
ـ أتمني أن ننجح بأي شكل ، فلن يتسنى لنا بعد ذلك الحصول علي مثل هذه الكمية التي حصلنا عليها .
وضعت "سكينة" البويضات الثلاثة في الأطباق الزجاجية ، وأضافت لكل منها الخلية الجسدية للدكتور "عزام" بإضافة مورثات القوة الحيوانية للأسد كما تعتقد ، وباءت تجربتان منهم بالفشل ، بينما أخذت تجربة في الانقسام .
قال الدكتور "عزام" وهو ينظر إلي المجهر :
ـ ستكون فرصتنا كبيرة ، إذا وصل الجنين إلي المرحلة التوتية ، وعند ذلك يمكننا نقلها إلي الرحم .
انتاب "سكينة" قلق غامض وهي تسمع هذه الكلمات ، فليس هناك امرأة بينهم لتحمل في رحمها الجنين إلا هي ، إذا قدر لهذه التجربة النجاح .
التفت الدكتور "أسعد" إلي الدكتور "عزام" وقال له :
ـ إنني أراك مرهقا يا دكتور ، فأرجو أن تنال قسطا من الراحة ، وإذا حدث شيء طارئ فسوف أوقظك .
اتجه الدكتور "عزام" إلي حجرة صغيرة ملحقة بالمختبر ، ورقد علي أحد السريرين الملحقين بها ، وغط في نوم عميق ، ولبث الدكتور "أسعد" ورفيقته يترقبان الجنين ، الذي كان مازال في طور الانقسام بقلق بالغ .
وبينما كانت "سكينة" تتخلص من محتويات الطبقين الزجاجيين بعد فشل تجربتهما ، ارتسم علي وجهها رعب رهيب ، وتقلصت أساريرها بشكل مؤلم ، وارتعشت شفتاها وهي تهمهم بكلمات غير مفهومة ، فشعر الدكتور "أسعد" بالجزع البالغ ، وهو يهرول ناحيتها ، وصاح متسائلا :
ـ ماذا حدث يا "سكينة" ؟! أرجوك أخبريني .
أشارت بسبابتها إشارات مضطربة ، وتلقفت أنفاسها بصعوبة وهي تقول بصوت مخنوق بالعبرات :
ـ لقد وضعت دون أن أدري في الأطباق الثلاثة مورثات العقرب مع البويضات والخلية الجسدية للدكتور "عزام" .
هزها الدكتور "أسعد" بعنف ، وقال بصوت هامس أجش :
ـ إنه خطأ جسيم ، ولن يرحمنا الدكتور "عزام" إذا عرف ما حدث ، وسيكون انتقامه رهيبا .
استولي علي جسدها الجمود ، وصرخت بصوت مخنوق ضعيف :
ـ ماذا سنفعل الآن ؟ هل سنتخلص من الجنين ؟
أضافت بيأس ، انظر إلي المجهر لعل التجربة تكون قد فشلت ، ويكون هذا من حسن حظنا .
نظر الدكتور "أسعد" خلال المجهر ، واكفهر وجهه وسرت علي جبينه موجات من التجاعيد ، وهو يهتف بأسي :
ـ لقد وصل الجنين إلي المرحلة التوتية .
دفعته "سكينة" بانفعال غامر ، ونظرت خلال المجهر ، وامتقع وجهها وهي تري نجاح التجربة ، وغمغمت بيأس قاتل :
ـ يجب أن نتخلص من هذا الجنين .
في هذه اللحظة الحاسمة سمعا صوت خطوات الدكتور "عزام" ، وهي تقترب منهما ، وعندما أصبح أمامهما ارتسم علي وجهيهما رعب عارم ، كأنهما لمحا شبحا .
ـ أي جنين تتكلمان عنه ؟
هتف الدكتور "أسعد" :
ـ لا شيء يا دكتور .. لقد تخلصنا من التجربتين الفاشلتين .
ثم افتعل الابتسام والمرح وهو يقول ، لقد نجحت التجربة يا دكتور .
وثب الدكتور "عزام" بسرعة ، ونظر خلال المجهر ، وهتف بسعادة غامرة ، وفي نبرة انتصار :
ـ لقد نجحنا !!
ثم أضاف وقد وصل إلي ذروة انفعاله ، والآن يجب أن ننقل الجنين إلي الرحم .
اختنق صوت "سكينة" وهي تصيح في رعب هائل :
ـ رحم ؟! أي رحم ؟!
لاحت علي وجه الدكتور ابتسامة رهيبة لا أثر للشفقة فيها ، وهو يقول بصوت خافت شيطاني يشبه الفحيح :
ـ ومن لديه رحم غيرك هنا يا "سكينة" ؟
جثت علي ركبتيها ، وتشبثت برجلي الدكتور "عزام" ، وهي تصرخ متوسلة ، وتبكي بكاء مرا حارا :
ـ أتوسل إليك لا تفعل ، لا ، لا أستطيع . دفعها الدكتور "عزام" عنه بعنف ، واتجه صوب أحد الأدراج ، وأخرج منه حقنة وزجاجة عقار ، وامتص بالمبسم العقار ، وصاح كالرعد :
ـ امسكها جيدا يا دكتور "أسعد" .
تجمدت "سكينة" من الرعب وهي لا تزال جاثية علي ركبتيها ، وبعد مشقة أخذت تلوح بيديها في ضعف شديد ، وهي تقول بصوت متكسر مهدود :
ـ أرجوك لا تفعل يا دكتور "أسعد" .
أذعن الدكتور "أسعد" لأمر الدكتور "عزام" ، واتجه صوبها وقد ارتسم علي وجهه ألم ممض ، وأمسكها بقوة وهو يصيح ويبكي :
ـ سامحيني يا "سكينة" ، أرجوك سامحيني .
