وديع العبيدي
المنظور الاجتماعي في قصص صبيحة شـبّـر
قراءة في مجموعة [إمرأة سيئة السمعة]
تعتمد الكاتبة اسلوب المراوغة المبطنة لاستدراج القارئ عبر منظورها السردي دون أن تسلمه للحظة الأخيرة مفاتيح النص، مثل هذا الاستنتاج قد يصدم البعض ممن اعتمد معطيات النص الخارجية لاصدار حكمه النقدي. وهذا البعض أو الرأي بحدّ ذاته هو أحد ضحايا مراوغة الكاتبة، بالأحرى مراوغة اللغة. فاللغة هنا ليست سوى وسيلة مباشرة للوصول إلى أغراض معينة. وإذا اعتبرنا لغة الكاتبة المبسّطة خطوة باتجاه القارئ العام، نجد ركيزة أخرى تضعها الكاتبة بوعي تام في هذا السبيل، هي المادة السردية أو التيمة. فجميع موضوعات القصص مستقاة من الواقع الشعبي والذي يجعلها تبدو قطعة من حياة الناس.
بعبارة أخرى تسعى هذه القراءة لاستبطان مغاليق النص وتفكيكه لتحقيق قراءة أو قراءات جديدة لا تستسلم لمهاوي القراءة الأولى. ويمثل المنظور الاجتماعي أحد مستويات هذه القراءة. نجد أن القصص اعتمدت شخصية محورية موحّدة قامت بدور الراوي أو الراوية والبطل في آن واحد. أما مواصفات هذه الشخصية فهي: شخصية أنثوية (إمرأة)، عمرها في الخمسين، متزوجة ولها زوج وأبناء، أنها تعمل لتقوت نفسها وعيالها. هذه المواصفات تجعل حياتها شبه مثالية وخالية من الاشكالات والمنغصات، فماذا لديها لتقوله إذن؟ هنا ننتقل للمستوى الثاني في مماحكة الشخصية لنجد أنها: تعيش منعزلة عن زوجها وأبناءها (1)، وأنها تقيم في بلد آخر بعيد عن بلدها الأصلي (2). والاستنتاج الذي يحضر للذهن هو الغربة والوحشة، ولذلك تقتات هذه المرأة على الانتظار وحلم اجتماع الشمل، وهي تستحضر مواعيد المناسبات العائلية والتراثية [حفلة عيد الميلاد – أعياد الربيع] وتقوم بإعداد مستلزمات كل مناسبة ثم تجلس منتظرة الطارق الأول، وخلال ذلك تعيش مع هواجسها وتداعياتها وبالشكل الذي يدعم لحمة القص. الانطلاق من هذه النقطة للحكم على القصص أو تجميد عملية القراءة واعتبارها مستوفية يمثل الاستسلام لمنطق المراوغة اللغوية للنص. وللالتفاف على ذلك لابدّ من مواصلة القراءة أو دفعها إلى مستويات أبعد، أي أبعد من النص نفسه.
لقد عبّرت الكاتبة عن حذق وذكاء حادّ عندما حصرت بطلتها وقصصها داخل هذه الفئة العمرية لتناسب رؤيتها القصصية. سيما وأنها اختارت ربط جميع القصص بحياة بطلة تكاد تكون واحدة ومكررة في المجموعة. وقد تبدو المرأة الكاتبة أكثر ميلاً من الرجل الكاتب لتحديد عمر أو أعمار بطلاتها، فهي هنا في الخمسينيات، ولدى رشيدة الشارني مثلاً في الثلاثينيات، ولدى سميرة المانع في قصص [الروح] متفاوتة وفوق الثلاثين، ولدى الكاتبة الالمانية دوريس دوريه (1955) في الأربعينات في مجموعتها [سامسارا] الصادرة عام (1996) وهي بين العشرينات والثلاثينات في مجموعة [ماذا تريد مني] الصادرة قبل ذلك. ويمكن القول عموماً أن الفئة العمرية لبطلات كاتبة معينة هي الفئة العمرية التي تجد الكاتبة نفسها فيها أو تحب أن تبدو [تبقى] فيها. فكاتبة قصص الاطفال السوديدية لندنبيرغ بقيت تعيش شخصية الطفل الصغير (دون الخامسة) التي كتبت له وكانت حجرتها مليئة بلعب الاطفال ودمى الحيوانات حتى وفاتها في التسعين من عمرها. بينما يندر اهتمام الكتاب [من الرجال] بتحديد فئة عمرية موحدة لأبطالهم لمقاربة الجوّ النفسي والفكري للقص.
