سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي
المرضى والبعد الإنساني في الحضارة الإسلامية
الدكتور راغب السرجاني
هناك بعد رائع تميز به الأداء الطبي عند المسلمين في زمن حضارتهم، ذلكم هو البعد الإنساني، والذي يكمن في احترام الإنسان بصفة عامَّة, والسعي الحثيث لرفع المعاناة والألم والحرج عنه، أيًّا كان هذا الإنسان, وأيًّا كانت معاناته.
المنهج الأخلاقي في التشريع الإسلامي
ولم يكن غريبًا على أطباء المسلمين أن يهتموا بالبُعْدِ الإنساني في تعاملهم مع المريض؛ لأن قوانين التشريع الإسلامي تنطق بهذا النهج الأخلاقي الفريد؛ فالإسلام ينظر إلى المريض على أنه إنسان في أزمة، ومن ثَمَّ يحتاج إلى مَنْ يقف إلى جواره، ويأخذ بيده، ويرفع من معنوياته، ويهدِّئُ من روعه، ويخفِّفُ عن آلامه الجسديَّة، فضلاً عن المعنوية.
فالتشريع الإسلامي يسعى إلى رفع الحرج عن المريض بكل وسيلة، ويخفِّفُ عنه الأعباء إلى أقصى درجة؛ فجعل للمريض رخصة الإفطار في رمضان، وإنْ عَاقَهُ اعتلال صحَّته عن الحجِّ فلا حجَّ عليه، وليس عليه إثم، كما أن المريض الذي لا يستطيع الصلاة على صورتها الطبيعية يُعطى رخصة الصلاة في أوضاع تناسبه جالسًا أو نائمًا، أو حتى بِعَيْنَيْهِ! والمريض الذي يضرُّه الماء في الوضوء يتيَمَّمُ، والذي لا يستطيع الوضوء ولا التيمُّم لسبب ما يُصَلِّي دون أيٍّ منهما، ويُسَمَّى فَاقِدَ الطَّهُورَيْنِ!
بل إن التشريع الإسلامي لم يكتفِ برفع بعض التكاليف، والترخيص في بعض العبادات والفروض، وإنما يحضُّ وبشدَّة على الوقوف إلى جوار المريض، ورفع رُوحه المعنوية إلى أقصى درجة؛ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم زيارة المريض وعيادته في بيته، أو في المستشفى حقًّا له على المسلمين، فقال فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه : "حَقُّ الْـمُسْلِمِ عَلَى الْـمُسْلِمِ سِتٌّ...". وذكر منها: "وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ"[1]. ثم بَشَّر بالجنة نصيبًا لمن عاد مريضًا، فقال فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: "مَنْ عَادَ مَرِيضًا نَادَى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْـجَنَّةِ مَنْزِلاً"[2].
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تذكر الخير عند المريض، وأن ترفع من روحه المعنوية، وتُطْمِعَهُ في الشفاء وفي طول العمر، فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْـمَرِيضِ فَنَفِّسُوا لَهُ فِي الأَجَلِ[3]؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَرُدُّ شَيْئًا، وَهُوَ يَطِيبُ بِنَفْسِ الْـمَرِيضِ"[4].
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتفع برُوح المريض المعنوية إلى السماء عندما يخبره أن هذا المرض هو كفارة لذنوبه، وهو مدعاة لنجاته في الآخرة إن صبر، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَا يُصِيبُ الْـمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ، وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ"[5]. ويقول فيما رواه أنس رضي الله عنه: "إِنَّ اللهَ قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ[6] فَصَبَرَ، عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْـجَنَّةَ"[7].
وهكذا ترتفع معنويات المريض المؤمن إلى السماء، ولا يشعر بأنه أصبح كمًّا عاجزًا مهملاً في المجتمع، بل إن الجميع يهتم به ويرعاه.
تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع المرضى
فنجد النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع بمريض أسرع لعيادته في بيته؛ مع كثرة همومه ومشاغله، ولم تكن زيارته هذه مُتكَلَّفة أو اضطراريَّة، وإنما كان يَشعر بواجبه ناحية هذا المريض.. كيف لا وهو الذي جعل زيارة المريض حقًّا من حقوقه؟! فقال صلى الله عليه وسلم: "حَقُّ الْـمُسْلِمِ عَلَى الْـمُسْلِمِ خَمْسٌ... وَعِيَادَةُ الْـمَرِيضِ..."[8].
فكان صلى الله عليه وسلم -وهو المُرَبِّي والقدوة- يُهَوِّن على المريض أزمته ومرضه، ويُظهِر له - دون تَكَلُّف - مُوَاساته له، وحرصه عليه، وحبَّه له، فيُسعد ذلك المريضَ وأهلَه، وفي ذلك يروي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فيقول: اشتكى سعد بن عبادة رضي الله عنه شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله[9]، فقال: "قَدْ قَضَى ؟". قالوا: لا يا رسول الله. فبكى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بَكَوْا، فقال: "أَلاَ تَسْمَعُونَ ؟! إِنَّ اللهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلاَ بِحُزْنِ الْقَلْبِ؛ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا -وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ[10]"[11].
كما كان يدعو للمريض ويُبشِّره بالأجر والمثوبة نتيجة المرض الذي لحق به؛ فيُهَوِّن بذلك عليه الأمر، ويُرْضيه به؛ تروي أُمُّ العلاء[12] فتقول: عادني رسول الله وأنا مريضة، فقال: "أَبْشِرِي يَا أُمَّ الْعَلاَءِ، فَإِنَّ مَرَضَ الْـمُسْلِمِ يُذْهِبُ اللهُ بِهِ خَطَايَاهُ كَمَا تُذْهِبُ النَّارُ خَبَثَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ"[13].
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصًا على أن يُخَفِّف عن المريض وألاَّ يشقَّ عليه، وقد روى في ذلك جابر بن عبد الله رضي الله عنه فقال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجرٌ، فشجَّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التَّيَمُّم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات؛ فلمَّا قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أُخبِرَ بذلك، فقال: "قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، أَلاَ سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ[14]، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ -شَكَّ أحد رُوَاة الحديث- عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ"[15].
بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يُلَبِّي حاجة المريض، ويسير معه حتى يقضي حاجته، ولقد جاءته ذات مرَّة امرأة في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة. فقال: "يَا أُمَّ فُلانٍ، انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ؛ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ". فخلا معها[16] في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها[17].
كما جعل النبي صلى الله عليه وسلم للمرضى وذوي الاحتياجات الخاصَّة الحقَّ في التداوي؛ لأن سلامةَ البدن ظاهرًا وباطنًا مقصدٌ من مقاصد الإسلام؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم للأعراب عندما سألوه عن التداوي: "تَدَاوَوْا عِبَادَ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ تعالى لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً إِلا الْهَرَمَ"[18].
كذلك لم يكن يمانع أن تعالِج المرأةُ المسلمة رجلاً من المسلمين؛ حيث جَعَلَ صلى الله عليه وسلم رُفَيْدة رضي الله عنها -وهي امرأة من قبيلة أسلم- تعالِج سعد بن معاذ رضي الله عنه حين أصابه سهم بالخندق، وكانت -رضي الله عنها- تُداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين[19].
وفي صورة تطبيقية، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعامل مع عمرو بن الجموح رضي الله عنه رضي الله عنه تعاملاً راقيًا، وكان عمرو من ذوي الاحتياجات الخاصَّة، إذ كان أَعْرَج شديد العَرَج، وقد حدث أن بنيه الأربعة الذين كانوا يشهدون المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أرادوا حبسه يوم أُحُدٍ، فأتى عمرو بن الجموح رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بنيَّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطبًا عَمْرًا: "أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ عَذرَكَ اللهُ فَلا جِهَادَ عَلَيْكَ". وقال لبنيه: "مَا عَلَيْكُمْ أَلاَّ تَمْنَعُوهُ، لَعَلَّ اللهُ يَرْزُقُهُ شَهَادَةً". فخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم فقُتِلَ يوم أُحُدٍ، ثم قال صلى الله عليه وسلم عنه: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ، مِنْهُمْ: عَمْرُو بْنُ الْـجَمُوحِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَطَأُ فِي الْـجَنَّة بِعَرْجَتِهِ"[20].
