نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي الجحيم هم الآخرون حول مسيح " محسن شعلان "

1- الذات كمعادل تصويري :
قليل من التأمل للأعمال التصويرية للفنان " محسن شعلان " يكشف بجلاء عن كونه من أولئك الفنانين الذين تمثل مفردة الذات الشخصية محورا مركزيا دائم الطفو على مساحة المسطح التصويري ؛ فبطله الخاص – و هو في رأيي لا يخرج عن كونه معادلا تصويريا لشخصية " محسن شعلان " ذاتها – يطالعنا دوما بعينين تفيضان أسى يتراوح بين بث الشكوى و توق الإفلات ، غير أنه لم يكف يوما عن استشراف الوعد بالانعتاق .
و يتحول هاجس الوأد إلى ما هو أشبه برهاب الأماكن المغلقة Claustrophobia على مستوى التكوين الفني في لوحات " شعلان " ؛ فيطالعنا بطله الأسمر بعينيه الأسيانتين مرة من خصاص ألواح خشبية منفرجة متآكلة ، بقدر ما هي حائل دونه و الانطلاق إلى العالم الرحب بقدر ما يكشف تآكلها عن مدى هشاشة داعية للسخرية ؛ و كأن الأسى في عيني البطل ( الشعلاني ) لا ينبع من قلة في الحيلة بقدر ما ينبع من مفارقة إجباره على الاحتجاز خلف سواتر هشة سرعان ما يتخطاها حين تسنح لحظته القصوى .
و أحيانا أخرى ينخرط البطل في جدلية لا طائل منها مع الكرسي – سواء كمفردة أو كعدد من الكراسي – بكل ما يضمه هذا العنصر من ترميز على كافة المستويات ؛ و هي محاولة خطيرة إذا ما أخذنا في الاعتبار غزارة التجارب الفنية التي استحضرت عنصر الكرسي بصريا مما قد يلقي بظلال احتمالية الوقوع في فخ التكرار ، إلا أن " شعلان " لا يني يستجمع مخزونه من المغامرة ، واثقا أن سرده الذاتي لغمار تجربته كفيل بأن يطبع مجموع الحالة بطابع مغاير تماما لما هو مألوف و معتاد .
إلا أن ما يشدهنا حقا هو تحول واحدة من مفردات الأناقة الشخصية و الوجاهة الاجتماعية إلى نقيض من الأغلال و وسائل التعذيب ؛ و ذلك حين يفتل من أربطة العنق أشطانا طوالا تلتف حول الجسد الناحل لبطله كاتمة فاه دون الصراخ الاحتجاجي و محيلة مظهر أناقته إلى مصدر لتعذيبه .
2- الأنا المجهضة في مقابل جحيم الآخر :
و إذا كان " جان بول سارتر " قد أطلق صرخته المشهورة ( الجحيم هم الآخرون ) معبرا عن واحدة من أهم دعائم فلسفته الوجودية التي ترى في جدلية العلاقة بين جوهر الكيان البشري بوصفه ( أنا ) مع توافه و حتميات العلاقات المحيطة لدى ( الآخرين ) نوعا من أنواع الجحيم الذي لا تني النفس تتقلب في عذاباته التي تتفاقم بقدر ما يحوزه الفرد من وعي بالذات و بالكون
؛ و بذلك يتزايد عذاب الفرد و يبرح به الألم كلما زاد نصيبه من الوعي و الثقافة ؛ لأنه يكون في هذه الحالة أكثر وعيا بتوافه و زيف هذه العلاقات التي لا يملك إزاءها اختيارا ، فلا يكون أمامه سوى التقلب في دوائرها المفرغة مرغما معذبا . فنجد على الجانب الآخر أن موازيات هذه الرؤية في تاريخ الفن – أو بالمعنى الأقرب إلى لغة الفلسفة ( ماصدقاتها ) – تتمثل في سلسلة من الأعمال التي يمكن توصيفها باختصار – من حيث جوهر الموضوع – على أنها الأعمال التي تبحث في جدلية العلاقة بين ذات الفنان شخصيا و بين وقائع و ملابسات علاقاته بالآخرين – تبعا لرؤيته و إحساسه بهذه الوقائع و الملابسات – و التي تعكس في معظم الأحيان رؤية تشكيلية معالجة لأوجاع روحية يبسطها أصحابها على مسطحاتهم التصويرية كنوع من أنواع السير الذاتية المصورة و المصاغة في قوالب ( كنائية ) Allegorical .
