تعريب العلوم الطبية
Arabization of medical sciences
كل دولة تعتز بلغتها القومية ، فهي دليل استقلالها ومصدر من مصادر عزتها وكرامتها الوطنية ، والأمة العربية تتميز بلغتها العربية لغة القرآن الكريم .
وكل دولة صغرت أو كبرت حريصة على التدريس بلغتها في جميع المجالات الأدبية والعلمية ، وتدريس العلوم باللغة العربية واجب قومي خصوصا أن إيصال أي معلومة بلغة أي دولة يكون أسهل لمواطنيها .
لذلك نجد أن معظم دول العالم المتقدم تجعل اللغة الوطنية هي لغة التعليم ومثال ذلك اليابان , والصين , وفرنسا ، وألمانيا ، وروسيا ..... ، حتى إسرائيل التي تضم شتات من البشر جلبتهم من دول العالم مختلفي اللغات ، ومع ذلك أحيوا اللغة العبرية وجعلوها لغة التعليم .
كما أن هذه الدول لا تسمح لأبنائها بأن تنطق ألسنتهم بغير لغاتها ، لذلك نجد الفرد العادي يباهي بلغته الأم بالرغم من معرفته لغات أخرى .
ومن الغريب أن اليابانيون أوفدوا إلى مصر في القرن الماضي بعثة مكثت فيها أسابيع درست خلالها تجربة محمد علي ثم عادت لتطبيقها في اليابان ، وكما فعل محمد علي ، أوفد اليابانيون طلابا إلى أوربا ، وعادوا لبلادهم ، فعلموا ما تعلموه باللغة اليابانية .
وليس معنى الاهتمام باللغة القومية أن نهمل اللغات الأجنبية ، فمعرفتها ضرورة وواجب للإطلاع على علوم الآخرين فنستفيد منها ونفيد .
صرخة للحفاظ على لغة القرآن والاهتمام بها ، لكي نعود إلى الأصل إلى عصر النهضة عندما كنا ندرس كل العلوم باللغة العربية .
لقد بدأ تدريس الطب باللغة العربية في مصر عام 1827 م ، مع تأسيس محمد علي أول مدرسة للطب الحديث في أبي زعبل واستمر لمدة 70 سنة.
وكان أول ناظر لها الطبيب الفرنسي العالم انطوان كلوت الذي اشتهر بـ "كلوت بك" ، الذي كان رأيه أن يكون التدريس باللغة العربية ، لأن التعليم بلغة أجنبية لا نحصل فيه على الفائدة المنشودة ، ولا ينتج عنه توطين للعلم أو تعميم نفعه ، ولذلك أتقن اللغة العربية وعلم بها ، وأخلص للبلد الذي كان به حفيا قرابة سبعين سنة .
وبعد عشر سنوات نقلت مدرسة الطب المصرية إلى قصر العيني ، وأصبح عدد طلابها 500 طالبا ، وقد قام الأساتذة المصريون الرواد بترجمة معجم فرنسي في المصطلحات الطبية إلى العربية ، يعاونهم عدد من المصححين المتعمقين في العربية واستخرجوا من " القاموس المحيط " كل ما يدل على مرض أو نبات أو حيوان أو معدن ، وادخلوا من ذلك طائفة من المصطلحات في المعجم .
وكلف عدد من المصححين مثل محمد بن عمر التونسي باستخراج ما في قانون " ابن سينا " وتذكرة داوود الأنطاكي من التعريفات وضم ذلك إلى المعجم . كما تم وضع معاجم مختلفة عربية فرنسية في سنة 1842 م لإسكندر نعمة , وإنجليزي عربي لخليل خير الله ، ورافق ذلك حركة ترجمة وتأليف إلى العربية .
وبلغ عدد خريجي مدرسة الطب في عهد محمد علي ألفا وخمسمائة طبيب ، أما الكتب الطبية المترجمة إلى العربية فقد بلغت ستة وثمانين كتابا اشتملت على ألوف المصطلحات ، ومن أهم هذه الكتب كتاب القول الصريح في علم التشريح الذي وضع للتدريس عام 1834 م وكتاب المنحة في سياسة حفظ الصحة 1834 م ، و طبعت بمطبعة بولاق بمعدل ألف نسخة من كل كتاب ، وأرسل الكثير منها إلى اسطنبول والجزائر وتونس ومراكش والشام وفارس .
وللأسف بعد تولي عباس أصيبت مدرسة الطب بنكسة وكذلك في عهد سعيد بسبب تدخل القناصل الأجانب للقضاء على هذه المدرسة .
ثم عاد للمدرسة مجدها في عهد إسماعيل ، وتولى رئاستها د. محمد علي البقلي باشا بين عام 1873 م وعام 1879 م ، حيث أصبح التعليم كله بالعربية والأساتذة عدا واحد مصريين .
وأنشئت أول مجلة طبية شهرية باللغة العربية ، و هي تعتبر أول مجلة باللغة العربية على الإطلاق ، وطبعت بمطبعة بولاق الأميرية وكان اسمها " اليعسوب " أي ملكة النحل" ، واستمرت ما بين 1865 م و1879 م وكان شعارها :
" يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ" ، ومجلة المنتخب عام 1881 م وصحيفة شهرية باسم الشفاء عام 1886 م .
