آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: مكانة مالك بن نبي في الحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي المعاصر

  1. #1
    أستاذ بارز
    تاريخ التسجيل
    31/12/2010
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    14

    افتراضي مكانة مالك بن نبي في الحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي المعاصر

    الدكتور جيلالي بوبكر
    مكانة مالك بن نبي في الحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي المعاصر
    إنّ وزن المفكر أو الفيلسوف بين المفكرين والفلاسفة يصنعه فكره وتحدده فلسفته، و"مالك بن نبي" واحد من المفكرين والفلاسفة ذكرته نظريته في الحضارة، صنع مكانته فكره الإصلاحي المتميز، فتألق نجمه في سماء الحركة الإصلاحية التجديدية في العالم الإسلامي المعاصر، وذاع صيته خارج العالم الإسلامي، وصار واحدا من كبار قادة الفكر ورواد الفلسفة، في عصرنا هذا.، اعتنى بفكره وفلسفته العديد من الباحثين، بعضهم يدرس ويحلل ويدافع، وبعضهم ينقد ويقوّم، وأهمية هذا الفكر وهذه الفلسفة والعناية بها والوقوف عليها بالتحليل والتقويم كل هذا يعود إلى كونه فكرا اعتنى بقضية الحضارة، ومسألة البناء التاريخي، وهي قضية تهم كل فرد وتهم كل مجتمع وكل أمة وتهم الإنسانية جمعاء، خاصة وأنّ الحضارة بالمعنى الحديث والمعاصر تعني التقدم والازدهار في المجال الاجتماعي والاقتصادي، كما تعني السمو الأخلاقي، والتقدم العلمي والتكنولوجي، وتقابلها– ليس البداوة- ظاهرة التخلف وتعني الانحطاط الاجتماعي والضعف الأخلاقي والتدهور الفكري والفساد والفوضى، وكل ما يسيء إلى حياة الإنسان كفرد وكمجتمع. والإنسان يطمح باستمرار إلى الأفضل في الفكر والعمل والحياة عامة.، فهو ينفر من التخلف، ويطلب الحضارة والتقدم، وبما أنّ "مالك بن ني" تفلسف حول الحضارة وشروطها وعناصرها وموانعها وعوامل انهيارها، وحول التخلف وأسبابه وموانعه فاستهوى ذلك المثقف والمفكر والباحث، وجاءت أهمية العناية بهذا الفكر في قضية البناء الحضاري والتاريخي بشكل عام.
    ارتبطت نظرية الحضارة، وفلسفة الإصلاح، وفكرة التجديد الحضاري عند "مالك بن نبي" بالإسلام باعتباره المصدر الأعلى والوحي الأسمى، وكلمة الحق، والقانون الأبدي الخالد في التوجيه والتدبير في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية والأممية العالمية، ارتبطت بالتاريخ الإسلامي والفكر الإسلامي برمته وعلى رأسه فكر "ابن خلدون" والحركة الفكرية الإصلاحية الحديثة بزعامة "جمال الدين الأفغاني" و"محمد عبده" وغيرهما، وكان للحضارة الغربية ومنتجاتها والفكر الغربي واتجاهاته تأثير واضح على محاولة "مالك بن نبي" الإصلاحية، هذه المحاولة العلمية التي تميزت بالجّد والجدّة، سواء فيما يتعلق بمجال المتابعة والمراجعة والتقويم لمسار حركة البناء التاريخي الحضاري للأمة، أو فيما يتعلق بمحاولة التغيير والتجديد الحضاريين، وهي محاولة يعدها العديد من الباحثين ويعتبرها الكثير من المفكرين الكبار ناجحة، استطاعت أن تضع الإطار السليم والقويم لمسألة البناء الحضاري، وأن تحدد العديد من لوازمها وأدواتها، وأن تعي كل ذلك ويظهر في نسق فكري تميّز بالجدة والأصالة، وهي محاولة لم يستطع الوصول إليها مفكرون آخرون في عصره، فكانت حقّا فريدة في نوعها، وذات طابع خاص ومتميز. استطاعت هذه المحاولة أن تُلبي مطالب البحث والدراسة في نقد وتقويم حركة النهضة الإسلامية الحديثة، وتميز هذا النقد وتميّزت المراجعة بالموضوعية والجرأة، ساعد ذلك على كشف النقائص ومعرفة نقاط القوة، كما ساعد على رسم خطة الإصلاح والتجديد، بل استطاع صاحبها أن يبني فلسفة ذات نسقية وتكامل في عناصرها، فهو صاحب رؤية فلسفية للتاريخ والحضارة والإنسان تختلف عن الرؤية الخلدونية وعن رؤيا كثيرة لفلاسفة غربيين محدثين أمثال "توينبي" و"فيكو" و"سبنجلر" وغيرهم، فهو بحق فيلسوف الحضارة و التاريخ في عصرنا هذا.