و قد اشتهر عدد من المصورين على مستوى طرح الذات من خلال نسق العلاقة المشار إليها . و ربما تقفز مجموعة " رمبرانت " التي كرسها لرصد التحولات التي طرأت على مسار حياته – و المأساوية بشكل عام - من خلال تسجيل تطور ملامح البورتريه الذاتي الخاص به ؛ إلا أن هذا المثال – برغم شهرته – يخرج عن نطاق المفهوم الذي أعالجه في دراستي هذه ؛ حيث العلاقة بين ( ذات ) الفنان و بين ذوات ( الآخرين ) بوصفهم كيانات بشرية منخرطة في علاقات فعل و رد فعل ، قبول و رفض ، استحواذ و إذعان ، قمع و انكسار ... إلى آخر أوجه جدليات العلاقات الإنسانية ، و ذلك على العكس مما يتجلى في طروحات " رمبرانت " من توحد مبعثه غياب ( الآخر ) .. الطرف الأساسي و الشريك الذي بدونه تنهدم القضية الجدلية و ينعدم المركب كلية.
3- لا وعي " بوش " ... مهرج " إنسور " ... و مسيح " شعلان " :
برغم كونه مصوراً ، إلا أن تناول إنتاج " هيرونيموس بوش " Hieronymus Bosch ( حوالي 1450 - 1516 ) بالتحليل يفصح بجلاء عن تأثير واسع المدى على رؤية فناني الغرب للعوالم التي تلعب فيها قوى الشر دورا وسطا بين تأريق لا وعي الفرد و بين تنغيص يقينه الديني ، متأثرين في ذلك بما ابتدعته قريحة " بوش" في هذا المضمار بأسلوب غير مسبوق ، ومؤثراً في ذات الوقت على عدد من أشهر المصورين في زمنهم ممن استلهموا رموزه ومفرداته أو أعادوا استخدامها كما هي. و كان بوش يستمد موضوعاته من أهاجي العصر الوسيط وقصصه الرمزي و حكاياه الشعبية الخرافية الشائعة أو من المزاولات الخفية أو السحرية المتداولة .. وهكذا كان بوش أيضاً يعكس صور زمانه وبيئته . و كما رأى الدكتور " ثروت عكاشة " يبدو أن أهم دافع له لتصوير الموضوعات المتعلقة بالنار بدلاً من الجنة مرده إلى ما تسلط عليه من وساوس شديدة نابعة عن مواضع خفية في وجدانه ... إن رموز بوش تنطوي على تناقض وجداني تتكافأ فيه الأضداد ، فهي من ناحية تعكس الأفكار السائدة في عصره ومن ناحية أخرى تخضع لتفسيرات التحليل النفسي التي تفصح عن رغباته المكبوتة .. وقد استغرق بوش الانشغال بتلك الغرائز التي تعرض خلاص الإنسان للمخاطر . هذه الرؤية - التي تفصح عن نفس قلقة حائرة مابين وساوسها الباطنة وبين نظرة مجتمعها وتصوره لعوالم الخطيئة والجحيم وعلاقتهما بقوى الشر – اعتمد صاحبها على عدد من المفردات البصرية والصياغات الشكلية التي توسع في استخدامها للدلالة على تلك الجدلية و هو ما يتضح بجلاء في واحد من أهم أعماله التي تتناول فصلا من فصول مأساة الصلب ؛ حيث أحيطت شخصية المسيح بعدد من الشخصيات التي تعكس ملامح وجوهها تنويعات متعددة لصفات تنضح بخبث الطوية و سوء المقصد ، مما يجعل المتلقي مجبرا على التعاطف مع الشخصية المجسدة للمسيح و التي تتطلع بدورها ناظرة في عين المشاهد نظرة تساؤل أكثر منها نظرة استعطاف ( شكل رقم 1 ) .
شكل رقم 1 – بوش – المسيح .
