مُكونات الإبداع في القصّة القصيرة جدًا
القصة القصيرة جدا( very short story) مستحدث سردي في إطار فن القصة. لم تظهر في وطننا العربي كفن و كتابة إلا في تسعينيات القرن الماضي . و لكن استطاعت بسرعة أن تجد لها مكانا تحت الشمس، و وسط الزحام . بل استطاعت أن تملك مريدين و مريدات ، و لم تجد معارضة من المحافظين ، إلا ما لا يكاد يذكر .
ربّما لأنها ولدت مكتملة، و إن كان البعض يحاول أن يجد لها مسوغاً للوجود في العصرالحاضر و متطلباته : من سرعة، و ضيق للوقت، و كثرة الهموم اليومية التي تصرف الإنسان عن مطالعة النصوص الطويلة .... و يحاول البعض الآخر أن يبحث عن جذورها في التراث العربي سواء منه المعاصر أوالقديم . بغية إثبات شرعيتها في الوجود . كاعتبارها امتداداً طبيعياً لبعض كتابات رواد السّرد العرب و بخاصة كتاب (المستطرف في كل فن مسظرف) للأبشهي ، و كتابات مخائل نعيمة ، و جبران خليل جبران في كتابه (المجنون) و بعض كتابات نجيب محفوظ...
و لكن ـ عموماً ـ القصة القصيرة جداً وجدتْ لها مكاناً في الكتابة السّردية العربية . وأصبحت تستقطب رواداً. و مهتمين، و دارسين
و تبعاً لذلك ، ينبغي أن نتعرف أولا على هذا النوع من الفن السّردي، من خلال خصائصه.
فالقصة القصيرة جداً عمل إبداعيّ فنيّ . يعتمد دقّة اللّغة ، و حسن التّعبير الموجز ، و اختيار الّلّفظة الدّالة ، التي تتّسم بالـدّور الوظيفيّ (fonctionnel ) و التّركيز الشّديد على المعنى. و التّكثيف اللّغوي، الذي يحيل و لا يُخبر. و لا يقبل الشّطط، و لا الإسهاب، و لا الاستطراد، و لا التّرادف، و لا الجمل الاعتراضية، و لا الجمل التّفسيرية.. و يستهدف المضمون الذي يقبل التّأويل ، بمعنى يسمح بتعدّد القراءات.. و وجهات النظر المختلفة .
فإذاكانت القصة القصيرة جداً بهذه المواصفات، فكاتبها متمرس خبير باللّغة . قاص بارع متقن لضروب البلاغة و بخاصة اللّغـة المجازية (langage figuré) متنبه لكمياء الألفاظ ، و أنماط المعنى، و عمق الدّلالة. قاص لا يحفل بالألفاظ إلا ما يخدم السّياق المقتضب . قاصّ لا يغتر بالقصر المجمل لقصره. و لكن يهتمّ بالمعنى على أن يقدَّم بنسق لغوي فنيّ في غاية من الاقتصاد اللفظي. ليمكن القارئ أن يقرأ ما بداخل اللّغة (linguistique ـ intra) لأنّ القراءة السّطحية، لا تجدي نفعاً إزاء هذا النّوع من القصّ .إذ لا بد من قراءة ما بين السّطور القليلة . و خلف الكلمات المعدودة . فهناك لغة التّضمين (homonymique) .
و إذا كانت القصّة القصيرة جداً و صاحبها كما رأينا ، يبقى من الضّروري أن نقول صراحة ، إنّ هذا الفن ليس من السّهولــة في شيء. إنّ رواد هذا الفن في الوطن العربي قلة قليلة .
أعتقد ـ جازماً ـ أنّ الذي لم يزاول كتابة القصّة القصيرة والقصّة ، و الذي لم تتوفر فيه بعض من الصّفات الآنفة الذّكر . فهو كاتب يبحث له عن اسم في فن لا يعرفه. و في لغة لا يحسن سبكها ، و صياغتها، لأنّها لغة (السنتمتر) وأقل .و لغة التكثيف الفني . و هذا يدعونا لنوضح ذلك قليلا :
1 ــ التّكثيف:اللغوي:إنها عملية ضرورية في مجال القصّة القصيرة جداً. حفاظا على الحجم . و ابتعادا عن نص : منفرج، ،واضح به استطراد و إنشائية بسيطة وعادية (langage natural) أو فائض لّغوي ( l'inguistic redundancy ) لا يخدم النّص في شيءً. و هذا لا يعني أنّ التكثيف وحده يضمن نجاح القصّة، بل هناك عناصر أخرى لا بدّ منها. وإن كان ليس من الضّروري أن تكون كلّها موجودة في النّص. بل ظروف الكتابة، و معطيات النّص، و الحالة النّفسية للمبدع.. كلّ ذلك يساهم في إظهار عناصر، و احتجاب أخرى... .
2 ــ الرّمـــز : الرّمز أداة و وسيلة و ليس غاية . و هو يوظف بعناية في كلّ عمل فني : في الشّعر، في القصة ، في الرواية، في الرسم التشكيلي ، في النّحث ،في المعمار، في الرّقص .... أستطيع أن أعمّم و أقول: الرّمز يسكن الحياة كلّ الحياة .