    إنّ نظرية الحضارة و التجديد الحضاري عند "مالك بن نبي" من إنتاج موهبة قويّة وشخصية فذّة صنعتها أحداث وظروف تاريخية فكرية واجتماعية تمثلت في إيمان صاحبها القويّ بربه وبدينيه وبرسالته و بواجبه نحو أمته، فوهب حياته لها واستنفذ كل ما يملك من طاقة في سبيل الكلمة الصادقة، والفكرة النيرّة الحرّة، وفي سبيل السعي إلى إنقاذ الأمة من الفساد وإخراجها من عالم الجهل والتخلف والانحطاط والاستعمار والقابلية للاستعمار، فنال واقع المسلمين المزري لما تميّز به من تدهور في جميع المجلات كل العناية بالبحث والفحص والتمحيص من طرفه، مشخصا المرض ومحددا أساليب الوقاية وكيفيات العلاج، فكان الطبيب الناصح، خاصة وأنّ الاستعمار الغربي لم يكن عسكريا فحسب، بل حمل معه فكرا وروحا غربية وقيمّا دينيه و فكرية تزيد في إبعاد الأمة الإسلامية عن هويتها وقيّمها، وتزيد في تشويه الإسلام والتاريخ الإسلامي وتراث المسلمين، انتقاما من جهة، وحبّا في التوسع والهيمنة الفكرية و الثقافية بعد الهيمنة العسكرية والاقتصادية من جهة ثانية، لذا تصدى "مالك بن نبي" للاستعمار الغربي وللفكر الغربي، بفكره وقلمه، وانتقده، سواء تعلق الأمر بفلسفات الحضارة والتاريخ في العصر الحديث أو بالنسبة للتيارات الفكرية والسياسية والاقتصادية، مثل الفكر اللّيبرالي والفكر الاشتراكي والفكر الإلحادي وغيرها، ولم يرفض التأثر والاقتباس من الفكر الغربي، ولم يعرض عن استعمال منتجات الحضارة الغربية، لكن في إطار أسلوب ومنهج وفكر يسمح بامتلاك شروط التحضر ويمنع الانغماس والتبعية في الغرب ، ويرفض المديونية الحضارية، لقد شيّد "مالك بن نبي" منظومة فكرية حضارية حدد فيها بدقة وانطلاقا من الدين التاريخ والواقع طبيعة التخلف، وعوامله وموانعه من جهة كما حدد عوامل وشروط وعناصر التحضر والبناء التاريخي، وبيّن أسباب التراجع الحضاري ودواعي انهيار الحضارات وأفولها من جهة أخرى، فكانت فلسفته الإصلاحية فعلاً هادفا فاعلا على طريق الوصول إلى وعي تام بالتحضر وبكل ما يتعلق بالحضارة ويتصل بها، وعـي نابـع مـن الذات الإسلامية ومقوماتها ويستثمر ما للغير من جديد، وهي صورة حيّة تعكس قضايا الأمة العربية والإسلامية الفكرية والثقافية، وتطلعات العالم الإسلامي ومفكريه الحضارية، وهي مساهمة جادّة في حل مشكلات الأمة الحضارية في إطار قيّمها الدينية وخصائصها التاريخية.
