نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيعندما لا يعتني الحَمّـَارُ بـ: " حِمَارهِ"..

لقد وردت كلمة "الفساد" في القرآن الكريم على لسان الملائكة عندما خاطبهم الله تعالى بأنه سيجعل خليفة في الأرض، وكان ردهم التالي: ( أتجعل فيها من يفسد فيها و يُسفِكُ الدماء، و نحن نسبح بحمدك ونقدس لك..الخ )، لقد تنبأت الملائكة بأن"الفساد" سيظهر بمجيء "البشر" و يكون على أيديهم، و هذا ما يؤكد على أن ظاهرة الفساد "حتمية" لا مفر منها، و لا يوجد لها علاج..

كان "الحقد" و "الغيرة" المنطلق الأول للفساد، تمثل في "القتل"، عندما تمكنت الغيرة من "قابيل" و دفعته إلى قتل أخيه "هابيل"، و من هنا بدأت كذلك عملية سفك "الدماء" وهي أول جريمة في تاريخ البشرية.

"الفـْسَادْ هو السّاهل" مقولة شعبية يرددها العامة من الناس، و قد تنطبق هذه المقولة على كل أنماط الحياة، فإذا أردت أن تفسد أمة فعليك بأخلاقها، و النظم إذا أرادت أن تذل شعبا ، تزيد الأسعار و تسلط عليه القوانين، وهو ضرب من الفساد، و ما أكثرهم المفسدين.

"الفساد" يعني هدم ما بناه الآخر، و هذا النوع من الفساد له أثر سلبي على الإنسان في نفسه و ماله، و " الهدم " يعني الفساد حتى لو كان له طابع إيجابي، و الهدم الذي نقصده هنا هو العمليات التي تشنها السلطات المحلية لولاية قسنطينة المتمثلة في القضاء على السكنات الهشة و الأحياء الفوضوية و البيوت القصديرية على غرار بعض الولايات الأخرى التي تنتشر فيها هذه الظاهرة..

فالعملية التي شهدتها ولاية قسنطينة مؤخرا بترحيل سكان شارع "رومانيا" تجعل كل منّا و هو أمام تلك الأتربة المتراكمة بعد عملية الهدم، يقف وقفة تأمل للآثار التي يتركها "الهدم"، هذا العملاق الذي بقرار واحد و في مدة زمنية قصيرة جدا قضى على "جيل" بل "أجيال" بكاملها، و أبعدها عن كل ما يربطها من ذكريات الطفولة و الشيخوخة.

الكثيرون من سكان شارع رحماني عاشور ( باردو) الذين رُحِّلـُوا السّنة الماضية إلى المدينة الجديدة علي منجلي يؤكدون أنهم لم يتأقلموا مع نمط الحياة الجديدة، و هم يقفون يوميا على "الأطلال" يتذكرون ذكرياتهم، فهذا يردد قائلا: من هنا كنت أراقب فتاة الجيران، و في ذلك البيت كان عرسنا، و آخر يقول : (الدار هذي بنيتها أنا و العجوز طوبة طوبة و شفنا فيها الحلوة و المرة)، و اليوم..؟ و يأخذ تنهيدة من أعماق الأعماق، و نسمع إلى عجوز أخرى تقول:( إيه على أيام "باردو" كان قريب بزاف للبلاد، اليوم طـَيْشُونَا بْعِيدْ و خَلاوْنـَا نـْسُوفـْرِيوْ مع التـْرَانـْسْبُورْ )..

و هي المأساة التي يعيشها اليوم سكان" رومانيا " من المقصيين اليوم ، الذين يقيمون بالمدرسة الابتدائية بباردو ، أثاثهم ملقى بساحة المدرسة، و قد تعرض إلى التلف جراء الأمطار الغزيرة التي تساقطت الأيام الأخيرة من الأسبوع المنصرم، قمنا بزيارة تفقدية إلى هذه المدرسة، وكان أحد الموجودين بها، و هو شاب تزوج حديثا و لم يكن اسمه ضمن قائمة المستفيدين ، يقف بجانب اثاث بيته وردد: انظري إلى غرفة النوم الجديدة كيف آل وضعها، لماذا هذا الفساد؟..

ثمة أسئلة لابد من طرحها، هل الفساد إيجابي أم سلبي؟ و من هم الناس الأكثر فسادا ؟ هل المواطن أم الدولة، أم كلاهما معًا..، حقيقة سمعتها من أحد التجار من الجنس "الأصفر" بمدينة قسنطينة، و صاحبنا هذا عرف كيف يتأقلم مع الجزائريين و تعلم مخاطبتهم بـ: "العربية" قولا و كتابة، وكان هذا الأخير قد دخل يوما ما بيت أحد المواطنين فوقف على حقيقة هي أن الجزائريين يكرهون "النظام"، بدليل بيوتهم من الداخل نظيفة و منظمة، و شوارعهم تأكلها الفوضى والأوساخ، و كان رد الصيني : أنتم تنتقمون من ***التي لم توفر لكم العيش الكريم (النقل و السكن و ما إلى ذلك)..

ربما هذه الملاحظة فيها نوع من الصدق، لأن "الحَمـَّارُ" أي (صاحب الحِمَار) لم يحافظ على حماره، و تعود بي الذاكرة إلى قصة "ابن بطوطة" عن العصور الماضية ، كانت في بعض البلاد الفقيرة حتى اليوم – المواصلات ونقل ألأحمال على ظهور الحيوانات كالجمال و البغال، وكانت الحمير لصبرها و قوة تحملها، و هدوء طبعها، و قل كلفة علفها و طعامها أكثر الحيوانات استخداما للنقل و التنقل، و كان الحَمَّارَةُ يقتنون الحمير و يعتنون بها، لتأجيرها لصحاب الحاجة و يعيشون من مردود هذه الحمير، لذلك كان صاحب الحمار يحرص يوميا على العناية بالحمار في طعامه و شرابه و نظافته و موضع نومه، حتى يحافظ عليه و على صحته للعمل اليومي الشاق ، و قد لا يعتني صاحب الحمار بنفسه قدر عنايته بحماره، لأنه لو هلك حِمَاره ضاع معه رأس ماله و مصدر رزقه، هكذا النظام اعتبر الشعب "حمير" ، دون أن يعير أي اهتمام بهذا الحيوان الصبور..

لا أحد يمكنه أن يجزم إذا كان استنتاج هذا الصيني حقيقة أم لا، لكن من أراد الوقوف على الحقيقة عليه بزيارة المحاكم ليشهد الفساد و أهله، و إن كان بعض المتورطون في قضايا الفساد هم اليوم أمام العدالة، إلا أن هذا العدد لا يشكل إلا نسبة قليلة جدا (قطرة من ماء البحر) من المفسدين الحقيقيين الذين هم أحرارا خارج الأسوار، و يتمتعون بالحقوق المدنية و السياسية و بالحصانة البرلمانية، (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منها الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون) ..