وثب الدكتور "عزام" منتهزا فرصة انهياريهما ، ورشق الحقنة في ذراعها ، بعد لحظات استكانت عضلاتها ، وأخذت ترتخي ، ثم ما لبثت أن راحت في سبات عميق . حملها الاثنان وأرقداها علي السرير، ثم بدأ الدكتور "عزام" بفحصها في عناية ، وبعد فترة من الصمت المتوتر صاح في انتصار:
ـ إن رحمها مهيأ لاستقبال الجنين ، وسوف نقوم بزرعه في الحال .
بعد وقت قصير كانت "سكينة" حاملا في نسخة الدكتور "عزام" ، وعندما أفاقت من ثباتها أخذت رموشها تهتز بسرعة ، ثم فتحت عينيها ، وأخذت تنظر حولها بخوف شديد وهي تصرخ في هلع :
ـ ماذا حدث ؟
بعد لحظات بدأت تستعيد أفكارها ، وأدركت ما حدث ، فغطت وجهها براحتيها ، وأجهشت في بكاء عميق .
اقترب منها الدكتور "عزام" وجلس بجوارها علي طرف السرير ، ومرر يده علي رأسها بحنو بالغ لم تألفه منه من قبل ، فبدأت مشاعرها تستكين له رويدا ، وانتهز الفرصة السانحة له وضمها إليه ، فارتجف جسدها تحت وطأة مشاعرها الملتهبة ، وغمغم وأنفاسه الحارة تلهب جيدها :
ـ إنك الآن يا عزيزتي تحملين نسختي ، فأنا جزء منك الآن .
عندما تأكد من أنه سيطر علي مشاعرها أضاف برقة :
ـ أرجوك يا حبيبتي حافظي علي الجنين من أجلي .
ثم قبل جبينها ، وربت علي وجهها ، وهو يقول بصوت خافت عميق :
ـ استريحي الآن لقد كان اليوم شاقا عليك .
اقنع الدكتور "عزام" "سكينة" بالانتقال إلي فيلته ، وذلك بعد أن جعلها تشيع في الكلية والمحيطين بها أنها مسافرة في بعثة إلي الخارج من أجل البحث العلمي ، والحصول علي درجة الدكتوراه.
كانت أول امرأة تطأ قدماها هذه الفيلا المنعزلة الشبيهة بقصر منيف ، وكان يحيطها غموض شديد بأبراجها الأربعة الرابضة في أركان السور المحيط بها ، وكانت الأشجار العالية متكاثفة الأوراق ، تتطاول علي امتداد السور العالي وتطل برأسها كأنها أسنة رماح إلي الخارج ، فكانت بمثابة سور آخر ، وفي مكان منعزل في الحديقة الواسعة الرحبة ، قبع مبني كئيب مكون من طابق واحد نشبت فيه نباتات متسلقة ، ونمت الطحالب الدقيقة علي جدرانه الرطبة .
أحست "سكينة" وهي تنظر من نافذة حجرة نومها التي أعدت لها أنها مالكة هذا المكان ، ولمعت عيناها وهي ترنو إلي الحديقة المزهرة ، وطردت خيالات حزينة بائسة ، عندما كانت بالملجأ ، فطالما تمنت أن يكون لها مكان واسع تعيش فيه ، وحياة سعيدة مع زوج يحبها ، ولكنها كانت تدرك أنها دميمة ، وأن فرصتها ضئيلة في أن تحيا كأي امرأة تحلم بالبيت والأسرة ، فعكفت علي العلم لتعويض هذا النقص الذي يضنيها و يعذبها ؛ ثم التقت بالدكتور "عزام" وكان أستاذها بكلية العلوم ، ولمس فيها نبوغها واستشف بذكائه انطواءها ، وأغرته نشأتها أن يستخدمها في معمله كمساعده له في أبحاثه السرية .
استفاقت من أفكارها عندما تناهى لسمعها صوت خطوات أقدام تقترب ، وألفت الدكتور "عزام" حاملا صينية مستطيلة الشكل من المعدن عليها أطباق تحوي طعاما شهيا ، وفاكهة طازجة ، وضعها علي منضدة متحركة ودفعها ناحيتها ، وهتف وهو يبتسم:
ـ كيف حالك الآن ؟
قالت بدلال :
ـ ماذا ترى ؟
تقدم منها وضمها بين ذراعيه ، فأغمضت عينيها ، وشعرت بنشوة عارمة ، فقد كانت تعيش حلما لذيذا طالما صبت إليه ، وتوهج قلبها بعواطف مشبوبة ، لم تعد تستطيع السيطرة عليها ، واخضرت حياتها المجدبة التي لم تذق فيها طعما للحب والاهتمام من أي شخص .
غمرها الدكتور "عزام" طوال فترة حملها برعاية وتدليل لم تحلم بهما يوما ، وشعرت بالانتماء إلي هذا الرجل الذي تحمل نسخته في أحشائها ، وتنامي هذا الإحساس يوما بعد يوم مع تقدم الحمل ، وشعورها بحركة الجنين ، تيقنت أنها ستكون جزءا لا يتجزأ من هذا البيت الذي لم تدخله امرأة قبلها ، وأصبح بينها وبينه رباط وثيق لا يمكن أن ينفصم ولو أراد هو ذلك ، فالعلاقة بينهما أصبحت أقوي من الحب ، بل أقوي من الزواج !! فهي تحمل في أحشائها نسخته ، وهي جزء منه كما صرح لها سابقا .
ابتسمت راضية عندما هداها تفكيرها أن موقفها الآن أقوي من موقفه ، وسيكون لها السيطرة والهيمنة علي حياة هذا الرجل .
المفضلات