    ومكانة "مالك بن نبي" وقيمة منهجه في البحث والطرح والمعالجة وفي المراجعة والنقد والتقويم ووزن فلسفته الإصلاحية ودور فكره وأهمية التجديد الحضاري عنده كل ذلك تبلور في موافق المفكرين والباحثين الذين عاصروه أو قرءوا له، فهذا هو يقول عن نفسه : "كان مولدي في الجزائر عام 1905، أي في زمن كان يمكن فيه الاتصال بالماضي عن طريق آخر من بقي حيّا من شهوده، والإطلال على المستقبل عبر الأوائل من رواده. هكذا إذن فقد استفدت بامتياز لا غنى عنه لشاهد، حينما ولدت في تلك الفتـرة". ويقول كذلك عن واجبه وعن رسالته نحو أمته: "إنني حضرت إلى القاهرة للقيام بواجبين: أحدهما يخص مهمتي كاتبا يريد نشر كتاب "الفكرة الإفريقية الأسيوية" وقد يدلكم عنوانه على صلته بالقضية الجزائرية، سواء اعتبرناها من الناحية الداخلية "توجيهات تخص الكفاح" أو من الناحية الخارجية "كنشر هذه القضية في المجال الدولي"… وأما الواجب الثاني الذي حضرت من أجله إلى القاهرة، فهو يتعلق بشخصي بصفتي جزائريا أسهم في الكفاح ضد الاستعمار منذ ربع قرن، ويأتي الآن كي يواصل هذا الكفاح تحت راية الثورة الجزائرية". ويقول في كونه مصلحا: "كنت أعيش بباريس وأحمل بها وحدي لواء الإصلاح في وجه العواصف والأعاصير التي كان يثيرها الاستعمار على خصومه".
    يذكر العديد من المفكرين فكر وفلسفة ومنهج "مالك بن نبي" وينعتون ذلك بالقوة والمتانة والدقة واليقين، وهذا "الأستاذ راشد الغنوشي" يعتبر مالك بن نبي" "مدرسة في الفكر الإسلامي الحديث، لم ينصب فكره على النص الإسلامي، وإنّما على مناط تطبيقه على المجتمع من إعادة بناء الحقيقة الموضوعية في نظر العقل السلم، بالكشف عن سنن البناء الحضاري وتطوره في اتجاه القوة والضعف… فمالك يرى أن الحضارة ليست نظرية في الفلسفة وفي المعرفة عامة مهما كانت جميلة ومتناسقة حتى ولو كان الإسلام ذاته، وإنما الحضارة إنجاز في عالم الزمان والمكان، ثمة تفاعل فكرة مع واقع بحسب شروط موضوعية لا تتخلف".
    يصف شخصية "مالك بن نبي" وخصاله أحد تلاميذه المقربين "الأستاذ عمّار طالبي" وقد اتسم فيما يرى التلميذ أستاذه "بفكر حاد، و ذهن نفاد يعاني و يفكر ففكره فكر حي، فعال مركز، تغلب عليه الصور العقلية، لا الصور اللّفظية، فيما يتكلم و فيما يكتب. يشعر في أعماقه بأن له رسالة وبالرغم من الصعاب التي واجهته في حياته الشاقة، فإنه لم يتزلزل في يوم، ولم يشعر بأن عليه أن يترك رسالته، و يلقي بعبئها، وشخصيته شخصية أخلاقية ملتزمة بالأخلاقية الإسلامية الصافية، ذو أصالة وهمّة عالية، و أنفه شامخة، عوده لا يلين في الحق، و قلبه لا يخشى فيه لومة لائم، و لعل تكونيه الرياضي والعلمي وسمه بالوضوح، لا لبس فيه، وذلك في يقيني ما أصّل فيه فضائله العقلية ورسّخ ميزاته الأخلاقية".
    تألّق نجم "مالك بن نبي" في فضاء فلسفة الحضارة فـي عصرنا الحاضر، و"طرح أفكارا أو فرضيات كثيرة في غاية الأهمية، لكن الثقافة الفقهية والوعظية والمنهجية الآلية أو الحرفية في التعامل مع الوحي والواقع والتراث والمستقبل …همشّت هذه الأفكار الجنينية الهامة وحرمتها من النمو الطبيعي، واستكمال نضجها، وإفادة الأمة بها، في وقت هي أشد ما تكون احتياجا إليها. وبهذا وقع له مثلما وقع لابن خلدون قبله عندما لفّه ليل الانحطاط الحضاري، ولم تمكن ظروف الأمة أفكاره الجديدة من النمو والتبلور والنضج والتمثل في واقع الأمة. وللعلماء الاجتماعيين المسلمين مسؤولية كبيرة في ربط حلقات هذه المدرسة الحضارية، ومواصلة تأكيد حضورها، وتحويلها إلى محور ارتكاز أساسي في المنظومة الثقافية للحركة الإسلامية والأمة عامة، باعتبارها المصب الحتمي لبقية الروافد الفكرية الأخرى في عملية البناء الحضاري".