و الرّمز كوسيلة حين يوظف فنياً ، يغني النّص ، و يحمله على الاختزال . و يلعب دوراً جليلا في منحه بعداً تحييليا، و إن كان له ضريبته الباهظة ،إذ يجعل النّص للخاصّة بل أحياناً خاصّة الخاصّة ، فماذا سيفهم القارئ العادي البسيط، أو المحدود الثقافة إذا وجد في قصة ... رموزاً كالتالي :
تموز ( tammuz) أدونيس (Adonis) عشتار ( Ishtar) الفنيق ( phoenix) سيزيف (Sisyphus) إيزريس ( Isis) أوزريس (Osiris) .و القائمة طويلة من الرموز الإغريقية و الفرعونية و الإنسانيــــــــة عموما ...لاشك أنّ هذه لا تقول شيئا حتى ـ ربّما ـ لبعض المثقفين ، و من تمَّ كانت الرمزية كتابة نخبوية، أو تجعل النّص نخبوياً .
و لتبسيط الرمز و جعله في المتناول . ترك بعض الأدباء الرموز العالمية ، و لجؤوا إلى ابتداع رموز لغوية اجتماعية معروفة أو قد تعرف من سياق النّص .و لكن الرّمز الذي يوظف توظيفاً فنياً: يرفع قيمة النّص إبداعياً ، و يثريه دلالياً، و يحمل القارئ بعيداً ، إلى فضاءات، لا يمكن أن تحددها الكلمات العادية، أو التراكيب الواصفة البسيطة ...
3 ـ الحجــــــــم : أمّا من حيث الحجم ، فهناك خلاف كبير.
فحين أقرأ للقاص و الروائي الكبير ارنست همنغواي ،أجده قد كتب يوما ً قصة قصيرة جداً في خمس كلمات و هي : (للبيع، حذاء أطفال، غير مستهلك )، وأن بعض المواقع الأدبية أعلنت عن مسابقات للقصّة القصيرة جداً بشرط أن تكون كلماتها محصورة بين كلمتين إلى ثلاثمائة كلمة . بل و أجد رأياً آخر يحصر القصّة القصيرة جداً في 60 كلمة و ينصح الكاتبَ لكي يحافظ على المجموع ستين كلمة أو أقل ينبغي أن يضع ستين سطراً مرقماً ، على أساس أن يتضمن ـ أثناء الكتابة ـ كلّ سطر كلمة. و في هذا خلاف .....
فالقصة القصيرة جداً إن جاءت في نصف صفحة.أو في فقرتين من ثلاث مائة كلمة، أوأقل كمائة كلمة ، أو ستين و بدون شطط، و لا زيادة غير مرغوب فيها؛ فهذا جميل . و عموماً التّكثيف، و الإيجاز و الترميز.. كلّ ذلك لا يسمح بالاستطراد و الشّطط والإطناب. و من تمّ كان مبدع القصّة القصيرة جداً؛ من المبدعين البلغاء..
4 ـ الراوي العليم أو الرؤية من خلف . فهي من أخطر الرؤى الممكنة . كيف ذلك ؟ فالراوي الذي يعرف كلّ شيء؛ يبَسط النّسيج الفنيّ ، و يحلّ عقد البناء القصصيّ، و يكشف كلّ الأوراق ... ما يجعل النّص؛ نصاً عادياً خال من المتعة و التّشويق ...ما لم يتحكم الكاتب في السّارد بذكاء و تبصّر، فينطقه حيث ينبغي له النّطق . و يسكته حيث ينبغي السّكوت ، ويجعله يتجاهل و يتغاضى ما ينبغي له فعل ذلك ...و لكن مع الأسف هذا لا يحدث دائماً . فسرعان ما ينساق الكاتب نفسه ،خلف سارده المفترض، فيرخي الحبل على الغارب دون شعور. فتكون النتيجة نصاً مباشراَ و كأنّه تقرير مفتش شرطة ، أو ضابطة قضائية . لذا يستحسن توظيف السارد المحايد.
5 ـ القفلــــة ( Résolution): و أسميها الخرجة، لأن القصة القصيرة جدا لا قفلة لها. فالخرجة جملة الختم شكلا ، ولكنها مناط الّسّرد عملا، فمنها ينطلق التّأويل ، و إليها يستند الـتّعليل ، و عليها يندرج التّحليل ...
فهي ذات أهمية قصوى. حتّى أنّ البعض لا يرى قصّة قصيرة جداً بدون خرجة .
و من خصائصها الملازمـــة التّالي :
1 ـ خرجة مفاجئة . غير متوقعة. و لكن لها صلة بالموضوع .
2 ـ تحدث توثراً و انفعالا ، لنسقها الدّلالي و الّصدامي .
3 ـ تبعث على التّأمل و التّساؤل .
4 ـ تفتح آفاق التّأويل و التّحرّر من تخوم النّص .
5 ـ تأتي عفوية مع سياق الكتابة .
6 ـ لا تُصنّع ،و لا تعـدّ ، سواء من قبل أو من بعـد ، ففي ذلك تكلف .
7 ـ تضفي جمالية دلالية على النّص ، لما تكتنزه من معنى.
8 ـ تأتي على نسق بلاغي (forme rhétorique) يضفي مسحة فنية على النص .
9 ـتتسم بطابعها الوظيفي (fonctionnel ) في النّص.
10 ـ تتسم بالميزة الجوهرانية(essencialiste ) في النّص.
أمام هذه الخصائص كلّها ، متجمّعة أو في معظمها ، يتبن مقدار الأهمية القصوى التي تحتلّها الخرجة . بل كثير من القصص القصيرة جداً تفقد دلالتها و متعتها و قيمتهـا فقط ، لأنّ الخرجة اصطناعية ( artificiel) خالية من العفوية الفنّية .
المفضلات