الفصل الرابع عشر


خرجت فايزة مساء ذلك اليوم عازمة على أن تأتي بنتيجة ، يجب أن تجدها ، ذهبت مباشرة الى مستشفى الأمراض العقلية والنفسية في زيارة استطلاعية ، تحت غطاء فحص طبي نفساني ، فأخذت موعدا للقاء الأستاذة المتخصصة في علاج الآثار النفسية للسجن ، ولكن كان بعيدا جدا ، بعد أكثر من عشرين يوما ، فدلوها على مكان عيادتها فذهبت اليها .
دخلت ، استقبلتها المساعدة بابتسامتها الجميلة ، رحبت بها ، سجلت اسمها ، وجلست في قاعة الانتظار ، وبعد أن خرج رجل برفقة زوجته ، أدخلتها على الطبيبة ، كان المكان واسعا بسيطا ، مكتب أمامه أرائك ، طاولة كبيرة حولها كراسي ، رفوف عليها بعض الكتب ، ومجلات فوق مائدة ، نوافذ عريضة عليها ستائر تحجب أشعة الشمس وتضفي على المكان جوا رومنسيا هادئا ومريحا للهمسات وحديث الشجون ، تزينه ابتسامة الطبيبة ، ابتسامة ليست كالابتسامات الأخرى ، أجمل وأحلى من ابتسامة العاشقين وليست كذلك ، كابتسامة الوالدين وليست كذلك ، انها كابتسامة النجاة ، كابتسامة الأمان ، كابتسامة النصر ، وهي أكثر ، شعرت فايزة وكأنها في حضن الطبيعة وهي لا تزال على عتبة الباب ، ركبت جفونها بكل رفق وما شعرت الا وهي جالسة أمامها ، وجها لوجه ، احتوتها ، سكنتها ، كأنها هي .. هزت الطبيبة رأسها بطريقة عجيبة كأنها السحر ، ليبدأ العرض:
فايزة: قضيت عشر سنوات في السجن ، قتلت مديرا اغتصبني ، وخرجت ، لكن وكأنني لا أزال داخله ، لا أحب الظلام ، لا أستطيع أن أندمج في الوسط العائلي ، نسيت الكثير من الأشياء والعادات ، أرتبك أحيانا في الكلام ،في بعض الليالي لا أنام ، الكابوس ، الأرق ، تطاردني الأشباح ، تختلط علي الأمور ولا أفرق بينها رغم بديهياتها .
الطبيبة: متى خرجت من السجن ؟
فايزة: هاه ، هذه واحدة .. لا أذكر ، شهر ، شهرين ، ثلاث ، والله لا أذكر .. أمهليني قليلا ..
بدأت الطبيبة تنظر اليها بريبة ، كان هناك خللا في تركبة الأعراض ، تخفيها قوة شخصيتها ، تعرف ماذا تريد ، وبدأ الشك يساورها أنها ليست مريضة .
فايزة: أصدقك القول أنا لست مريضة ، هل تذكرين هذه ؟ ، ومدت اليها صورة خضراء ، اسمها لشرف خضراء ، هربت من مستشفى السجن ، كانت فاقدة للذاكرة ، حولت من سجن أروان الى هنا .
الطبيبة: نعم ، كانت في القسم الذي أشرف عليه .
فايزة: أريد أن أساعدها ، هروبها يورطها أكثر
الطبيبة: أنا كذلك أبحث عنها ، هل تعرفين أين هي ؟
فايزة: أعرف شيئا واحدا وهو أنها بريئة
الطبيبة: كيف عرفت ؟
فايزة: لقد ألقي القبض على التي كانت تنتحل صفتها وهويتها ، ولقد ندمت كثيرا ، جدة المجرمة تبحث عن خضراء لتستسمحها وتعوضها .
الطبيبة: غريب ! ، أخذوا منها كل شيء ، جردوها حتى من أناها وشخصيتها
فايزة: عندما هربت ، هل كانت تمتثل للشفاء ؟
الطبيبة: نعم ، عادت لها ذاكرتها
فايزة: يمكن أن تعود الى أهلها ؟
الطبيبة: لا ، الا هذه ، عندها ماض ثقيل جدا ، انها مقطوعة من شجرة
فايزة: لقيطة !
الطبيبة: حتى لا أقولها أنا ، أبت أن تعطيني عنوان أهلها ولا مكان اقامتهم
فايزة: هل لا زالت متابعة ؟
الطبيبة: بدون شك ، السلطة التي اتهمتها هي التي تبرئها ، وهروبها هذا رغم برائتها جريمة يعاقب عليها القانون
فايزة: وجدت الحل ، لكن لا أستطيع أن أقوم به وحدي
الطبيبة: أساعدك اذا كان مناسبا
فايزة: نعين محام ونطلب بواسطة جمعية نسوية ما محاكمتها غيابيا ، نتأكد أولا من افتكاك برائتها
الطبيبة: فكرة مقبولة
فايزة: نتحمل كل المصاريف ، الجدة ستدفع ، جدة وحشية ، هي ميسرة بامتياز
الطبيبة: أساعدها بتقرير طبي عن الحالة النفسية التي دفعتها للهروب ، سيأتي بنتيجة
فايزة: العجوز استأجرت من يبحث عنها
الطبيبة: من ؟
فايزة: لم تقل لي
الطبيبة: أبدا ، يجب أن تعرفي قبل الدخول في مغامرة تورطنا جميعا
فايزة: سأفعل
وقفت فايزة ، مدت يدها الى الطبيبة ، شدت عليها بكل قوة وقالت:
- غريب ! كأنك محطة طاقة ، أخرج من هنا بقوة صاروخية وعزم من فولاذ
الطبيبة: فجريها بعيدا ، هنا ممنوع الضجيج
ابتسمتا .. وأغلق الباب برفق ، لا لا يزال الهدوء سيد الموقف .