    يذكر خصاله العديد من الباحثين والمفكرين، فهو عندهم "ليس كاتبا محترفا، أو عاملا في مكتب مكبّا على أشياء خامدة من الورق والكلمات، ولكنه رجل شَعَرَ في حياته الخاصة بمعنى الإنسان في صورتيه الخلقية و الاجتماعية. وتلك هي المأساة التي شعر بها بن نبي بكل ما فيها من شدة، وبكل ما صادف من تجاربه الشخصية النادرة من قساوة. وهي التي تقدم المادة الأساسية لمؤلفاته سواء "الظاهرة القرآنية" أو الدراسة". التي يقدمها اليوم كأنشودة بهيجة يحي بها "كوكب المثالية" الذي يسجل فجر الحضارات منذ العصور المظلمة...وتكوين المؤلف كمهندس قد ساعده دون شك في التصور الفني للأشياء، ولكن ثقافته المزدوجة تسمح له بأن يصل هذا التصور بالخطة الإنسانية... ونضيف إلى هذا أن الأمر لا يتعلق بعمل مفيد للجزائر فحسب، لأن هذه الدراسة تتعدى بعبقريتها حدود الجزائر، لكي تضم مجال العالم الإسلامي كله، حيث أنّها تتضمن المشكلة الإنسانية في سائر عناصرها … ونحن نأمل أن تخدم هذه الدراسة سير النهضة في العالم العربي وفي العالم الإسلامي، للذين يجب أن تتوافق صحوة ضميرهما مع ضابط النغم في الضمير العالمي، الذي يبحث بصورة مؤثرة عن وسائل طمأنينته في طريق السلام والديمقراطية".
    لقد كان "مالك بن نبي" ناقدا، انتقد حركة النهضة ونظر إليها نظرة تحليلية، وأبرز فيها المساوئ والمحاسن، كما انتقد وضع المسلمين وما آل إليه حالهم من تعاسة وبؤس ومن انحطاط حضاري، واهتم كثيرا بقضية الإصلاح والتجديد، وتمحور فكره على مسألة الحضارة التي أهتم بها المفكرون المسلمون في العصر الحديث، مثل "جمال الدين الأفغاني" و"محمد عبده" وغيرهما، هؤلاء الذين انتقد فكرهم "مالك بن نبي" واكتشف عيوبا منهجية في حركة الإصلاح عندهم، ومع تقديره للكثير من الجوانب الإيجابية فيها فهو يرى "بأن الحركة الإصلاحية لم تهتم بالفكر باعتباره أداة إيجابية ذات فعالية و حركة، ولكنها نظرت إليه باعتباره زينة وترفا فافتقدت الفعالية المطلوبة التي تعتبر عنده من الأسس الأولى التي يجب الاهتمام بها ليكون للفكر أثره الإيجابي". ويتسم "مالك بن نبي "في فكره حسب أحد المفكرين المقربين إليه "الدكتور محمد المبارك" بأنه "ليس مفكرا كبيرا وصاحب نظرية فلسفية في الحضارة فحسب، بل داعيا مؤمنا يجمع بين نظرة الفيلسوف المفكر ومنطقه، وحماسة الداعية المؤمن وقوة شعوره، وإنّ أثاره في الحقيقة تحوي تلك الدفعة المحركة التي سيكون لها في بلاد العرب أولا وفي بلاد الإسلام ثانياً أثرها المنتج و قوتها الدافعة، وقلما استطاع كاتب مفكر أن يجمع بين سعة الإطار والرقعة التي هي موضوع البحث، وعمق النظر والبحث وقوة الإحساس والشعور…إنه ينهل من نفحات النبوة ويتابع الحقيقة الخالدة". ويقول عنه "الأستاذ أنور الجندي" : "مالك بن نبي يختلف كثيرا عن الدعاة المفكرين والكتاب، فهو فيلسوف أصيل له طابع العالم الاجتماعي الدقيق الذي أتاحت له ثقافته العربية والفرنسية أن يجمع بين علم العرب وفكرهم المستمد من القرآن والسنة والفلسفة والتراث العربي الإسلامي الضخم وبين علم الغرب وفكرهم المستمد من تراث اليونان والرومان والمسيحية".