ان التوقف لدى هذه النقطة يمنح مفهوم الانتظار المتكرر [إليك عني يا همومي – سأعود بعد ساعة – أعياد الربيع – حفلة عيد الميلاد] بعداً نفسياً وسوسيولوجياً ينقذه من الفهم المجرد أو السطحي للأشياء. الانتظار كقيمة وجودية يكتسب معناه من أمرين، الدافع والمتوقع. أما الانتظار لمجرد الانتظار وبالشكل الذي ربط بانتظار غودو، فليس كافيا لمنحه بعداً فلسفياً أو وجودياً لا يتبناه النصّ. بتعبير آخر أننا بدل الاحالة خارج النص علينا التدرج مع النص نحو الخلف هذه المرّة، لاستكناه جملة الظروف التي رسمت "خارطة المرأة الروحية" * في مجموعة [إمرأة سيئة السمعة]. ولنا في هذه المراجعة التراجعية من المبررات والضرورات ما يجعل تجاوزها أو القفز عليها قفزاً على النص نفسه. منها:
1- العنوان: إمرأة سيئة السمعة. وهو عنوان مشحون مليء بالقسوة والاحتجاج الداخلي والاجتماعي في آن. ولم يكن من السهل رفعه بمثابة لافتة في مظاهرة صامتة من غير استهداف أغراض وإشارات حافلة داخل النص. وعلاقة القرابة التي تربطه بعنوان قصصي مشهور [بيت سيء السمعة]* ليس مبرراً لتجاوزه أو عدم الالتفات لديه، لأنّ وروده هنا ضمن حيثيات الواقع العراقي أو ضمن القاموس السياسي لارهاب الدولة يمنحه عمقاً يتجاوز البعد الاجتماعي الذي رمى إليه نجيب محفوظ في قصته. واذا كان غمط النص في القراءة النقدية مما يؤسف له في الثقافة العربية فأن اختزال القراءة في النقد العراقي يقارب خيانة الواقع. ان كل نقطة وفارزة وفراغ في [نص] هي جزء من فكر ودم وأعصاب المؤلف التي استلبت ذاكرته ووقته وحياته، والمؤلف هنا – أي مؤلف- ليس حالة نرجسية ذاتية خاصة قدر ما هو افراز اجتماعي وصورة مرحلة تاريخية تتطلب منا جميعاً مهاصرتها فكراً ونقداً بعد أن هصرتنا واقعا وسلوكاً. أن كل شيء عراقي وما يمت للعراق اليوم يعاني من تلوث البيئة الذي مسخ العراق طيلة أربعة عقود، والنص الأدبي هو الذي يساعد في قياس درجة التلوث ونسبة السموم المترسبة في دماءنا. والهروب أمام النص، أمام الواقع، يعني الاستمرار في معاناة التلوث ونقله نحو المستقبل، بينما يستطيع النص تحرير الذات من درنات المراحل الفاسدة في تاريخنا. وامتياز [إمرأة سيئة السمعة] انتماءه الجريء والهادئ للأدب الاجتماعي السياسي النابع من إشكالية الجغرافيا السياسية المنحرفة في العراق.
لقد انطلقت القاصة المبدعة صبيحة شبّر في مداخلتها الاجتماعية من (حساسية) مفهوم الشرف في التراث الاجتماعي العراقي؛ وهو الثقب الذي وضع الحكم البعثي الصدامي إصبعه فيه لقلب المزاج الاجتماعي والمجتمع العراقي - عبر جملة من الممارسات المخططة- رأساً على عقب. ان تعلق النظام بهذا الموضوع عبر وسائل عديدة ما يزال طريّـاً ونيئاً في الأدب العراقي ودراسات الواقع العراقي ويحتمل من البحث والتوثيق مئات المجلدات، ولكن المعالجة تقتضي درجة كبيرة من الدقة والموضوعية والابتعاد عن التهريج أو الايديولوجيا. ان الخطاب السياسي ليس واضحاً خلال المجموعة، وهو مدفوع إلى الخلف بإحكام ودقة جامدة كأرشيف صامت. تناولت الكاتبة قطعة صغيرة منه، كلمات ثلاثة فقط وعلّقتها في واجهة إصدارها القصصي، كأنها تراوغ مخيلة القارئ أو ربما العكس أيضاً. تفعل ما فعله جان بول سارتر عندما رفع كلمات ثلاثة على واجهة كتابه: (عارنا في الجزائر)، كلمات مليئة بالصراخ والاحتجاج والعار أيضاً، لدمغ مرحلة كاملة ونظام عاتٍ وأيديولوجية منحرفة. فهل تستطيع صبيحة شبّر تحقيق ما حققه سارتر في المجتمع العراقي لتنظيف مرحلة كاملة من الخزي منقطع النظير.