انصرفت فايزة وهي فخورة بنفسها على هذه الخطوة التي جاءت بثمارها يانعة ، في طريقها الى البيت لا زالت محط نظرات الرجال ، رغم أنها لم تتزين ، والأجمل لا ينظر اليها تافه ، كلهم كهول بهيئات محترمة ، تتسائل هل يبدأ الحب الناضج من هذا السن ، وهو الآن يناديني خلف تلك الأسوار التي كانت ولا تزال تحيط بي ؟! ، تذكرت كمال ، لم تتجاوز علاقتها به نظرات الاعجاب والمجاملات التي تقطفها المرأة الجميلة غصبا من أفواه الرجال ، الا أنها كانت متأكدة أنه يبادلها ذلك الشعور الخاص ، التحفظ الضروري والأكيد في هذا النوع من العلاقات ، هكذا نشأت ، وهكذا كانت تقول أمها دائما ، زواج الدوام يحتاج الى تفكير عام ،.. الأشياء تتغير بسرعة ، لا أحد يغالب الزمن حتى لو تعود الشمس أدراجها وتعيد ترتيب أبراجها ، كانت تقولها الجدة يرحمها الله .
مظاهر البؤس في الشوارع ، لم يعد يستحي بها أحد ، بالعكس أصبحت الوسيلة الوحيدة لأكل لقمة الخبز ، ما أفظع سجن الفقر ، كل فئات المجتمع ، كل المستويات ، شباب يحمل شهادات جامعية يتمسحون بالجدران ، أطفال يتاجرون بكل شيء ، بالحلال وبالحرام وبالممنوع وبالمرخص ، عودة قوية لماسحي الأحذية والحمالين ، البؤس والبشاعة والقلق والخوف في كر و فر مع الشرطة ، المراهقون في كل منعطف يبيعون المخذرات ، يقطعون الطريق ، يعتدون ، لا تسمع في الشوارع الا سب الرب والدين والكلام الفاحش ... الأبواب من خشب أمامها أبواب من حديد ، حتى البنايات الرسمية وأقسام الشرطة ومقرات الدرك وغيرها عددت أبوابها وبنت حواجز من طوب وحديد ربما مكهربة ، أولاد هذا الشعب العظيم ، هم الذين يقتلون ويذبحون وينكل بهم ويفجرون ويختطفون ويسجنون ، وهم الذين يدافعون ويدفعون ثمن التعصبات والتهورات ، انهم الشهداء ، مهما خمروا وزنوا وانتهكوا المحارم واغتصبوا النساء وقتلوا الأطفال وعذبوا ونكلوا ، انهم شهداء ، وهكذا يستوي الشهيد الفرنسي والشهيد الروسي والشهيد الهندي وحتى الاسرائيلي والعربي ، هذا هو مفهوم الشهادة الجديد ، يدخلون الجنة وربما منهم من يشفع مثل هتلر واستالين وميسوليني ، وفرانكو و شارون ، وتبقى جهنم الفقر والبؤس والجهل ، والاضطهاد والاستعباد في الدنيا فقط ، الكل تحت الجبروت لا فرق بين الكفر والفكر ، هو تقديم حرف أو تأخيره .
لا يزال المارة يمشون وسط الطريق والسيارات متوقفة على الأرصفة تزاحم باعة السوق السوداء ، يتهافت عليها الجميع ، فقط لأنها بضاعة فرنسية ... غريب فقدت الثقة حتى في المنتوج ، تحجز من البائع الصغير الذي لا يعرف كيف وصلت اليه وأنها سلع محظورة ، تطارده الشرطة ورجال الرقابة تصادر سلع البقالين لأنه اشتراها بدون كشف ولأن موردها مرفوع عنه القانون ، انهم رجال اقتصاد الظل والظلام ...
تحت الجسور يتصور اليأس في كل لوحات العالم ، ويتشكل البؤس في أصناف المجتمع المنبوذ ، ليله كحول وخمر ، ونهاره جمر وقهر ، في الحدائق مراهقات يمارسن الجنس ، يدخن ، انها الحرية الفردية والحرية الجماعية واندماج المرأة في كل مجالات الحياة ، وكثرت العوانس والأمهات العازبات المشردات ... كانت تنظر الى هؤلاء وهؤلاء والغصة تخنقها ، تنظر اليهم أوعية كلام فارغ .. تدفعهم الكلمة الى الكلمة الى القبر ، تنظر اليهم رفضا مقنعا ، تنظر في وجوههم نظرة الجحيم الذي يعيشونه ، لما انتبهت وجدت نفسها بعيدة جدا عن البيت ، فركبت سيارة أجرة الى ساحة الشهداء ، نزلت أمام البيت ، كانت الشمس قد مالت وتعملق ظل البنايات ، وازدادت زرقة البحر ، وبدأ يتشكل الأفق من جديد في لون جميل ، يهب النسيم العليل يلاطف ما بدى على الوجه من أسى ، دفعت الباب ودخلت ، كانت الحاجة زهرة في انتظارها ، لما رأتها بدأت تنقشع تلك الغيوم التي غطت وجهها
الحاجة زهرة: حصل خير ؟
فايزة : كل الخير يا أمي
الحاجة زهرة: أين كنت الى حد هذه الساعة ؟
فايزة: كنت أجوب شوارع اليتم في العاصمة ، لا أظنها ستقاوم أكثر
الحاجة زهرة: وماذا عن خضراء ؟
فايزة: قطعنا شوطا لا يستهان به ، جئتك اليوم بالجديد .
وراحت تحكي لها ما دار بينها وبين الطبيبة ، والاتفاق الذي جرى بينهما .
الحاجة زهرة: هذه أخبار سارة ، معنى هذا أننا لا نخشى عليها مادامت قد عادت لها ذاكرتها ، وحتى لو ألقوا عليها القبض ستدافع عن نفسها .