    يستخلص الباحث من دراسته لأفكار مالك بن نبي حول الحضارة والتخلف والثقافة والإصلاح والتجديد، أنّه المفكر والفيلسوف، والناقد والمصلح. يحتل فكره مكانة بارزة في الحركة الإصلاحية الإسلامية المعاصرة، وتمثل نظريته في الحضارة والتاريخ اجتهادا في الفكر والفلسفة لم يسبق إليه أحد قبله، انبثق هذا الاجتهاد الفلسفي من الإسلام والفكر الإسلامي وواقع العالم الإسلامي والشعوب المتخلفة عامة من جهة، ومن الحضارة الغربية والفكر الغربي من جهة ثانية، إن مالك بن نبي يمثل بحق رائد فكر وصاحب تجديد وواحدا من كبار دعاة الإصلاح والتجديد والحضارة.






















    خاتمة:
    إنّ المتصفح لفلسفة "مالك بن نبي" في الإصلاح ولنظريته في الحضارة والتجديد، يكتشف عالما فكرياً فلسفياً مليئاً بالمفاهيم وغنياً بالتصورات وفريداً في نوعه وجديداً في العديد من جوانبه، خاصة فيما يتعلق بالحضارة وعناصرها وشروطها وأطوارها، فهو يري أن ظاهرة التخلف ليست طبيعية في البشر، بل تعود إلى أسباب ذاتية وأخرى موضوعية، وتستفحل عندما تغيب الشروط والأدوات اللاّزمة للنّمو الفكري والأخلاقي والاجتماعي، هذا النًمو هو السبيل إلى التحضر، تقابله مجموعة من المشاكل والوضعيات والظروف الفاسدة المنهارة في حياة الفرد والجماعة في جميع جوانبها الفكرية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، هذه المشاكل والظروف والوضعيات ترتبط بظاهرة التخلف والانحطاط، وتقوم الحضارة باعتبارها إطاراً يضمن لكل فرد داخل المجتمع مطالبه وحاجاته في كل طور من أطوار وجوده، بإعطائه الأدوات واللوازم الضرورية للمجتمع النامي المالك لقدرات فكرية واجتماعية واقتصادية إرادة استعمال سائر القدرات في حل المشاكل التي تواجه المجتمع المتخلف، والحضارة هي التي تكوّن هذه القدرة وهذه الإرادة معًا، وهما لا تقبلان الانفصال عن دور المجتمع النامي، فالحضارة هي شرط إيجاد القدرة والإرادة لتجاوز التخلف والتدهور في ذات الفرد وفي مجتمعه، وهي ترتبط بالإنسان والتراب والزمن والفكرة الدينية التي تجمع بين العناصر الثلاثة في مركب واحد هو الحضارة. ولها عمر وأطوار هي: طور الروح، طور الأوج، و طور الأفول، تسبقها مرحلة ما قبل الحضارة وتليها مرحلة ما بعد الحضارة، لكل واحدة من المرحلتين خصائص ومميزات، وتشترط الحضارة التغيير على أسس القاعدة الإلهية التي تعبر عنها الآية القرآنية: ﴿إنّ الله لا يغيرّ ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم﴾.
    ظاهرة التغيير مجالها النفس أولا ثم المحيط الخارجي ثانيا، تشرط القدرة على الإبداع والقدرة على الإنتاج، ولا تقوم على التكديس والاستيراد بل على البناء، وأن تلد الحضارة منتجاتها لا العكس، لأنّ العكس يستحيل منطقيا وماديا، ويغرق المجتمع في الشيئية من جهة وفي المديونية والتبعية الحضارية من جهة ثانية، وتشترط التوجيه الأخلاقي والعملي والفني الجمالي، وهي شروط تضمن الانسجام والتكامل بين المجهود الإنساني المبذول في مستوى الفرد وفي مستوى المجتمع مع سنن وقوانين الآفاق والهداية والتطلعات، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى تكفل تلك الشروط التكامل والانسجام بين المجهود الإنساني والسنن الكونية مع جملة الشروط النفسية والاجتماعية والروحية والمادية من أجل النمو والازدهار في جميع مجالات الحياة الإنسانية.
    الحضارة بالمعنى المذكور هي فعل بنائي تقتضي أُسُساً فكرية وروحية وجهوداً كبيرة في عالمي الأشخاص والأشياء، وذلك يشترط مخطط تربية يهدف إلى تغيير الإنسان في الداخل وفق شروط معينة ليتمكن من أداء دوره في المجتمع ويحقق البناء الحضاري.