المفارقة أو المراوغة الأولى إذن، هي استخدام تعبير اجتماعي ذي مغزى سياسي لوصف مرحلة [وليس إمرأة] منحرفة كاملة.

2- تغليب المنظور الاجتماعي على المعالجات القصصية في المجموعة رغم ارتباطها أو تدرجها من ظلال سياسية قاتمة.
3- الخطاب السياسي لم يتكشف إلا في القصة التي حمل عنوانها الكتاب، بينما تناثرت ظلال أخرى في أكثر من قصة وبالشكل الذي ينعكس في تشظي العائلة وتشرّدها في المنافي.
4- العنوان الذي وسم الكتاب وتجلى في القصة (ص25) بربطه بحالة النفي/ الهجرة تحول إلى إطار عام يؤدي إلى عدّة مداخل، ويربط معاناة العراقيين في الخارج بمعاناتهم في الداخل والتي تنبع من بؤرة واحدة.
5- ان مغزى الانتظار ضمن هذا التداعي يتجاوز البعد الاجتماعي للقاء الزوج أو لقاء الأبناء إلى لقاء الوطن.. الوطن كمنظومة ثقافية اجتماعية تعرضت للوأد والمسخ على أيدي العسكر ومسالخ الايديولوجيا القومية عبر أربعة عقود. فالربط بين مفهوم الانتظار المكرر في المجموعة و[انتظار غودو] يستند إلى قراءة سياسية لغودو العراقي وليس المفهوم الفلسفي الوجودي الذي اعتمده مسرح العبث لصموئيل بيكيت.

ان الشخصية المحورية لبطلة القصص تصدر عن اضطهاد عائلي مزدوج على أيدي النظام. اضطهاد عائلتها الأصلية وأخوتها، ثم اضطهاد وملاحقة زوجها واجبارها على تركه، واجبار بعض أفراد عائلتها من قبل السلطة لمطالبتها بتركه والانفصال عنه تحت ادعاءات مختلفة ومختلقة. وعدم الرضوخ لمطاليب السلطة الشوفونية والاصرار على المبدأ الشريف وراء عملية الاسقاط الاجتماعي لمعارضيه بعد العجز عن اسقاطهم سياسياً. ويمثل تدخل السلطة في خلخلة العائلة العراقية لتحقيق مآربه السياسية أحد سياساته العريضة، ومن هنا التداخل والتماهي الاجتماعي السياسي في هذه القصص.

وماذا بعد؟؟!..
ان طرح ثيمة بهذا البعد لابدّ أن تستند إلى مغزى، وأرشفة الماضي للعمل على معالجة آثاره، وبالشكل الذي طرحته الكاتبة يتضمن توجهاً نحو المستقبل أكثر من فكرة نبش الماضي وتقليب المواجع والاتهامات. الماضي، أربعة عقود من الانحراف والهدم، لن تنجو من الدراسات الأكادمية ووثائق الشهود. ولجوء الكاتبة إلى القصة إطاراً للسرد بدل الرواية إشارة عميقة إلى عدم الرغبة في نبش الذاكرة، على غرار الكتابات التي تناولت العهد النازي في ألمانيا. وسؤال الكاتبة من خلال رفع شارة الانتظار في أواخر القصص جميعها تقريباً يتجه للمستقبل، ينقل الاشكالية العراقية من مرحلة العلـّية [لماذا] إلى مرحلة المعالجة والبناء [ماذا بعد]. هل يمكن القول أن سؤالاً مثل هذا ينطوي على ما يكفي من العبث لذكر غودو مرة أخرى، أم أن ثمة أمل حقيقي يمكن وضعه على حافة الجرح العراقي الفاغر لتطييب ذاكرة الجيل الطالع.