فايزة: الأمن لا يعرف البديهيات يا أمي ، انهم يستغلون كل شيء للبرهنة عن ولائهم وطاعتهم ، أتمنى أن نصل اليها قبلهم ، بالمناسبة مررت بمقر جريدة حرة ، يدعون أنهم كذلك ، من الممكن أن أوظف فيها ، هذا يساعدني على متابعة قضية خضراء عن قرب .
الحاجة زهرة: لا زلت مصممة على العمل ؟
فايزة: جولتي اليوم في الشوارع ، فرضت وجودي في منبر من منابر النضال
الحاجة زهرة: ألم تعلمي أن أغلبية هذه الصحف استضافتها اسرائيل ، واسرائيل كما يعرف العام والخاص هي المحرك الأساسي لكل مأساة العالم ، انها لا توظف الا ما يخدم مصالحها
فايزة: يا أمي ، اسرائيل اليوم تملك العالم كله ، وهو كله تحت رجليها ، أتحدى أي دولة مهما ادعت تطورها وسيادتها أن تعمل ضد اسرائيل ، يا أمي ، أغلب علماء الاجتماع يهود ، ينظرون للشعوب الأخرى ، وتبنوا لأنفسهم نظاما دينيا متطرفا مستبدا عنصريا ، انهم يوظفون كل امكانياتهم لخدمة باطل قضيتهم ، ان اسرائيل رحمة على شعبها وأبنائها وبناتها ونقمة على العالم العربي ، والآمرة الناهية في غيرهم ، ما رأى العالم شعبا متماسكا متضامنا متوحدا كاسرائيل ، من أجل يهودي يقيمون الدنيا ولا يقعدونها ، والعرب يقتلون شعوبهم بالآلاف ، بل بالملايين .
الحاجة زهرة: لو سمع ساستنا هذا الحوار لصدرت فينا الفتاوى ولا اجتمعت كل البرلمانات العربية لتقنين قتلنا .
فايزة: أنت واهمة يا أمي ، اذا واليتي اسرائيل سيحسدونك لأنك تقاسميهم الكثير ، واذا كنت وفية فاستعدي لأخذ زمام أمور أي حكم في البلاد العربية مهما ادعت قوميتها ، أما فيما يخص ذهاب الصحافيين الى اسرائيل فهذا شيء جميل ، وصدق من قال: اذا هجرت عدوك فمن يأتيك بأخباره ، بالعكس أنا أرى فيها جرأة كبيرة ، هم يعيشون معنا في البيوت ، بل في المطبخ ، ونحن لا نعرف عنهم حتى أين يتبولون .
الحاجة زهرة: أراك واثقة من هذا الكلام
فايزة: هذا ليس كلام يا أمي انها الحقيقة ، رغم أنها مؤلمة ، ولكنها هنا ، أليس من الشجاعة أن تعترف الحضارة المنهزمة بضعفها ، وتعترف الثقافة المهلهلة بسقوطها ، ان الكلام والزعامات لا يصنع الأمم ، والواقع أكبر دليل ، أما الشعوب المغلوبة على أمرها ، همها الوحيد اليوم ما تضعه في قفتها وتسوية مصاريف دورة مياهها
الحاجة زهرة: أنت متحمسة بزيادة ، لسنا الى هذا الحد ، عندنا ما يحفظ ماء الوجه
فايزة: بلغي سلامي يا أمي الى جلالة البترول والغاز ، لولا هذه النعمة لكان العرب في أفظع ما هم عليه الآن ، ولو تتوصل اسرائيل الى مصدر طاقة آخر فسترين ماذا تصنع بنا الأنظمة .
الحاجة زهرة: هذا وأنت خارجة من السجن ؟
فايزة: في السجن عرفت وتعلمت وتيقنت أننا بين مخالب مفترس لا يعرف الرحمة ، من يسمونهم الحراقة قالوا كلمة سيخلدها التاريخ ، يأكلنا الحوت ولا أنتم ، ولا يزالون جاثمين ينهبون الملايير ، ان اسرائيل في العالم هي الخصم والحكم ، كل المنظمات العالمية تحت رحمتها ، يد تجرح واليد الأخرى تضمد من تشاء .
الحاجة زهرة: يا بنيتي ، في هذه المرة لن تخرجي من السجن الا على أربع ، ابتعدي عن هذه الأفكار ، لقد سكنني الرعب وغزت قلبي المخاوف ، أنا لست مستعدة لفاجعة أخرى فيك ، يكفيني ما فات وترك جراحه التي لم تندمل بعد .
فايزة: هذا كلام تعلمت أن أقوله في نفسي ، مثلي مثل هذا الشعب العظيم ، لأنه أكبر مني ، يحتاج الى من هو أعظم مني ، كلام الظل أينما كان فهو خطير .
الحاجة زهرة: العشاء جاهز ، هيا بنا
فايزة: اسمحي لي تأخرت كثيرا
الحاجة زهرة: المهم كانت وراءه نتيجة جميلة
فايزة: لقد أصلحت لك التلفاز ، ولكن لا تصدقي اليتيمة ، أعجبتني نكتة سمعتها في السجن ، كانت امرأة عجوز من البادية ، أمية ، كان آخر رمضان ، فقالوا لها غدا العيد ، فقالت العجوز ومن أخبركم ؟ قالوا قالوها في التلفاز ، فقالت العجوز : التلفاز الذي جعل كوجاك يتكلم القبائلية أنا لا أصدقه ، أنا غدا صائمة حتى يتبين الأمر .
فضحكت الجدة حتى ظهرت نواجدها وقالت: لطيفة ، خفيفة ، وهادفة.
فايزة: ليس هناك أعلام موضوعي ، حتى الرسوم المتحركة ملغمة
الحاجة زهرة: وأين الحق ؟
فايزة: في المنفى ، في السجون وفي المقابر وفي القلوب وهو أضعف الايمان ، في القلوب التي تعرف أن الوطن ليس تراب وسماء فقط ، وانما هو الانسان .