البعد الإنساني الراقي في الإسلام
لم يكن البعد الإنساني الراقي في تعامل الإسلام مع المرضي مقتصرا على المرضى المسلمين فقط، بل كانت لأي إنسان مريض مهما كانت ديانته، وذلك انطلاقًا من الآية الكريمة: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } [الإسراء: 70]. فالإنسان بصفة عامة مُكرَّم؛ ولذلك نهتمُّ برعايته حين مرضه، وبعلاجه إذا اشتكى ولو لم يكن مسلمًا، وقد زار رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامًا يهوديًّا عندما مرض[21]، وأفرد البخاري لذلك بابًا خاصًّا في صحيحه فقال: "باب عيادة المشرك".
هذا البُعْدُ الإنساني العميق الذي زرعه فينا الشرع الإسلامي الحنيف جعل الأطباء المسلمين في كل عصور الحضارة الإسلامية يتعاملون مع المريض على أنه إنسان، وليس على أنه (شيء لا إحساس له)، ولا على أساس أنه مصدر للرزق عن طريق أخذ الأجر منه، بل كان التعامل معه دائمًا على أنه إنسان في أزمة، ويحتاج إلى من يقف إلى جواره، وليست المساعدة طبية فقط، ولكن تتعدَّى ذلك إلى المساعدة النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وغير ذلك.
وبهذه الروح النبيلة تعامل الأطباء المسلمون مع مرضاهم، فكانت الخدمة الطبية الراقية تُقَدَّم للمرضى في الدولة الإسلامية دون تفرقة بين غني أو فقير، ولا بين عربي أو غير عربي، ولا بين أبيض أو أسود، ولا بين حاكم ولا محكوم، ولا بين مسلم أو غير مسلم، ففي معظم الأحيان كان العلاج مجانيًّا للجميع، وكان المرضى ينعمون في نفس المستوى من الخدمة أيًّا كان مستواهم.
ولنطلع معًا على طرف من نظام المستشفيات في الحضارة الإسلامية، والذي يعطي انطباعًا عن البعد الإنساني الذي نقصده:
فبمجرَّدِ دخول المريض للمستشفى يُفحص أوَّلاً بالقاعة الخارجية، فإن كان به مرض خفيف يُكتب له العلاج، ويُصرف من صيدلية المستشفى، وإن كانت حالته المرضية تستوجب دخوله المستشفى كان يُقَيِّد اسمه، ويُدخل إلى الحمام للاغتسال، وتُخلع عنه ثيابه التي دخل بها فتوضع في مخزن خاصٍّ، ثم يُعْطَى ثيابًا جديدة خاصة للمستشفى، ويُدخل إلى القاعة المخصَّصَة لأمثاله من المرضى، ويخصَّص له سرير مفروش بأثاث جيد، ولا يُسمح بوجود مريض آخر معه في نفس السرير مراعاة لنفسيته.
وبعد دخول المريض للمستشفى الإسلامي يُعطى الدواء الذي يُعَيِّنُه الطبيب، كما يُوصَف له الغذاء الموافق لصحَّتِه، وبالمقدار المفروض له، ولم يكن يُضَيَّقُ أبدًا على المرضى في نوع الطعام الذي يأكلونه، بل كان يُقَدَّمُ لهم أطايب الطعام؛ فقد كان غذاء المرضى يحتوي على لحوم الأغنام، والأبقار، والطيور، والدجاج، كذلك لا يُضَيَّقُ عليهم أبدًا في كَمِّيَّات الطعام، بل كانت من علامات الشفاء أن يأكل المريض رغيفًا كاملاً ودجاجة كاملة في الوجبة الواحدة.
فإذا أصبح المريض في دَوْرِ النقاهة أُدْخِل القاعة المخصَّصة للناقهين، حتى إذا تمَّ شفاؤه أُعطِيَ ثيابًا جديدة دون أجر، وليس هذا فقط بل كان يُعْطَى مبلغًا من المال يكفيه إلى أن يصبح قادرًا على العمل! وذلك حتى لا يضطر إلى العمل في فترة النقاهة فتَحْدُث له انتكاسة[22]!
ولا تَسَلْ بَعْدُ عن مدى الطمأنينة التي ينعم بها الفقير في المجتمع الإسلامي عندما يعلم أنه إذا مَرِض فسيجد مثل هذا المستوى من الرعاية المجانية دون أن يحتاج إلى إراقة ماء وجهه، أو البحث عن وساطات، أو شفاعات لينال ما يستحقُّ من الاهتمام والعلاج، فضلاً عن مدِّ يده متسوِّلاً ليتمَّ علاجه!
وما أروع توجيه أَبي بكر الرازي لتلاميذه أن يكون هدفهم الأول إبراء مرضاهم أكثر من نيل أجورهم منهم، وأن يُعَالِجُوا الفقراء بمثل الاهتمام والعناية التي يُعَالِجُونَ بها الأمراء والأغنياء، وأن يُوهموا المرضى بالشفاء حتى لو كانوا هم أنفسهم لا يعتقدون بذلك؛ فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس[23].
ولم يكن هذا المستوى العالي من الرعاية الصحية مقصورًا على المدن والحواضر الكبرى, بل حظيت كل بقاع الدولة الإسلامية بذات الاهتمام؛ وذلك من خلال المستشفيات المتنقِّلَة التي أشرنا إليها سابقًا، والتي كانت تجوب القرى، والنجوع، والجبال، والمناطق النائية بصفة عامَّة، والشاهد هنا أنه كان يُنظر إلى رعايا الدولة المسلمة -في مجال الرعاية الطبية- نظرة متساوية بغضِّ النظر عن بيئاتهم، ومستوياتهم الاجتماعية أو الاقتصادية.
بل إن النظرة الإسلامية الرحيمة للمريض تعدَّتْ كل طبقات المجتمع السوية لتشمل نزلاء السجون ممن أساءوا لمجتمعهم! فهؤلاء أيضًا كانوا يَجِدُون الرعاية الطبية الكافية؛ فهم بَشَرٌ, ومن أبناء المجتمع على أي حال، وما يَنْزِلُ بهم من الحبس والعقاب إنما هو لإعادة إصلاحهم، لا للقضاء عليهم بالموت البطيء الذي يتعرَّض له نزلاء كثير من السجون في عالم اليوم.
وقد كتب الوزير علي بن عيسى بن الجراح إلى سنان بن ثابت رئيس أطباء بغداد: "... فكَّرْتُ في أمرِ مَنْ في الحبوس (السجون), وأنه لا يخلو مع كثرة عددهم وجفاء أماكنهم أن تنالهم الأمراض؛ فينبغي أن تُفرد لهم أطباء يدخلون إليهم كل يوم, وتُحمل إليهم الأدوية والأشربة, ويطوفون في سائر الحبوس، ويعالجون فيها المرضى"[24].
وما كان لهذا الفيض الإنساني أن يستمرَّ على مرِّ عصور الحضارة الإسلامية لولا ينابيع العطاء المتدَفِّقَة من قلوب أبناء الأُمَّة المسلمة والموازية لدعم الدولة نفسها، ونقصد هنا نظام الأوقاف الخيرية, وما كان يقوم به من دَوْرٍ في حُسن رعاية المرضى وإكرامهم؛ فقد كانت مستشفيات راقية بأكملها تعتمد على ريع وقف يرصده أحد المسلمين -بمن فيهم الحاكم نفسه- لتغطية كل احتياجات المستشفى بمرضاه، وأطبائه، ومفروشاته، وأغذيته، ونباتاته الطبية، وأدويته، إلى حدِّ الإنفاق على طلاب الطبِّ المتدرِّبِينَ في هذا المستشفى!