ماذا لو... السؤال المحذوف في القصة العراقية
العروج على جغرافيا الذاكرة العراقية وأطلال الماضي ينعت غالباً بالنوستالجيا وعقدة الماضي أو أية صفة أخرى مستقاة من تفكيك الذات العربية؛ ثمة زاوية أخرى بقيت مظلمة في الدراسات الأدبية والأكادمية، والتي اصطلحنا عليها [ماذا لو..؟] القائمة على إعادة دولاب الزمن للخلف واختزال أو إضافة عوامل معينة؛ وفي هذا السبيل، فلو لم يحصل انقلاب 1958 لما سيطر العسكر على الحكم منذئذ؛ ولو لم يفشل مشروع عبد الكريم قاسم لما وصل حزب البعث للسلطة، ولو..... لم يصل صدام حسين للحكم ويستفرد بالسلطات لما....
حصل كل ما حصل ويحصل لنا وللعراق!..
التصفيات الجسدية والفكرية، حملات التهجير، تشويه بنية المجتمع والديمغرافيا العراقية، الحروب المجنونة، حملات الابادة الجماعية والتطهير العرقي والفكري، المقابر الجماعية، الحصار الدولي والاقليمي الوحشي ضد الشعب العراقي، اخراج العراق من دائرة القوى السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط والعالم، وقوع العراق والمنطقة تحت الهيمنة الأميركية المباشرة، قوافل المنفيين، الاثار النفسية والاجتماعية لثلاثة عقود من الانحراف الشمولي، تدمير البيئة الطبيعية والزراعية وانتشار التلوث والأوبئة في المياه والهواء والتربة، الولادات المشوهة... ظهور أجيال منفى وأدب منفى.. ترسّم ملامح جديدة في خريطة الذات والثقافة العراقية.. تقتضي الكثير من الجهد والدراسة والعمل الدؤوب لبناء متين ومستحكم في وجه التغيرات الطارئة.
في ظل هذه الرؤية يمكن تأويل أو تقديم فهم جديد لجملة من القص العراقي التخيلي أو الذاكراتي الذي يحاكي مقاطع طولية أو عرضية من واقع عراقي ما قبل التلوث. فقصص [أعياد الربيع، حفلة عيد الميلاد] في هذه المجموعة وقطاع من قصص مراوغة أخرى من كتاب المنفى تدخل في هذا الباب. خطوة باتجاه سيرورة العادية التي انقطعت مع أواخر السبعينيات. محاولة لتطهير الذات وإعادة الشخصية العراقية إلى صفاءها ونقاءها الأصيل بعيداً عن ترهات الطارئين. هذه المعالجة أو المداخلة تأتي في وقت تحتدم فيه دعوات سيكولوجية منحرفة للدفاع عن البطل القومي أو تعظيم هزائمه وكوارثه مما يمثل إضافة وتنويهاً واجب الذكر!.

البنية السردية لدى صبيحة شبّر..
اختارت القاصة فن القصة القصيرة لموضوعة تصلح لرواية توفرت لها المقومات الفنية والتاريخية وامكانيات السرد الذاتي. جاءت القصص [اربعة عشر قصة قصيرة] في اسلوب السرد الذاتي متفاوتة بين التداعي والمنولوج والصوت الخارجي المتناغم مع الذات كما في صوت المذياع (أنا بانتظارك) في القصة الأولى (ص7). أو الانتقال إلى الابن (ص25) أو الآخر في قصة (المطاردة ص39). أما المؤلفة فتكاد تختفي تماماً خلال المجموعة أو تتخفى داخل البطلة، أو أن البطلة تتقمص المؤلفة وتعبر عما تريده منها. وفي قصة [وليمة] التي يقوم فيها ابن بذبح حمامات أبيه العجوز التي يراها مثل أولاده، ليصنع منها وليمة لاصدقائه، تستخدم الراوية صفتي [أبي/ أخي] لكل منهما، للاستمرار في وظيفة الراوية دون أن يكون لها دور مباشر في الاحداث. وربما بدت القصص بمجموعها سلسلة أحداث ومواقف تعرضت لها البطلة وعرضتها في صور قصص مقتطفة من بستان الذاكرة، في عملية تداخل عضوي بين السيرة الذاتية والسرد الفني.