الحاجة زهرة: رغم أنني لا أقاسمك الكثير من هذا ، الا أنني أحب أن أسمع لك .
فايزة: انها قمة المثل العليا ، انه التعايش والرأي ليس دائما حكما ، والاستثناءات كثيرة وأنا لا أعمم ، ولكن الغالبية هي التي يقاس عليها .
الحاجة زهرة: لسانك طويل جدا ، ليتني كنت الآن في سنك ، لم نكن نهتم بالسياسة ، مآسي الاستعمار الفرنسي ونحن أطفال جعلتنا ننبهر بالاستقلال ونكتفي بالفتات ، أما أنتم اليوم شيء آخر ، كنا نحلم أن نرى امرأة بهذه الجرأة ، بالنسبة الينا النساء اللواتي شاركن في الثورة ، كن يظهرن الينا أسطورات ، المرأة كانت يد واحدة ، واليد الواحدة لا تصفق .
فايزة: يا أمي ، وهل يحمل القلم بيدين أو ثلاث ؟ القلم لا يحمل الا بيد واحدة ، ولما يصفق يرغم الجميع على الاستماع ..
الحاجة زهرة: هيا ، لقد تأخرنا كثيرا ، يكاد الليل ينقضي والحديث يمتد .
فايزة: و لايمتد الليل في نفوسنا الا اذا أطفؤوا فينا شموع الأمل ... أخشى أن أكون قد أثقلت عليك
الحاجة زهرة: أبدا يا بنيتي ، أنا كلي آذان صاغية ، أعرف ما تعانيه من ألم ، أنت بحاجة الى من يسمعك وأنا بحاجة الى من يحدثني ، انصرفت كل واحدة الى غرفتها .
تجتر العجوز كلام فايزة بنوع من الاعجاب ، انه حماس الشباب والغيرة على الوطن ، وعلى نخوة الأمة .
أما فايزة ، امتدت على سريرها وغرقت في نوم عميق ، وكأنها أزاحت ما كان فوق عاتقها من هم كانت تحمله طيلة سنين السجن ، مر الليل بسرعة ، كانت الساعة التاسعة صباحا لما استيقظت ، ، والكسل قد بلغ مداه ، انبطحت على صدرها معانقة وسادتها ، تمنت لو كان شعرها طويل تسدله على وجهها لتعانق حلما جديدا ، أزعجها الضوء فقامت ، وقبل أن تصل الى غرفة الحمام جاءتها فكرة ، ألا يمكن أن تكون العصابة قد أمسكت بها وحولوها الى مكان مجهول ؟ّ! ولم لا ؟ لقد أعطتها وحشية رقم هاتف أحد أصدقائها الأوفياء ليساعدها اذا اشتد عليها الأمر ، ولكن طالبتها بأن تكون يقظة وحذرة .
لبست ثيابها ، تناولت بعض لقمات واقفة وقالت للحاجة زهرة ، اذا فاتت الساعة التاسعة ليلا ولم أظهر فبلغي الشرطة أن امرأة في خطر وأعطيهم هذا الرقم ، سأقابل صاحبه ، أشك أن خضراء في يد العصابة
الحاجة زهرة: لا ، لا ، لا تغامري أرجوك ، العصابة ليست النظام ، لا تعرف الا التصفيات ، وأخشى أن تورطك كما ورطت وحشية .
فايزة: هذا صديق حميم لوحشية لا أظنه يفعل ، ولو كان فيه شك ما كانت لتعطيني رقم هاتفه ، فلا تخافي سأكون حذرة جدا .


























الفصل الخامس عشر

من حسن حظك أنني أتيت في الوقت المناسب ، والا أنت الآن في عداد الأموات ، هذا جبن يا آنسة ، الحياة آكل ومأكول ، فلماذا هذه السلبية العمياء ؟ خلاص أنت الآن مجرمة في نظر القانون ، اذا سلمت نفسك فقد انتحرت ولكن بطريقة قانونية ، وان تحديت فالحياة مسرح التحديات ... انك في عز شبابك ، لا تحاولي ، نعرف عنك كل شيء وبالتفصيل ، كنا نراقبك خطوة خطوة .. والآن لك أن تختاري بين الاعدام والعمل معنا ، عندما تهدأ الأمور نستخرج لك جواز سفر وننقلك الى أوروبا ، نبحث لك عن عمل كممرضة في مستشفى وتتكلفين بالتنسيق وعبور بضاعتنا ، أظن أن العمل معنا أفضل لك من الانتحار أليس كذلك ؟
خضراء: أتركوا لي فرصة للتفكير
- لك ذلك ، لا شك أنك على يقين أن خروجك من هنا سيعرضك الى الخطر، كل الشارع يعرفك ، وآخر المارين يبلغ عنك أقرب مركز للشرطة
خضراء: أعرف ذلك
- كلمة أخرى ، أرجوك ان كنت مصممة على الانتحار ، لا تقومي بهذه الحماقة هنا ..