و تأتي الإحاطة الاستحواذية للكيانات الكريهة ( الآخر ) بالشخصية المهيضة المستلبة للبطل
( الأنا ) مغايرة على المستوى الظاهري للعمل السابق ؛ حيث حولها الفنان البلجيكي " جيمس إنسور " James Ensor إلى علاقة تهكمية – و إن لم تخل من مأساة ، شأنها شأن معظم أعماله – فهي علاقة يحيط فيها نفر من المهرجين بزميل لهم يعالج لحظات الاحتضار على الأرض ، و برغم المساحيق و الأقنعة التي تغطي الوجوه إلا أننا لا نعدم إحساسا عاما بوجود كيانات كريهة كامنة خلف الأقنعة الساخرة . و يتجلى سوء طويتها من عدم تورعها عن التحلق الساخر حول جثة من يوقعه حظه العاثر ضحية للهاث البشري المجنون ، حتى لو كان زميلا حميم العلاقة . فالعلاقة هنا تفصح لدى " إنسور " عن سقم حقيقي يتجاوز سحق ( الآخر ) للأنا إلى وحشية هذه ( الأنا ) التي تمارسها حتى على الأفراد الذين يمثلونها على مستوى النوع .
( شكل رقم 2 ) .
شكل رقم 2 – إنسور – مهرجون .

و بالمقارنة بين المعالجتين السابقتين يتضح أن نسق هذه الجدلية من الثراء بحيث يسمح بتعدد إمكانيات التطوير الفني تبعا لتعدد الفلسفات و الظروف التي يصدر عنها كل فنان ؛ و هو الأمر الذي يضع إطارا لتحليل أحد أعمال " محسن شعلان " و التي تأتي في سياق نفس الجدلية .
يصوغ " محسن " جدليته الخاصة بإظهار خمسة شخصيات محيطة ببطله القابع في انكسار ، إلا أن قليل من التأمل في ملامح و أوضاع هذه الشخصيات يعكس اختلافا عما سبق و أظهره كل من " بوش " و " إنسور " من جبروت و سوء طوية ؛ فشخصيات " محسن " في الواقع شركاء في الهم و الأوجاع للبطل الكسير ، و هو ما تعكسه رقة حالهم و مآسيهم التي تركت جروحها مستترة في لفائف حول أعضاء معظمهم . إلا أنه يبدو أن " محسن " برغم هذا التعاطف و المشاركة المصيرية لا يعفيهم من المسؤولية ؛ و ذلك حين يعمد إلى الرمز في اختيار الأعضاء المكفنة لثلاثة منهم ( الأذن – الفم – العين ) محيلا إلى الصيغة الشهيرة
( لا أرى ، لا أسمع ، لا أتكلم ) . و كأن هذه الشخصيات بقدر ما تشارك البطل في ذات الهم و المصير إلا أنها لا تخلوا من مسؤولية المشاركة في هذا المصير ؛ و ذلك عن طريق العزوف السلبي عن تغيير وقائع هذا المصير ، أو مد يد المساعدة للبطل الذي ينتمي إليهم بصلة القربى ، أو حتى على الأقل بتحمل المسؤولية كشهداء على الغبن الواقع على زميلهم .
و برغم أن بطل " شعلان " لا يستحضر الموت في المستقبل القريب كما يفعل مسيح
" بوش " و لا يعاني سكراته كمهرج " إنسور " إلا أن الحضور العدمي شديد الوطأة الذي يمارسه الغراب الأسود – كرمز للموت و الخراب ضارب في عمق اللاشعور الثقافي لعدد كبير من المجتمعات و منها المجتمع المصري – يلقي بظلال قتماء كابية من هاجس توقع الرحيل لدى المتلقي ، ربما لا يكون رحيلا لبطل العمل بقدر ما هو توقع لزوال هذه المنظومة السقيمة من الإحاطة الخرساء من قبل شخصيات لا تنافح عن سر وجودها .
و لا يهمل " محسن " الدلالة التكوينية لبنية العمل ، فنجده قد أشرك الخلفية في البناء التعبيري لمفهوم العمل ؛ و ذلك حين أحاط الشخصيات بالدائرة الزرقاء التي تحيل إلى فعل التكرار ، و كأنه يريدنا أن نعرف أن هؤلاء الأفراد الذين يطالعوننا في عمله ما هم إلا وحدة واحدة من ملايين الوحدات التي تكرر ذات العلاقة السقيمة في كل مكان و زمان .
و كمصور محترف لا يفوته أن يلبي نداء الإيقاع و ذلك حين يعاود ترديد الدائرة أعلى العمل مراعيا قانون العود Law of Repetition في صورة شمس حمراء ، لا تعكس بهجة بقدر ما تكرس لإحساس دموي . ( شكل رقم 3 ) .
و بذلك يؤكد لنا مسيح " محسن شعلان " أن الجحيم ... هم الآخرون .