المراوغة بين اللغة والنص
وتحتفي القاصة بشكل خاص بالمفارقة أو المراوغة اللغوية لتخفيف الضغط النفسي للقصة. ويظهر ذلك في طريقة اختيار عناوين القصص التي لا ترتبط بالتيمة الرئيسية للقصة وانما تشير الى تيمة جانبية، أي أنها لا تصف اللوحة وانما ما يظهر بجانبها وهي مفارقة لدى مقارنة أو مطابقة العنوان مع النص. ففي القصة الاولى (إليك عني يا همومي) تمثل أغنية أم كلثوم [أنا بانتظارك] مفتاحاً سردياً تبني عليها تداعياتها النفسية والذهنية التي تدور حول تيمتين متداخلتين [الحبّ والانتظار] وتسخر فيها من فكرة الانتظار وعبثه. والمفارقة الأخرى تظهر دائماً في السطر أو المقطع الأخير بما يشبه البتر/ القطع والكولاج للاحتفاظ بالأمل. وفي قصة (المهجّرة) تتعرض للتهجير القسري الذي طال آلاف العوائل العراقية وبأساليب وطرق وحشية مختلفة. [عائلتي كانت سعيدة ومتماسكة. لم يرد أحد الفراق. أرغموا على الذهاب إلى أماكن مختلفة. زوجي جاءوا وأخذوه إلى منطقة نائية قال أنه سيعود بعد ساعة وأنه مطالب أن يجيب على بعض الاسئلة. وعدني أنه عائد حتماً وطالت غيبته[...] ولدي الأكبر خرج واعداً أياي بالعودة بعد ساعة والساعة تكبر وتتضخم وتتضاعف وتتناسل والرعب يجتاحني[...] ابنتي الوحيدة ذهبت لزيارة صديقتها طلبت منها أن لا تخرج ثم تراجعت عن طلبي فهل أقيّد ابنتي؟ طال انتظاري لأوبتها. كلّهم رحلوا وما كانوا يريدون الرحيل.] ص14. أما على صعيد الفعل فتستخدم البرد دالة على الهجرة في إشارة للظروف الجوية القاسية أثناء التهجير عبر الحدود مشياً على الاقدام وعدم وجود مخيمات أو ملاجئ إنسانية دولية تحميهم وتحفظ كرامتهم. ومصطلح [المهجّرة] في العنوان هو الآخر يحمل دلالة اجتماعية في العرف العام وفي قانون الاحوال الشخصية، عندما ترفض الزوجة طاعة الزوج أو قرار المحكمة الشرعية!. وقد وردت هنا بمضمون سياسي. وفي قصة (أعود بعد ساعة) ص19 زوج يخرج لقضاء وقت مع اصدقائه واعداً زوجته بالعودة كما يرد في العنوان، ولكنه يتأخر. يذكر أن عبارة العنوان وردت في القصة السابقة لها وبدلالة سياسية هي الأخرى. وتتحدث قصة (إمرأة سيئة السمعة) ، عن شخص (يسافر) ويترك مفتاح منزله الخاص لدى أخيه الذي يشي بزوجته ويسمح لجمع من الرجال بدخول المنزل ثم يبلغ السلطات بعلاقة زوجة أخيه بأولئك فتذهب ضحية وشاية. وهذا هو عنوان القصة التالية /ص33 وفيها تستلم البطلة اتصالاً هاتفياً من إمرأة تقول أنها تعرفها وتعرف منزلها وغرفة نومها وتعرف زوجها الذي تثق به. ويدفع ذلك البطلة لمغادرة المنزل وقيادة السيارة بسرعة عالية حتى يوقفها البوليس. و(المطاردة) التي قد توحي بها القصة السابقة في مشهد السيارة، عنوان قصة تالية يلاحق فيها شخص ظل إمرأة معتقداً أنها زوجته ويبدو في هذه القصة كما (إمرأة سيئة السمعة) دور الدجل والتواطؤ الاجتماعي في إلحاق الضرر بالغير. أما قصة (البناية) ص45 فتبقى أسيرة الغموض والتورية. وتتحدث قصة (الانتظار) ص51 عن إمرأة تعاني من حالة النسيان وتنتظر دورها للمعالجة الطبية في قاعة تحفل بالمنتظرين. أما (الطاعون)57 فيرد في جمل تحذيرية منه وشخص يتسلق بناية ليكتب قصائده. وتطغى الرمزية على هذه القصة دون أن تخفى الدلالات. مثل ذلك قصة (ساق للبيع)ص63 قصة زوج فقد ساقه في الحرب ولا يستطيع تغطية تكاليف العلاج فيضطر لبيع ساقه السليمة لمعالجة ساقه المبتورة بكل ما تحمل من فنطازيا ورمزية.