لم تصدق وهو يكلمها ، أنقذها وهي تحاول الانتحار ، جاء بها الى هذه الفيلا ، أكرمها ، وفر لها كل ظروف الراحة ، حتى اللباس اشترى لها على مقاسها ، هي في هذه الغرفة منذ جاء بها الى هنا ، لم يدخل عليها أحد ، الا رجل واحد ، طرح عليها بعض الأسئلة ثم انصرف ولم يعد ، لم تصدق أنهم من العصابة ، لياقة ، لباقة ، آداب ، ثقافة ، يحسنون الفرنسية حتى تكاد تقول أنهم أبناء فرنسا ، ويتكلمون العربية كأنهم فقهاء وفلاسفة ، كانوا أرفق بها ، ترى من صنع هؤلاء ليكونوا هكذا ؟ كيف استطاعوا أن يخترقوا كل الأجهزة ويكون لهم كل هذا النفوذ ؟ هل الثقافة الزائدة تقتل الضمير ؟ هؤلاء الذين ينقلون هذه السموم الى شعبهم ويشكلون العالم كما يريدون ويتجولون في أقطاره كما يشاؤون ، الكل على أعينهم ، يعيشون كما يشتهون ، لو كانوا ضد الحكم هل يستطيعون ؟ كثيرة هي الأسئلة التي تباد ت الى ذهنها فأسقطتها دون جواب ، ولماذا كل هذا الهم ؟ يكفيها ماهي فيه .
كانت الغرفة مجهزة كأنها في نزل كبير ، الهاتف ، جهاز تلفزيون ، سرير جميل ، راديو أشرطة ، ثلاجة فيها كل أنواع المشروبات والمأكولات الجاهزة والفواكه ، لم يغلقوا عليها الباب بالمفتاح ، لأول مرة تحس أنها حرة وفي أمان ، عاملوها بطريقة حضرية وبأخلاق فاضلة ، لم يجبروها بل خيروها ، مغامرتين أو ثلاث أحلاها أكثر من الحنظل ، العمل معهم ، الانتحار ، أو تسليم نفسها للأمن ، جلست على حافة السرير ، تفكر ، انها هنا منذ أكثر من شهر ، وكأنها في بيتها ، نافذتها تطل على الحديقة ثم الشارع ، لاشيء يثير فضول المارة ، تفزعها سيارة الشرطة لما تمر وتخيفها ، نعم هذه ظاهرة موجودة في الجميع ، مهما كنت ، ظهور الشرطة يخيف ، كالزوبعة عندما تتحرك لا تفرق ، وقفت تنظر الى البحر ، بعض القوارب عائدة ، كان البحر هادئا ، كأنه بحيرة زيت ، يتراقص قرص شمس المغيب على سطحه .
لا تزال تذكر تلك الليلة التي أتى بها هنا ، كان قرص القمر كقطعة نقدية على صدر حسناء ، كان المنظر رومانسيا حد الجنون ، ليل الشحون بنسمته العليلة يروي أساطير أخرى من زمن وجداني ، لا يصل اليه أحد ، يفسح مجالاته للحلم الجميل ، للحكايا وللبوح ، ما أجملك يا وطني وبدوني موحش أنت وفظيع ، لأنك موجود الا في نظرتي ، في بسمتي ، في كلماتي ، عندما أموت يموت شعورك بي وتنتهي الحياة ...
حرمها القلق في تلك الليلة بالاستمتاع بذلك المنظر كما تريد ... البيت يكاد يكون خاليا نادرا ماتسمع الأبواب تنصفق أو بعض الأشخاص يتحدثون ، وهي كذلك حتى رن الجرس ، ثم رن أخرى ، ثم أخرى ، فتحت باب غرفتها تطل ، دخل الرجل الذي أنقذها ومعه امرأة ، جلست في الصالون وصعد هو ، أغلقت الباب بهدوء ، وجلست كأنها تنظر الى التلفاز ، دق الباب ، أذنت له فدخل:
- عندك زيارة
خضراء: زيارة ! من ؟
- امرأة تعرفك
خضراء: أنا لا يعرفني أحد ولا أعرف أحدا في هذه المدينة
- هي تعرفك جيدا
خضراء: لعلها من الشرطة ، احذر ...
- أبدا ، كانت في السجن
خضراء: آ ممكن .. ما اسمها
- فايزة
خضراء: لا ، لا أعتقد أني أعرف واحدة بهذا الاسم
- تفضلي ، تريد أن تراك
خضراء: أنت متأكد أنها ليست من الشرطة ؟
- لا تخشي شيئا ، الشرطة ليست أذكى حتى تصل الى هنا .
نزلت خضراء وهي في دوامة البحث عن زائرتها ، استعرضت كل الحبيسات ، وأخيرا وجدت نفسها وجها لوجه مع فايزة ، تيقنت أنها لا تعرفها ،كانت المرأة في العشرية الرابعة ، يمكن أقل ، جميلة ، بيضاء ، شعرها أسود ، بعينين بنيتين ، ونظرة خلابة ، تلبس بدلة كلاسيكية رمادية فاتحة اللون ، عليها كل مظاهر الترف ، تحمل سفطا أسود، في رجلها حذاء من الكعب العالي ، ليست بالقصيرة التي تعاب ، في وجهها عن قرب آثار القهر في زوال ، كأنها الشعلة في بداية ايقادها ، قبلتها وبسمة النصر بنشوته تغمرها الى درجة الشك ، تنتظر خضراء منها أن تفصح ، أربكتها فبادرتها :
خضراء: من أنت ؟
فايزة: صديقتك ، أنت خضراء ؟
خضراء: صديقتي ولا تعرفني ؟ ، لعلك من الشرطة ؟
فايزة: لا ، لا .. أبدا ، بالعكس يا حبيبتي ، اني أتيتك بأخبار سارة جدا .
ثم تحولت الى الرجل: هل هناك شيء آخر ؟
ضحك وقال: بالدولار أو بالأورو .. لا ، لا ، وحشية أعطت الكثير ، وهذا أقل ما نكافؤها به ، ان السمكة كبيرة وستسبب لي بعض الازعاج ، ولكن سأتحمل مسؤوليتي ، فقط سنظطر لاخلاء هذا المكان حفاظا على السرية ، مهما يكن ان عدتي هنا لن تجدي أحدا ، ثم تحول الى خضراء :
هذه المرأة هي خلاصك ، فطاوعيها وستصلين قريبا الى بر الأمان
خضراء: تبيعوني وتشتروني ، انني في سوق النخاسة ؟ الموت أهون .. الموت أهون .. وخنقتها العبرات ..
وضعت فايزة يدها على كتفها وقالت: هوني ، لا بأس عليك بعد اليوم ، اعتبري أن هذا اليوم هو بداية للحياة الكريمة ونهاية الضياع ، سنعوضك عن كل الغبن ، لا تخشي شيئا
خضراء: لماذا أنت حريصة علي الى هذه الدرجة ؟
فايزة: تعالي معي ، وفي البيت أحكي لك كل شيء بالتفصيل ويبقى الخيار لك ، تبقين معنا أو تذهبين حيث تريدين .
كان الليل قد أظلم
- الى أين يا سيدتي ؟
- الى ساحة الشهداء .
انطلقت السيارة في صمت ، تتحرك عبر الشوارع ، زجاجها نصف شفاف ، سيارة من الطراز الفاخر ، مجهزة بكل الاحتياجات
فايزة: توقف هناك قبل المنعطف ، لقد وصلنا ، شكرا سيدي
نزلت ، ونزلت خضراء متنكرة بحجاب تنحني قليلا كأنها عجوز ، وقفت فايزة تنظر الى الرجل ، ليته كان في ضفتنا ، نظر اليها جيدا ، ابتسم وكأنه قرأ طويتها وغادر ...
انتبهت فايزة ، فأسرعت دفعت الباب بسرعة ونادت:
أمي .. أمي .. لقد جئت بها ، ها هي ذي .
أسرعت العجوز تحضنها بكل قوة
سامحيها يا بنيتي ، سامحيها ، لقد حملتك الكثير من الهم عن غير قصد ، أقسم لك أنها طيبة ، لم تكن تقصد ، وفي الأخير أرغموها ..
لا تزال خضراء في دوامة التعجب والتساؤلات ، لم تفهم شيئا ، تنظر الى هذه المرأة ، ذكرتها بزوجة المبروك ، تذكرت ، لو تتاح لها الفرصة تتصل به ، لا تزال تذكر رقم هاتفه ، جلست وأجلستها بجانبها وفايزة عن يسارها ، كأنه الجرح يلتئم ، وفاض الحنان يغمر الزمن والمكان والأنفس ، ترتوي منه القلوب .. وعمت الفرحة ، وذهبت بها الظنون أنه يمكن أن تكون أمها الحقيقية أو جدتها .
كانت العجوز زهرة تحنو عليها بطريقة بددت كل الشكوك وزرعت في نفس خضراء الاطمئنان .
الحاجة زهرة: أين وجدتها ؟
فايزة: عند صديق وحشية ، أنقذها ، كانت تحاول أن تنتحر ، وأخذها الى بيته ، أرادوا أن يوظفوها في التهريب ، وقبل أن يقدمها لرئيس العصابة ترك لها فرصة للتفكير ، لأنه كان يعرف أن لا خيار لها غير هذا .
خضراء: حطمني اليأس وكدت أوافق
الحاجة زهرة: يعني أدركتيها في الوقت المناسب .. هذا من حسن حظها
فايزة: كانت الصفقة بسيطة جدا ، خاصة لما ذهبت اليه باسم وحشية ، ولكن الذي سهلها أكثر هو أن أحدهم كان يريد أن يتزوجها ، فقرر ابعادها ، في نظامهم لا يجب أن تكون الرابطة بينهم عائلية حتى تسهل عملية التصفيات في الحالات الاستثنائية دون احداث أي شرخ في العلاقة التي تربطهم ، هذا على ما أظن ، وأحدهم أراد أن يكسر هذا الالتزام ، فكنت أنا في الموعد
الحاجة زهرة: أتمنى أن لا يكونوا قد أساؤوا معاملتك
خضراء: طوال كل هذه المدة ، لم أر أرحم ولا أرفق في هذا العالم من أولئك الرجال ، اساءتهم الوحيدة لما خيروني بين الشرطة والعمل معهم في التهريب .
فايزة: ولا أخبث منهم ، كانوا يعرفون أنك بريئة ، حاولوا أن يورطوك
خضراء: بريئة في نظركم ، ولكن في نظر القانون أنا مجرمة ، المخذرات ، والهروب من السجن
فايزة: لقد وجدوا التي كانت تنتحل شخصيتك وهويتك ، ووماتت في السجن قبل أن تحاكم .
خضراء: كيف ؟ ومتى حدث ذلك ؟! أنا ماعدت أفهم شيئا !
فايزة: أنت بريئة يا خضراء ، ألا تعرفي هذا ؟
خضراء: ومن أين لي أن أعرف ؟!
فايزة: العصابة كانت تعرف هذا جيدا
خضراء: كيف ذلك ؟ السجين في هذا البلد لا يعرف الحقيقة الا يوم القيامة ، حتى البراءة تحسب علينا فضلا منهم .
فايزة: سأحكي لك كل شيء بالتفصيل بعد العشاء ، الآن غيري ملابسك وارتاحي قليلا ، انك في بيتك .
ما أطول الانتظار ، وخاصة عندما يحدد بأجله مصير الانسان عندما يكون الأمر جزءا من عمرنا ، من ذاكرتنا ، من أيامنا ، ولا يعرف قيمة الأمس مهما كانت الا من افتقدها ، هي وحدها التي لا تعرف النسيج الذي حولها ، هي وحدها التي كانت تنتحر على شفتيها الأسئلة ، هي وحدها التي تعاني من المجهول ، كانت على أحر من الجمر ، لمعرفة الأشباح التي تتصارع في الظلام حولها ... ما طاب لها شيء ... من هذه العجوز ؟ ... ومن هذه المرأة ؟ ... ولماذا كل هذا الاهتمام ؟ ... ألا يمكن أن يكون هناك تشابه أو خطأ ؟ ...
