العجوز
"لن ينام سكان الحي الليلة..."
همس العجوز في أذن الفتى الجالس إلى جواره و هو يمرر يدا ذهبت نضارتها على شعيرات بيض أبت إلا أن تتشبث برأس أضحت جرداء كأرض نضب فيها رحيق الحياة...
دقات *البندير و *الطعريجة تتقاطع فيما بينها في انتظام و تناغم، و أصوات نساء المجموعة الغنائية تساير جرات كمنجة رئيسها...
كان هذا المزيج يصل إلى العجوز و هو يقتعد كرسيا إلى جانب مدخل الدار، فيهز رأسه معبرا عن استحسانه، و رغبته في أن تطول جلسته هذه الليلة...
الليلة، ليلة عرس..
و حضوره دليل تعلق متين بالأسرة التي آوته و احتضنته في زمن عصيب، و جعلت منه ، مع توالي الأيام، فردا من أفرادها...
ـ مستر هوفمان، هل أعجبتك الأنغام؟
و هوفمان و كأنه لا يسمع..
ـ مستر هوفمان يريد أن يأكل من لحم الذبيحة..
هوفمان يضرب بقدميه على الأرض ضربات موزونة تساير إيقاع الموسيقى الصاخبة المنبعثة من عمق الدار...
ـ كم بقي له !؟..
ـ الأعمار بيد الله..
ـ كله شباب... انظر إلى قدميه تسايران الإيقاع بمهارة..
ـ كأنهما قدما شاب..
ـ يحب الطرب..
ـ و هل هذا طرب؟..
ـ مستر هوفمان، أين أنت سارح؟..
و ينتفض العجوز..
يهزه السؤال..
يتذكر كيف أن الأقدار رمت به هنا بعيدا عن الجذور ..
بعيدا عن التربة و الماء و مرتع الطفولة، بعد أن طاف و جال بقاعا، و عرف شعوبا، و تعلم لغات و لهجات، و شاهد ما شاهد، و بعد أن فقد آخر ما كان يربطه بالأرض الأولى: الزوجة و الولد، في حرب أهلية وُجِدُوا في أتونها صدفة.. و كيف أنه في لحظة من لحظات العمر، قرر أن يجعل من هذه البلاد ملجأه، و ملاذه الأخير..
ازدادت حدة الموسيقى..
و تعالت الأصوات حتى قاربت الصراخ تحاول جاهدة مسايرة إيقاع البندير و الطعريجة و جرات الكمنجة..
و يستحضر هوفمان من عمق ذاكرة عمرها ثمانية عقود، ليلة عرسه...
كانت ليلة ضحك فيها القمر و غنى..
و سهرت الطيور في أوكارها على غير العادة...
كانت ليلة كؤوس طافحة بالنشوة و الفرح..
ليلة أكل، التهمت فيها أكتاف و أفخاذ أكثر من ذبيحة واحدة...
و الكل غنى و رقص حتى الصباح..
و حبيبته فراشة رقيقة الأعطاف تختال في ثوب زفافها الأبيض...
و هو الأمير الوسيم السعيد الذي لا تسع الدنيا حجم سعادته...
أين تلك الوجوه الآن؟..
كيف صارت؟..
أين استقر بها الحال؟..
هل ظلت حيث كانت؟..
أم ترى تركت مثله الأرض و الديار و ركبت سفن الهجرة؟..
و تمُر، تمُر..
تمر في المخيلة صور أرض و وجوه، و لا تترك خلفها سوى بعض الرائحة..
هوفمان يبتسم..
هوفمان يدندن..
هوفمان يتنهد من الأعماق..
دمعة تنساب..
واحدة فقط..
تنساب في بطء..
و كأنما تنساب على إيقاع موسيقى جنائزية..
و تتوقف عند الخد...
هوفمان يبكي..
هوفمان يغمض عينيه...
ـ ما بك سيدي هوفمان؟..
ـ هل أنت متضايق؟..
ـ سيدي،...
هوفمان ينسحب و الابتسامة لا تفارق شفتيه..
في صمت ينسحب..
و من عمق الدار تنطلق زغرودة طويلة...
ـــ
البندير و الطعريجة: آلتا إيقاع
المفضلات