كما تعكس القصص احتفالاً بالعادات الشعبية والطقوس التراثية التي تعرضت هي الاخرى للمصادرة مثل مجالس العزاء الحسينية (ص71) أو (أعياد الربيع)ص85. ان ظلال السياسة المباشرة أو غير المباشرة لها حضور في كل القصص. بعبارة أخرى أن الدافع السياسي هو المحرك الأساس لهذه القصص، حاولت المؤلفة الالتفاف عليه من خلال الاثار الاجتماعية المترتبة على العائلة العراقية جراء ذلك والأسئلة المفتوحة حولها. حاولت المؤلفة في البداية متابعة سياق محدد في تطور الحدث ولكنها انقطعت عنه وتأرجحت بين الخطاب الاجتماعي والسياجتماعي. وتبقى القصص بعد ذلك التقاطات ذكية لجملة مفردات تشكل جوانب المشهد العراقي الإشكالي المفتوح على تأويلات واحتمالات وأسئلة لا تنتهي.

 (إمرأة سيئة السمعة) صبيحة شبّر- مجموعة قصص قصيرة/وكالة الصحافة العربية- القاهرة- 2005/ ص100. والمؤلفة ليسانس لغة وأدب عربي، مارست التعليم الثانوي في الكويت والمغرب حيث تقيم منذ 1986. صدرت لها: مجموعة قصص بعنوان (التمثال)/ 1976 في الكويت.
 تعبير استخدمه الشاعر والناقد حسن النصار في قراءته لصورة المرأة في قصص لطفية الدليمي – راجع: مجلة ضفاف الثقافية ع5 لسنة 2000/ عدد خاص.
· نجيب محفوظ
 وديع العبيدي شاعر وكاتب عراقي، مقيم في النمسا. اصدر عدة كتب شعرية ونقدية وانطولوجيا شعرية عراقية (1980- 2000) ويدير مجلة ضفاف الثقافية.


///


محاولة


صبيحة شبر
وقفت أمام المرأة، وحاولت أن أرسم ابتسامة على وجهي ، لم تطاوعني شفتاي ، وبدا فمي يابسا متشققا ، ولساني مخلوق غريب ، قد فارق الحياة
وعيناي حزينتان، عضلاتي تؤلمني، والفم كأنه لم يذق طعم الماء منذ أمد طويل ، رقبتي نافرة العروق ، هالني منظري ، أردت أن أبكي ، لكن دموعي قد جفت ، وعيناي حفرتان قد سكتهما الألم ، شعرت أن الأرض تميل بي ، وأنني لاأ قوى على الوقوف ، كانت كلمات طبيبي ترن في أذني ، بذلت جهدا كبيرا كي أطيعه
- حاولي أن تضحكي ، ما إن تحيطك الهموم ، وترهقك السموم ، تسلحي بالضحك ، فهو خير بلسم
فمي جاف ، ولساني عضلة يابسة ، الفراغ يحيط بي ، يلبسني ، يثقل كاهلي ، يزهق روحي
أنت ميتة ، مخلوقة محنطة ، جوفاء ، هجرتك الحياة ، مللت منك
المرآة تضحك مني ، تنظر إلي شامتة ، تخرج لسانها ، تسخر من عجزي واستسلامي ، وددت لو أفعل شيئا ، أن أنتصر عليها ، أحطمها ، أجعلها قطعا متناثرة ، واتي بواحدة أخرى جديدة تصدقني الحديث
- ابتسمي ، تري الوجود جميلا ، اهربي من سجنك ، حطمي قيودك ، ثوري على جلاديك ، انتصري لمبادئك وقيمك
ماذا عساي أن أفعل وأنا غريبة هنا ؟ كبر الأبناء وتركوني ، فارقت أهلي وأحبابي منذ دهر ، ولا أصدقاء لي هنا ، أحبابي رحلوا ، اقتنصوا حياتهم الواحد تلو الآخر ، ومن استطاع النجاة من عقابهم اختار ملجأ بعيدا ، بيني وبينهم بحار شاسعة ، وأنا لا أحسن السباحة ضد التيار ، أصبحت خانعة أرضى بما يبتغونه لي