    إذا كانت الحضارة بناءا لا تكديسا واستيرادا فهي فاعلية إنسانية تقوم على تغيير الإنسان في عالمه النفسي أولا ثم تغيير محيطه ثانيا، وتحصل هذه الفاعلية بتوفر جملة من الشروط والعوامل النفسية والاجتماعية والروحية والمادية، وبتوفر الإرادة والقدرة على إبداع المعرفة وإنتاج الأشياء، واستغلال ذلك لخدمة الإنسان وضمان راحته، ولفصل الحضارة الحقيقية عن الحضارة المزيفة، فالأولى تلد منتجاتها أما الثانية فهي من صنيع منتجات حضارات الغير، والتجديد الحضاري ظاهرة إنسانية ترتبط بالحضارة وبشروطها وعناصرها وأطوارها وازدهارها وتكون سابقة على الحضارة فتصنع النمو والتحضر والازدهار، كما تكون ملازمة لها فتستمر في تنميتها وتطويرها، وقد تكون سببا في انهيارها وأفولها، والمقصود هنا عندما تبلغ الحضارة طور العقل يضعف سلطان الروح وتسترد الغريزة نفوذها فتهوي بالإنسان إلى حضيض الحيوانية حيث شريعة الغاب.
    لقد تميزت نظرية الحضارة عند "مالك بن نبي" بجملة من المميزات التي لم يشهدها مصلح آخر في فكره الإصلاحي، فهي نظرية انبثقت من تحليل تميّز إلى حدّ بعيد بطابعه العلمي، وبالدقة والعمق والموضوعية، والواقعية في طرحه ومعالجته للمشكلات والظواهر في حياة الفرد والمجتمع، كما تميزت الحلول التي جاء بها لتلك المشكلات والتصورات التي خرج بها من دراساته وبحوثه المعمقة للتاريخ والواقع بالقوة لارتباطها بالعلم والواقع والتاريخ والدين، و تميّز منهجه في البحث بطابعه العلمي وبتنوعه، فهو يستخدم المنهج الرياضي وطريقة المؤرخ ومسلك عالم الاجتماع وسبيل الكيميائي وغيرها، هذا ما زاد في متانة وقوة أفكاره ودقتها، وزاد في انسجام هذه الأفكار والتصورات مع ما يجب فعله في العمل الإصلاحي التجديدي.
    تمثل نظرية "مالك بن نبي" في الحضارة، إستراتيجية إصلاحية تجديدية تستهدف تغيير الواقع الإنساني عامة وواقع العالم المتخلف ـ العالم الإسلامي جزء منه ـ بصفة خاصة، بحيث تضع بين يديه آلية فكرية نظرية للخروج من التخلف وبلوغ مستوى الحضارة، فهي مشروع منهج وضعه صاحبه للقضاء على ظاهرة التخلف بعدما درسها وكشف عن عوامل وأسباب وجودها، ولغرض الوصول إلى الحضارة بعدما درسها وكشف عن قوانينها وآلياتها الروحية والمادية. تميّز هذا المنهج بالقوة والمتانة لارتباطه بالعلم والدين والتاريخ، وبقوانين هذه الأطر الفكرية والروحية باعتبارها مصادر توجيه وقيادة في حياة الإنسان، ولارتباطه بالفكر الإنساني القديم والحديث وبواقع الإنسان المعاصر في العالم المتقدم بما له وما عليه، وفي العالم المتخلف بما عليه، وخاصة في العالم الإسلامي الذي لا ينقصه سوى تطبيق المناهج الكفيلة بإخراجه من عالم الانحطاط وتمكينه من الحضارة، وهو أمر ليس بعسير على إنسان بين يديه كافة شروط التحضر. فهو منهج في الإصلاح يستند إلى رؤية فلسفية إلى الإنسان والحضارة والتاريخ، وإلى فكر اجتمعت فيه الأصالة مع التجديد، فكان مشروع خطة للنهضة وللصحوة وللحضارة، ونموذجا من نماذج الفكر الإصلاحي لا يستهان به، بل يقدر حق قدره لِمَا لصاحبه من نظرة ثاقبة وقدرة على الطرح والتحليل والنقد والاستنتاج، ولما لهذا المنهج من تكامل بين عناصره، ومن انسجام مع ما تقتضيه مستلزمات البناء التاريخي والنهضة الحضارية.