ثم جاء الاحتلال الإنجليزي لمصر سنة 1882 م , وما لبثوا في عام 1887 م أن حولوا لغة التعليم إلى الإنجليزية ، وجعلوها بإشراف مدير إنجليزي .
وفي بيروت بدأ تدريس الطب بالجامعة الأمريكية مابين عام 1867 م وعام 1887 م لمدة 15 سنة ، ورافق ذلك إصدار مؤلفات مختلفة مثل النصائح الموافقة في سن المراهقة ، و المبادئ الصحية للأحداث ، وأضرار المسكرات للدكتور اسكندر البارودي, وفي عام 1878 م صدرت مجلة الطبيب للدكتور جورج يوسف .
وقد ساعدت هذه المجلات والمؤلفات الأطباء ، بحيث فسحت لهم مجالا لنشر خبراتهم الطبية والإطلاع على كل جديد ، مما يدل على أن اللغة العربية سايرت التطور العلمي والتقني واستوعبت كل جديد ، ولكن الاستعمار أجهض هذه التجربة الناجحة ، لأنه يعرف أثر التعليم باللغة الوطنية .
وكانت التجربة الثالثة افتتاح المدرسة الطبية الملكية العثمانية في دمشق عام 1903 م ، وكان التدريس باللغة التركية ، وفشلت محاولات استبدالها بالفرنسية .
وفي 12 يناير (كانون الثاني) عام 1919 م أنشئ المعهد الطبي العربي خلفا للمدرسة الطبية العثمانية ، وكان التدريس باللغة العربية بفضل الرواد الأساتذة الأطباء منهم د. مرشد خاطر , و د. أحمد حمدي الخياط , ود. حسني سبح ، و د. أحمد شوكت الشطي ، ود. جميل الخاني ، د. حنا سعيد .....وغيرهم من الذين وضعوا المصطلحات العربية المقابلة للأجنبية .
كما ألفوا الكثير من الكتب والمقالات ، وكان أهم إصدار هو معجم العلوم الطبية للدكتور مرشد خاطر والدكتور أحمد حمدي الخياط ،ودكتور محمد صلاح الدين الكواكبي طيب الله ثراهم ، وللعلم فإن الدكتور أحمد حمدي الخياط هو والد العالم الجليل أ.د/ محمد هيثم الخياط كبير مستشاري المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية – شرق المتوسط ومدير البرنامج العربي .
وفي عام 1924 م أصدروا مجلة باسم المعهد الطبي العربي برئاسة تحرير الدكتور مرشد خاطر يشارك فيها أطباء ولغويون من مختلف الأقطار العربية .
استمرت المسيرة 86 سنة في سوريا العربية ، صامدة أمام كل الظروف وفي كل مراحل التدريس ، وفي كل الاختصاصات في المعهد الطبي العربي في دمشق ، الذي أصبح كلية الطب بالجامعة السورية التي أصبحت جامعة دمشق فيما بعد ، ويمتد التدريس باللغة العربية في سوريا العربية ليشمل كل الجامعات السورية , ولا يعني التدريس باللغة العربية إهمال اللغات الأجنبية التي تمكنهم من الانفتاح على علوم الآخرين .
ولا زالت سوريا العروبة تواصل مسيرة التدريس باللغة العربية ، وقاها الله شر الأعداء والمتربصين .
وامتدت مسيرة تعريب التعليم الطبي ، فقد ألف " اتحاد الأطباء العرب " سنة 1966م لجنة لتوحيد المصطلحات الطبية التي أصدرت المعجم الطبي الموحد في طبعته الأولى عام 1973 م ثم أصدرت ثلاث طبعات من هذا المعجم ، وصدرت آخر طبعه منه في عام 1983 م .
وأنشئ بالمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية " لجنة العمل الخاصة بالمصطلحات الطبية " التي واصلت تطوير المعجم الطبي الموحد واستغرق هذا العمل سنين وجهود علماء أفاضل ، وأصدرت نسخة الكترونية وتبعها إصدار النسخة الورقية .
وهذا العمل يعتبر أضخم عمل موسوعي تم في سبيل توحيد المصطلح الطبي ، لا يستطيع أن يقـوم به إلا المكتب الإقليمي ، وذلك بفضـل أستـاذنا العـالم القـدير
أ. د/ محمد هيثم الخياط رائد التعريب في عالمنا العربي ومدير البرنامج العربي وكبير مستشاري المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية – شرق المتوسط ، والعالم الفاضل أ. د/ قاسم سارة العمود الفقري للتعريب والمستشار الإقليمي للإعلام الصحي والطبي بالمنظمة ، بالإضافة إلى الكوكبة اللامعة من علمائنا الأفاضل في عالمنا العربي الذين أسهموا في تطوير المعجم الطبي الموحد .
في الختام ادعوا الله أن نرى اليوم الذي ندرس به الطب والعلوم في عالمنا العربي بلغتنا الأم ، اللغة العربية لغة القرآن الكريم .
ماهر محمدي يس
خبير تقني الأشعة والتصوير الطبي
عضو شبكة تعريب العلوم الصحية
منظمة الصحة العالمية – شرق المتوسط
المفضلات