- لم أعد أريدك ، هرب منك الشباب ، أخرجوك من العمل وكنت اطمع أن، تعيليني
- ابتسمي ، وان فقدت كل شيء ، المال ، الوطن ، الأهل ، الحب ، حاولي أن تبتسمي ، ما زالت الحياة لك ، الغضب يقضي عليك
أضحك بصوت عال ، أقهقه ، أغلق علي الباب ، أفتح جهاز التسجيل بصوت يعلو على ضحكاتي ، فيروز تشدو
- لم لا أحيا وظل الورد يحيا في الشفاه
المرآة تنظر إلي بتفهم ، تدعوني إلى التحدث إليها عما يؤلمني ويشجيني ، أضحك من جديد ، أفكر بما هو خير ونبيل في الحياة ، أبعد المساوي عن فكري ، أتنفس بعمق ، أستعيد المواقف النيرة الجميلة التي قرأتها وأمنت بها ، أعاود الضحك تنتصر إرادتي ،تنقشع الغيوم السوداء ، اضحك واضحك ، اقمع إرادتي ، في البداية ، لا تطيعني شفتاي ، أغلق الباب علي بإحكام لئلا يشك أحدهم بسلامة قواي ، ارفع صوت المذياع ، فيطغى على صوت ضحكي المفتعل ، مازالت فيروز مستمرة في شدوها
- لم لا أحيا وظل الورد يحيا في الشفاه
، تبدو الضحكات ميتة لا حياة فيها ، أعاود من جديد ، رغبتي في تغيير حياتي ينبغي أن تكون حقيقة ، الأحلام تبدأ بخطوة ، يزايلني التردد ، أعاود الضحك ، علي أن اقهر خنوعي واستسلامي ، الإنسان مخلوق قوي ، إن تردد يوما فانه يعود إلى الحزم والعزم مرة أخرى ، هذا ما علموني إياه سنين عمري التي مضت دون أن أشعر بها ، أيقنت أن الأسف لن يعيد شيئا ، علي أن أعيش يومي ولا أأسى لامسي أو أتشاغل بغدي ، ينبغي أن أتحلى بإرادتي ، اضحك من جديد ، واضحك مرة أخرى ، تطاوعني إرادتي ، أحاول ان أبتسم ، فأعجز عن تحقيق رغبتي ، ابتسامتي باهتة ، أحاول من جديد ، أفشل ، وأتابع المحاولة ، ابتسم ،فلا يكون انتصاري كاملا ، اقمع شعوري بالانهزام ، أبتسم ملء فمي ، لم تعد شفتاي يابستين ، ولساني يعبر عما يريد بطلاقة
البريق يعود إلى عيني ، الأخاديد تختفي عن وجهي ، وعن عنقي ، وفمي يزايله الجفاف ، وابتسامتي تعود حقيقية
- أضحكي تتبدد همومك ، السحب السوداء تنقشع ، يهرع الغيث إلى ربوعنا محولا قفارنا إلى حدائق غناء
- كبر الأولاد وأنت هرمت ، وأنا لازلت شابا في روحي وسأحيا ما دامت الحياة تدعوني ، وأنت كهلة تندبين حظك
- ابتسمي ، يزهر قلبك ، وتقوى إرادتك ، ينهزم ضعفك ، تينع ثمارك ، وتسعد حياتك ، يولي ضعفك
سالت دموعي على وجهي ، وأسعدني أن أكون قادرة على البكاء
مخلوقة جديدة أمامي ، متفائلة ، واثقة تحب الحياة ، تهزم همومها بالضحك ، قادرة على الابتسام
صممت أن أبدأ من جديد ، فما زلت معافاة في جسدي ، أملك قوت يومي ،
أحيا آمنة في قومي
- لم لا أحيا وظل الورد يحيا في الجباه