تناولن العشاء وهي على مضض ، تبتسم مكرهة وتتظاهر بالارتياح ، سكنها القلق من جديد .
جلسن في الصالون ، وبدأت فايزة تروي لها الحكاية من أولها الى آخرها ، كان الحديث دراما مركبة بدقة ، جمعت أحداثها بطريقة غريبة ومثيرة ، وجدت تفاصيلها في الفراغ الذي كان يسكن خضراء ، انها الاجابة على أغلب الأسئلة التي تبادرت الى ذهنها ، تفاصيل أغرب من الخيال ، ولاستكمال المشهد ، بدأت خضراء تروي لهما قصتها من كتاب مفتوح ... بدأت مباشرة من رأس الألم ، فقالت:
- أنا لقيطة وضحية التبني ، هكذا والمحن تترادف وتتوالى والحظوظ تندحر ، الآمال تغتال ، والماضي يأكل الحاضر ، والحاضر يغتال المستقبل حتى أدركها الانتحار ، وكانت النجاة من المفارقات العجيبة ... انها ليلة الدموع ، تتقطع فيها الأكباد وتنزف فيها القلوب عصارة الألم ، وينحني الضمير خجولا أمام هذا القدر الذي لم يرحم .. يجب أن تكون امرأة لخوض غمار هذا القضاء ، تشتري الصبر من كل شيء ، من الجميع ، وحدها المرأة التي يجب أن تدفع الثمن غاليا عندما يتخاذل المجتمع ويقوم بالحماقات .
فايزة: اننا نعيش نفس الكابوس تقريبا
الحاجة زهرة: لا بأس عليكما بعد اليوم ، سأعوضكما ما استطعت حتى تنسيا ألم الأيام ، أما المجتمع بكل تركيباته هو مجرد بوق ينفخ فيه نافخ الشر ونافخ الخير ، والطيور على أشكالها تقع
خضراء: أشكرك يا سيدتي
الحاجة زهرة: لا تقولي سيدتي ، بل قولي أمي ، انك تشبهين وحشية في الخلق والخلق ... هكذا كنت أتصورك
خضراء: أشكرك يا سـ .... يا أمي .
تعانقن في حنان وتبادلن ألطف العبارات ..
الحاجة زهرة: لقد أحييتي هذا البيت يا فايزة ، أتمنى أن أرى أولادك يملؤونه ضجيجا .
فايزة: حلم بعيد المنال ، يكفيني أن أكون طفلتك المدللة .
نظرت الى خضراء ، ابتسمت بخبث وواصلت:
- بشرط ، لا تؤثري خضراء علي ، اني أراها أجمل مني وأقرب اليك .
أما خضراء عادت بها الذاكرة الى بيت المبروك ، زوجته ، ابنته ، ابنه ، كلبه ركس ، وقطه خيوب ، تذكرت كريم ، سترة ، الحاج لشرف ، العمة نونة ، الامام ، ثورة ، الرجوع اليهم صار من رابع المستحيلات ، هنا في هذا البيت ومع هذه العجوزستبدأ الحياة من جديد عدا تنازليا آخر، الى أين ؟ هذا ما لا يعلمه أحد .
ذهبن الى النوم ، وشاركت خضراء في ليلتها الأولى ، شاركت فايزة في غرفتها ، وضعت لها سريرا بجانبها ، نامت فايزة بسرعة أما خضراء شدها الحنين من جديد الى البيت ، انقطعت بها السبل ، الآن وهي اليوم منتهكة العرض ، لن يقبلوا بها ولو كانت من صلبهم ، وانتابها عتاب ضمير أباحت له أن يدينها عبر العاطفة بسهولة ، تعاودها فكرة الانتحار من جديد ، لا تزال ذلك الرقم المجهول بل ازداده التجاهل ، خنقتها العبرات وسمعتها فايزة ، فقامت أشعلت الضوء ، وقالت:
مابك ؟ لماذا تبكين ؟ لن تجدي أطيب من العجوز ولا أرحم ، لها من الحنان مايغمر الدنيا بأكملها ، ومن المتاع ما يهون كل المصائب ، والآن أنت في بر الأمان ، ولك أن تصنعي بنفسك ما تريدين ، قادرة على بناء مستقبلك دون الاعتماد على أي أحد ، أساعدك على ذلك ، ستنالين برائتك ، ونطالب باعتذار رسمي عبر الصحافة ، سأكون في الميدان وأعمل على ذلك ما استطعت .
خضراء: هل تظنين أنك في انجلترا أو سويسرا ؟
فايزة: ونطالب بتعويضك
خضراء: هل تحولت يد الحديد الى أم حنون ؟ آه ، تذكرت ، أنت درست حقوق ، لا زلت تعيشين كتبك .