    لقد تبيّن لي وبوضوح من قراءتي لبعض الجوانب الهامة في فلسفة الحضارة والتاريخ عند "مالك بن نبي"، أن ما يجمع بين لمحاولته ومحاولات غيره من مفكري الإسلام في العصر الحديث والمعاصر الكثير، ويتعلق الأمر بالظروف التاريخية الزمنية والمكانية التي الواحدة والمتشابهة، والتي فيها نبتت فكرة الإصلاح عندهم، فهي واحدة تماما، حيث الإسلام والاستعمار والتخلف في العالم الإسلامي من جهة والحضارة والعلم والتكنولوجيا في أوربا الحديثة والمعاصرة من جهة أخرى، هذا الذي شكل روافد و مصادر الفكر الإصلاحي في عصرنا، وأوجد وحدة في المبادئ والأهداف والتطلعات، والاختلاف بين المحاولات ليس في الجوهر أو في الأساس أو في الهدف، بل في بعض الجوانب التي تخص طبيعة البحث والدراسة وطبيعة الإصلاح ومنهجه، ونوع المحاولة وخصوصياتها.
    فالبحث عند "مالك بن نبي" جاء ذا طابع علمي واقعي، وجاء الإصلاح بطابع اجتماعي علمي واقعي تاريخي، وجاء منهج البحث يقوم على التغيير في الفرد والمجتمع، وعلى القضاء على أسباب التخلف والأخذ بأسباب الحضارة كما هي في نظرية الحضارة، كما يقوم على التوجيه الديني والأخلاقي والعملي مع الاستفادة من خبرات وتجارب الآخرين العلمية والحضارية، ولم تكن المحاولة خاصة أو موجهة لفئة بعينها بل جاءت عامة تشمل العالم المتخلف والعالم العربي والإسلامي جزء منه لكونها مشروع تحرر واستقلال وإصلاح ونهضة وتحضر، وهو مشروع يعني أي عالم متخلف يحتاج إلى الخروج من التخلف وأي أمة تسعى نحو الريادة.
    جاءت فكرة التجديد الإصلاح في المشروع نتيجة واقع المسلمين المتردي، وتُشكّل محاولة فكرية لتغيير النفس والفكر والواقع في العالم الإسلامي، تميزت بالقوة لارتباطها بالإسلام وبالعلوم المزدهرة وبالفكر الإسلامي، وتشكل رؤية فلسفية إلى الإنسان والحياة والتاريخ والحضارة، وتمثل مشروع خطة ذات طابع فكري نظري، للنهضة وللتجديد ولبناء الحضارة، وللدخول إلى التاريخ، وإلى حلبة المعترك الحضاري، واحتلال أمة الإسلام لمكانتها اللائقة بها في إطار الحوار والتواصل الندّي الحضاريين.
    إذا كان الفكر الإصلاحي عند مالك تميز بالقوة والمتانة نظرا لصلته المباشرة بواقع وحياة المسلمين في العالم الإسلامي المعاصر، ولتعبيره عن مشاكلهم وهمومهم، وعن آمالهم وتطلعاتهم، وبلوغه مستوى رفيع من الحقيقة في مناهجه وأساليبه لأنه أخذ بالدين والعلم وبالتاريخ، واستطاع أن يكفل التوازن بين طرفي الكمال، الروح والمادة، الدين والدولة، الدنيا والآخرة، فما أحوج العالم الإسلامي المعاصر إلى المشروع للتجديد ولبلوغ السمو الروحي والأخلاقي، ولبناء حضارة تلد منتجاتها الفكرية والمادية، ولضمان التوازن بين المثال والواقع، بين الروح والمادة، وبين الدين والدولة، ذلك هو عين التحضر وقمّته، وهو مبتغي الإسلام ومقصده، فالحضارة هي التمكين لقيّم ومبـادئ الإسلام على أرض الله.


  2. #2
    مـشـرفة منتدى التطوير الذاتي والإنماء المهني الصورة الرمزية سميرة رعبوب
    تاريخ التسجيل
    13/05/2011
    المشاركات
    7,487
    معدل تقييم المستوى
    21

    افتراضي رد: مكانة مالك بن نبي في الحركة الإصلاحية في العالم الإسلامي المعاصر

    الله يعطيك العافية ويبارك فيك

    رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •