قصة قصيرة
الجـحـر والثـعـبـان
محمد المهدي السقال
رغم تعاقب التحول في الفصول ، و ما تشهده دورة الأرض التي لا تستقر على حال في القطب كما في الصحراء ، فإن ما حدث اليوم ، السادس من " محرم "، يشبه كثيرا ما يحدث كل خمس سنوات ، منذ أربعين عاما أو يزيد .
استجاب سكان الحي لدعوة " السي أيوب " ، فحضروا الاجتماع وهم يعرفون ما يرتب له الرجل ، استعداداً لدخول الانتخابات الصيفية ، لم يتردد في استباق الأحداث ، كغيره من منابر الأحزاب التي تناسلت فتكاثرت مثل الطحالب ،
تساءل أحد الحضور عما إذا كان اللقاء من دون سابق إعلام للسلطة الإدارية ، خاصة وأن الحملة الرسمية لم تنطلق بعد ، بينما كان الناس منشغلين بالضحك على نكتة جنسية ، سُمِعت قهقهاتهم في جوف المطبخ، فبدت على " مليكة " علائم الارتياح :
الجو هذه المرة أفضل .
لم تفهم خادمتها القاصر العبارة ، تزكم أنفها رائحة المنظف الحمضي، تحاول بيدها الصغيرة حك الأرنبة ، فتتذكر ما يعلق بأصابعها من السائل المؤذي للبشرة .
مَلَّتْ "مليكة " هزائم زوجها ، يدخل عابساً يجر أذيال خطوه كالماشي فوق الماء :
- هزمني بصوتين .
ثم يستلقي على ظهره مسمر العينين في السقف ، في البداية ، كانت الخمرة تسعفه في تغييب وعيه عن التفكر المؤلم في مثل هذه الصدمات، ليت " سي قدور" لم يقنعه بأن فشله في تجاوز غريمه ، إنما كان بسبب ما تلوكه الألسن حول سكره العلني .
أدار وجهه للقبلة عملا بالنصيحة ، لكنه فقد الملاذ الآمن لدفن حزنه على الخسارة .
الحالة الوحيدة التي أثبت فيها دهاءه ، كانت فرصة عمره التي اقتنصها بالنية أو بالمكر ، رآني راجعة من "الفران" , عابرة وسط الدرب أحمل " وصلة الخبز" ، فقال إن نظرتي إليه أصابته بسهم كما يضرب الضوء المفاجئ مغمض العينين سنينا ، لكنه لم يتقدم لخطبتي إلا بعد التقصي والتحري عني , اعترف لي بأنه سأل عن مغامراتي الجنسية في الحي قبل أي شيء ، كالاستفسار عن أصلي وفصلي ، اقتحم أبي جلسة النساء الخاطبات ، فاجأهن بضرورة معرفة حقيقتي في البيت :
- قبل أي شيء ، لا بد من التعرف على سر يجهله الناس ،" مليكة " ليست ابنتي من صلبي ، ربيناها بعد موت أمها، أما أبوها فقد خرج ولم يعد ، قيل إن البحر ابتلعه ضمن العابرين إلى الضفة الأخرى في قوارب الموت ، وقيل إنه اختفى بعد إضراب السنة البيضاء في السبعينات .
تبادلت أمه مع الخالة نظرات جاحظة ،
- لم يكن في نيتنا تبنيها مع كثرة الأولاد ، لولا إلحاح أمها تحت وطأة الظروف المادية ، منعتنا السلطة الإدارية من إدخالها في الحالة المدنية الجماعية ، رغم عدة محاولات بهدف جعلها ترث مني ، هذه هي وضعية البنت التي جئتم تخطبون .
اعترف لي فيما بعد أن الحرمان من الإرث صدمه ، غاب عن وعيه لحظة نسي فيها ما كان يعلنه من هيام بي ، عرف فيما عرف عني و عن أسرتي ، امتلاك أبي ثلاث عمارات و فدانين ، إضافة لنصف الحي الذي يملك رقاب ساكنيه .
و قد خيَّر أبي الخاطبات بين الإعلان عن موقفهن ساعتها ، أو أخذ مهلة للتفكير في القرار الذي سيتخذه ابنهم بعد المعرفة بالسر .
كانت أول مرة في حياتي أسمع فيها برجل يُمهَل فسحة للتأمل والتفكير في اتخاذ قرار القبول أو الرفض ، جرت العادة أن يكون التفكير لأسرة المرأة، لكن " أيوب " كان بطارا ، لم ينتظر برهة للإعلان عن موافقته ، فأذعنت أمه قبل خالته ، وكان الزواج :
أريدها كما هي ، أنا أحببتها لوجه الله .
منذ تلك اللحظة وأنا اقدره واعتبره سيد الرجال ، فقد كان الأب أبي، وكانت الأم أمي ، وكنت الوريثة الأنثى بين خمسة ذكور أشقاء ، كان الامتحان الوحيد الذي أعرف أن " السي أيوب " نجح فيه ، أما الانتخابات..
تظهر النتائج ، مازال يفوز الحزب الفلاني ، يقاطع السكان ، يمر بهم ، فيغمغم بكلمات ساخرة ، دون أدنى رد فعل منهم ، حين حاولتْ تهدئة روعه مما هو فيه ، لم يصرخْ في وجهها كعادته ، بدا كالحمل الوديع بين يدها حتى تخيلته على وشك البكاء ،
هل كان منشغلا بما خسره في الولائم؟
هل كان يفكر في العمر الذي ضاع منه جريا وراء كرسي بالمجلس ؟ يشتكي من شماتة الأعداء به بعد كل امتحان ، لكنه لا يفتأ يعاود الكرة ، تقترب الانتخابات فينسى التهم التي يكيلها للمسؤولين حول التزييف والتزوير:
من يدري ؟ ربما تكون هذه التجربة ديموقراطية .
ثم يعود لحلبة المزاد على الكرسي ،
- الله يحفظ .
لم تسمع الخادمة الصغيرة جملتها الأخيرة ، كانت تتحاشى لمس جبينها الملوث بالماء الحمضي في يديها ، أطلت " مليكة " من خلف الحجاب ، فنط الرجل من الحلقة :
- " أتاي "
فوجئ بها واقفة لا تحمل شيئا ، والناس قد اشرأبت أعناقهم قبله للنداء ، بادرته باستعجال إحضار النعناع ، قبل فتح فمه الذي عهدته فوهة بركان :
- لن تصدق ، فقد لعبت به القطط المسخوطة ،
حملق فيها شزرا كأنه يوعدها بليلة سوداء ، غير مبد أي اهتمام بمعرفة التفاصيل ، لم ينطق كلمة كعادته حين يرعد ويزبد لأتفه الأسباب .
ذات مرة ، اجترأت على اتهامه بالجنون بين نساء الحي ، استرسلت في لعن الانتخابات وما يأتي من جهتها ، بهرت النساء برجم الديموقراطية في هذا البلد ، زغردت واحدة ، ارتد الصدى متراقصا في الجنبات .
عاد الرجل عن تساؤله ، دون أدنى شك في أن يكون التجمع معلوما ، سواء بعيون المخزن المبتوتة مثل الطفليات بين الأعشاب , أو بإخبار صاحب الاجتماع عن زمكانه وموضوعه ، وإلا ما كان بعضهم تجرأ على الحضور في وضح النهار ،" المقدم " الذي يعرف كل صغيرة أو كبيرة كما يحيط بكل شارد و واردة ، يدري أنه ليس في الحي عقـيقـة أو ختان أو تأبين ، قالت" مليكة" :
- ليس في البيت أحد للسخرة .
وانسحب " السي أيوب " متواريا عن العيون ، أقرب نقطة لشراء النعناع لا تقل عن ربع ساعة ، خطرت له فكرة العودة إلى " مليكة "، لماذا لا تستلف من الجارة ؟
هي الأخرى منذ غاب زوجها ، لم تنفك عن الطلب ، حتى الملح تطلبه ، يطرق ابنها الباب ، أفتح بالصدفة ،
أجده أمامي متلعثما يخبر بحاجة أمه إلى ملح ، ليس له منها غير العيون الزرق ، تلتقي عيوننا فألعن الشيطان الرجيم ، ذات يوم قلت لمليكة :
إن هذه الجارة فاتنة ، تزداد جمالا ، لا تبدو عليها علائم الحسرة على غياب زوجها ، اصفر وجهها غيرة منها وغيظا عليّ ،
أنادي عليها كي تمده بما يريد ، فتناديه للدخول إليها ،
ليست فكرة مناسبة ، ليس أمامه سوى قطع المسافة بالسرعة الفائقة ، السرعة ، وتذكر حالته الصحية ، سيصل لاهثا ويعود أكثر لهاثا ،
لن يكون له حضور بين الجمع حين يأتي دوره ، استعد كثيراً لهذا اللقاء، يحفظ كلمته عن ظهر قلب ، لكن ضيق التنفس يعوقه دائما عن رفع عقيرته في مثل هذه الاجتماعات ، أما إذا أضيف اللهاث إلى الضيق ، توقف كأنه يريد التفكير في حل عقدة ما ، بسرعة ، قرر العودة إلى " مليكة " :
- بلا " أتاي " ، أحسن ، سيجد الجمع في انعدام ما يؤكل أو يشرب ، علامة على حسن نيتي ،
- حملقت فيه مشدوهة لم تلو على شيء ،
- و النعناع ؟
توارى معها خلف الحجاب يحاول أن يظهر لها عبقريته ،
- سيخرجون كما دخلوا ، لا " أتاي " ولا هم يحزنون .
لن يقولوا عني ما قالوه عن " عريبو " في الانتخابات السابقة ، لم أذبح خرافاً بدمائها آخذ منهم عهد الله بالتصويت عليَّ ، سيقولون :
هذا هو الرجل ، حتى " أتاي " ما شربناه ،
عاد إلى الناس يصطنع ابتسامة عريضة ، ربما لم ينتبه أحد لغيابه ، وجدهم في نفس النقطة التي تركهم فيها ، قال في نفسه :
- نفس الدائرة المفرغة .
******
محمد المهدي السقال
المغرب
المفضلات