فايزة: بطبيعة الحال عندما تسكت الأمة تضيع الحقوق .. وما ضاع حق وراءه مطالب
خضراء: أنا خسرت كل شيء ، لا يمكن أن أتدارك ما فات ، والحياة أصبحت في اعتقادي مسخرة ، لا تساوي كل هذا القلق الذي يسكننا ، والسعادة مثلها مثل الحرية ، قيدوها بالوطن ، هذا الوطن الحق الذي أرادوا به باطل
فايزة: الظلم عمره قصير
خضراء: الظلم عمره قصير ؟! أنت تقولين هذا ؟! أنت التي قاسيت عشر سنوات من دفاعك عن شرفك ؟
فايزة: وخرجت ، وسأقاوم هذا الظلم بالقلب وبالقلم ، هذه المرة ان عدت الى السجن ، سأعود من أجل الوطن ، ويكتبهم التاريخ جبناء ، لن أتنازل عن عزتي وكرامتي
خضراء:أين هذه الكرامة والعزة يا فايزة ؟ هذا هراء ، هذه الأشياء لا نراها الا في الأفلام ، ونسمعها في الخطابات ، أنظري ، حتى المجتمع يطاوع بطريقة غريبة ، كأنه مخذر ، هذا الاستعداد للذل والهوان قد تفشى حتى في النخبة ، وحدها منطقة القبائل التي بقي فيها شيئا من الشهامة ، رفضوا الكل جملة وتفصيلا
فايزة: أبدا يا خضراء ، هذا تمرد يمزق الشعب ، هذه مناورات فاشلة يدبرها الأعداء
خضراء: بل هو دليل على عدم قدرة الوطن على احتواء الجميع والحنو على الجميع ، فأصبحت قضايا الوطن في عيون الناس أعظم وهم
فايزة: انك تفتقدين الى منهجية العلاج ، نعاني نفس المشاكل ، ولا أعرف كيف تسربت الى عقلك هذه الأفكار ، أعترف لك بكل معاناة الدنيا ولكن لا أسمح لك بهذه النظرة ، ربما هو ناتج عن مستواك العلمي المحدود ، تسلحي بأفكار تحررية وتقدمية نيرة ، نحن بحاجة الى ما يجمعنا لا الى ما يفرقنا ، حقيقة شعبنا ساذج ، ولكنها سذاجة فيها للخير نصيب ، عدوانيته في لسانه ليس الا ، أنظري الى ما تحمله وما يتحمله بصدق ، يحب الأحلام ويصدقها ، ولهذا لا يريد أن يستيقظ حتى لا يدمر الوعود التي ينتظرها .
خضراء: الشعب العظيم ؟! ماذا صنع هذا الشعب للبؤساء حتى نقيم له الوزن ؟ ، هذا الشعب البائد الذي نعيش معه لندفع ثمن أخطائه ، شعب دواليبه في أيد لا ترقب فينا الا ولا ذمة ، يحركونه خلف الستائر الملونة ، ، انها عرائس لا حول لها ولا قوة ، لا تحرك ساكنا حتى لما تمس في مقوماتها وهويتها وتاريخها
فايزة: أنصحك بالقراءة
خضراء: أنتن الحاملات للشهادات العليا ، ماذا فعلتن بهذه الأوراق التي توزع مجانا في المعاهد والجامعات .
فايزة: هذا الاحباط لا يخدمك ، ثقي بنفسك واضربي بجذورك في عمق هذا الوطن ، حينها تخضر أوراق الأيام وتزهر وتثمر، لا توظفي المصطلحات بمفهومهم ، الوطن ، الشعب ، الحرية ، فتضيع القيمة الحقيقية التي أريد لها أن تكون في هذه الأشياء
خضراء: أنا لقيطة يا فايزة ، وقد حكم علي المجتمع ، مهما فعلت لن يرضى عني .
فايزة: كوني فقط انسان ، تأتيك الأشياء وحدها ، وظفي هذه الانسانية بأخلاقها الفاضلة وكرمها ورحمتها ، وحب الخير للغير ، تحلي بالصبر والأمل ، واستعدي للمواجهة بقوة اليقين ، تصلبي للحق
خضراء: أحاول يا فايزة ، أحاول ... بدونك كنت سأنتحر ، انها غربة الذات التي تسكنني ... لا أصل لي ولا فصل ... أنا الخطيئة
فايزة: نحن أصلك وفصلك وأوليائك ، أمهليني ، وبعد الحصول على برائتك ، سأجعل الأسرة التي رفضتك تندم على اليوم الذي رموك فيه الى الشارع ، سأجعل من ضمائرهم أشباحا تطاردهم ليلا و نهارا وتدفعهم الى الانتحار ، أمهليني فقط ... ارتاحي الآن ، وانظري الى الحياة بعيون المستقبل .
خضراء: سأفعل
انقطع الحديث ، واستمرت فايزة في محاكمة الواقع المر دون قناع ، كثيرة هي بقايا هذا المجتمع بعد انهزامه على جميع الأصعدة ، مجتمع يمشي منحنى الرأس نحو البؤس والمهانة ، تقوذه اليد الحديدية الى الهاوية ... سكنها نفس الهاجس الذي كان يسكن خضراء ، آه ، كم عانت هي كذلك ، ليس من المفروض أن يكون الانسان فيلسوفا ليفهم واقع هذه الأمة التي مدت عنقها لتكون دائما الضحية والأضحية ، كفرت أنا قبلها ، بالقانون والمثل ، وقررت أن أرفع التحدي وحدي ، لكي أعيش ، أعيش ولو في الجحيم ولكن بكبرياء ، هذا المجتمع لا يأدبه الا التمرد والانتقام ومخالفته في كل شيء ، الكفر بكل ما يؤمن به ، مجاهرته بالعصيان ، أضربه في صميم عاداته ومعتقداته ، أبتذل كل مقوماته وتاريخه باسم حرية الفكر والمعتقد ، هذا المجتمع الجبان الذي يأخذ على يد المظلوم ، ويأخذ بيد الظالم ، عظمته وتمدنه وعزته عالقة بلسانه ، تختفي باختفائه ... هكذا كنت كخضراء ، وربما أكثر، حتى لا أكاد الآن أن أصدق ، ولكن لغة الوطن غير لغة هؤلاء الجاثمين ، والوطن يئن ، لقد حولوا القاطرة وسنردها ... سنردها .. ستردها النون وحدها لما جبن الذكور ... أمهليني يا خضراء ... أمهليني وسأشفي غليلك وترتسم ابتسامة السخرية على تلك الشفاه الجميلة .
خضراء: أنت نائمة ؟
فايزة: كنت ..
خضراء: اني أشعر برغبة كاسحة للعيش ، لا أستطيع أن أصفها
فايزة: لقد دبت فيك الحياة فأبشري يا سمرائي .
ضحكت خضراء ضحكة صبية ، عانقت وسادتها بكل حنو ، والتحم جمال السواد بالسواد الجميل ، وبدأ الحلم في حضن النوم العميق .