ولعلَّ من أشهر الأمثلة على ذلك المستشفى المنصوري الكبير الذي أسسه في القاهرة الملك المنصور سيف الدين قلاوون سنة (683هـ/ 1284م)، وأوقف عليه ما يغطي نفقاته سنويًّا، وقد سبقت الإشارة إليه.
وفي صدد ذِكر الأوقاف الخيرية وأثرها في تغطية الجانب الإنساني في الطبِّ عند المسلمين لا بُدَّ أن نشير هنا إلى بعض الصور المبتكَرَة وغير المسبوقة في التعامل الإنساني مع نفسية المريض؛ فقد كان رِيع بعض الأوقاف يُخَصَّص لتوظيف اثنين يمرَّان بالمستشفيات يوميًّا, فيتحدَّثَان بجانب المرضى حديثًا خافتًا يَسْمَعُه المريض دون أن يراهما؛ يُوحِيَان إليه من خلال حديثهما بتحسُّن حاله! فيما كان يُعْرَف (بوقف خداع المريض)! وذلك لترتفع معنوياته، وبالتالي يتماثل للشفاء بصورة أسرع[25]!
ولم يكن ذلك البُعْدُ الإنساني الراقي في التعامل مع المرضى سلوكًا فرديًّا يمارسه بعض الأطباء, ولا كان مجرَّد حُبٍّ شعبي للخير والرحمة ينبع من قلوب العامَّة، بل كان سلوكًا عامًّا تتبنَّاه سياسات الدولة, وينتهجه أفراد الأُمَّة حُكَّامًا ومحكومين؛ فكثيرًا ما كان الخليفة أو الأمير يتفقَّد بنفسه المرضى ويُشْرِفُ على حُسْنِ معاملتهم، ويُذكر هنا أن المنصُور الموحدي (ملك دولة الموحدين بالمغرب) كانت له زيارة أسبوعية للمستشفى (المنصوري) بمَرَّاكش بعد صـلاة الجمعة من كل أسبوع؛ يطمئن فيها بنفسه على أحوال المرضى[26].
ومن الجوانب الإنسانية في تعامل الطب الإسلامي مع المرضى ما اشتملت عليه شريعة الإسلام من آداب تحفظ كرامة المريض، وتصون حياءه, وتضمن سير مراحل الفحص والعلاج دون انتهاك لخصوصياته.
ففي الشريعة الإسلامية لا يجوز -مثلاً- كشف عورة المريض إلاَّ لضرورة, وبالقَدْرِ المطلوب فقط في الفحص أو الجراحة، وما إلى ذلك، كما لا يجوز أن يَشْهَدَ فحص المريض أو المريضة شخص غير ذي صفة -وخاصة إذا كان من جنس مختلف- إلى جانب عدم جواز خلوة الطبيب بمريضة من النساء، إلاَّ مع وجود ذي مَحْرم لها, أو وجود امرأة أخرى كالممرضة مثلاً، كذلك راعت المستشفيات في الحضارة الإسلامية الفصل في أقسامها الداخلية بين الرجال والنساء.
وكان من الجوانب الإنسانية في تعامل الطبِّ الإسلامي مع المرضى كذلك، أن الشرع راعى حقوق المريض في العلاج؛ بأن سمح للطبيب الرجل أن يعالج المرأة، والعكس كذلك؛ وذلك إن لم يوجد البديل الكفء من نفس الجنس، والذي يستطيع أن يقوم بالمهمة على الوجه الأكمل؛ وذلك حتى لا يفوت على المريض -رجلاً كان أو امرأة- فرصة العلاج الصحيح، بل إن الشرع أجاز كذلك أن يبحث المريض المسلم عن العلاج عند الأطباء غير المسلمين إن تعذَّر وجود من يستطيع علاجه من المسلمين، وذلك حفاظًا على صحة المريض وحياته.
الهوامش:
[1] البخاري: كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز (1183)، ومسلم: كتاب السلام، باب حق المسلم للمسلم (2162) واللفظ له.
[2] الترمذي: كتاب البر والصلة، باب زيارة الإخوان (2008) وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه (1443)، وأحمد (8517)، وابن حبان (2961)، وحسنه الألباني. انظر: صحيح الجامع (6387).
[3] نَفِّسُوا لَهُ فِي الأَجَلِ: أي ارفعوا من أمله في الشفاء وطول الأجل. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 10/121، 122، والمباركفوري: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 6/263.
[4] الترمذي: كتاب الطب (2087) وقال: حديث غريب، وابن ماجه (1438)، وابن أبي شيبة (10851)، والبيهقي في شعب الإيمان (9213)، وأبو نعيم في الحلية 2/208.
[5] البخاري: كتاب المرضى، باب ما جاء في ثواب المرض (5318)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن (2573).
[6] بحبيبتيه: أي بعينيه. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 10/116.
[7] البخاري: كتاب المرضى باب فضل من ذهب بصره (5329)، وأحمد (12490)، وأبو يعلى (3711)، والطبراني الأوسط (250)، والبيهقي: شعب الإيمان (9958).
[8] البخاري عن أبي هريرة: كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز (1183)، ومسلم في السلام، باب من حق المسلم للمسلم رد السلام (2162).
[9] غاشية أهله: أي الذين يغشونه للخدمة وغيرها. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 3/175.
[10] يُعَذِّبُ بهذا: أي إن قال سوءًا. أو يرحم: أي إن قال خيرًا. انظر: المصدر السابق.
[11] البخاري: كتاب الجنائز، باب البكاء عند المريض (1242)، ومسلم في الجنائز، باب البكاء على الميت (924).
[12] أم العلاء: أسلمت وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم ، عمة حزام بن حكيم. انظر: ابن الأثير: أسد الغابة 7/405، وابن حجر العسقلاني: الإصابة الترجمة 8/265 (12176).
[13] أبو داود: كتاب الجنائز، باب عيادة النساء (3092)، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع (7851).
[14] شفاء العي أي: يسألوا حين لم يعلموا؛ لأن شفاء الجهل السؤال. انظر: العظيم آبادي: عون المعبود 1/368.
[15] أبو داود: كتاب الطهارة، باب في المجروح يتيمم (336)، وابن ماجه (572)، وأحمد (3057)، والدارمي (752)، والدارقطني (3)، والبيهقي في سننه الكبرى (1016)، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع (4362).
[16] أي وقف معها في طريق مسلوك ليقضي حاجتها ويفتيها في الخلوة، ولم يكن ذلك من الخلوة بالأجنبية؛ فإن هذا كان في ممرِّ الناس ومشاهدتهم إيَّاه وإيَّاها، لكن لا يسمعون كلامها؛ لأن مسألتها ممَّا لا يظهره. انظر: النووي: المنهاج في شرح صحيح مسلم 15/83.
[17] مسلم عن أنس بن مالك: كتاب الفضائل، باب قرب النبي صلى الله عليه وسلم من الناس وتبركهم به (2326)، وأحمد (14078)، وابن حبان (4527).
[18] أبو داود: كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى (3855)، والترمذي (2038) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه (3436)، وأحمد (18477)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين..، وصححه الألباني، انظر: غاية المرام (292).
[19] البخاري: الأدب المفرد 1/385 (1129)، وابن هشام: السيرة النبوية 2/239، وابن كثير: السيرة النبوية 3/233، وقال الألباني: إسناده صحيح رجاله كلهم ثقات. انظر: السلسلة الصحيحة (1158).
[20] ابن حبان عن جابر بن عبد الله: كتاب إخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة (7024)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده جيد. وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/423، والصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 4/214.
[21]انظر: البخاري عن أنس بن مالك: كتاب المرضى، باب عيادة المشرك (5333).
[22] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص110.
[23] عبد المنعم صفو: تعليم الطب عند العرب، أبحاث الندوة العلمية للجمعية السورية لتاريخ العلوم ص279.
[24] ابن القفطي: تاريخ الحكماء ص148.
[25] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص112.
[26] المصدر السابق ص116.
يتبع
بتصرف عن موقع قصة الإسلام
المفضلات